الأحد ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم محمد ملوك

وْجـــــوهْ المْحــَــــاكــَّـــــــــــة

جرس الساعة يرن، منبه الهاتف يرن، زوجته هي الأخرى ترن، الكل يرن في تلك الساعة المبكرة من ذلك اليوم الربيعي الجميل، والكل عازم على إيقاظه من نومه العميق، فالوعد الذي قطعه على نفسه وأسكتهم به يجب أن ينـفـَّـذ وإلا فبركان الصمت سيقذفه بحمم اللوم وشظايا العتاب.

كان قد وعدهم بتخصيص أيام عطلته القصيرة لهم وحدهم دون غيرهم، فسطر لأجل ذلك برنامجا حافلا بالأنشطة المتنوعة واختار رفقة زوجته الفتية أماكن خاصة لقضاء أول فسحة لهما بمعية أسرته الصغيرة بعد أربع سنوات مرت على زواجهما.

أمه العجوز المتقوسة الظهر، وإخوته السبعة، وابنته الوحيدة، كل غنى على حسب هواه، وكل اقترح على مقربة منه ما بدى له أمرا مناسبا لتكسير أجواء الحزن والكآبة التي خيمت على منزلهم المهترئ الجدران منذ أن قضى الأب نحبه في حادث سير مريع.

يسكت الساعة بيده اليمنى، ويلغي ضبط منبه الهاتف باليسرى، ويأمر زوجته بالصمت لنصف ساعة فقط، ترفض الأمر وتعلن عن عصيان نسوي، يتأفف بعمق، ترد عليه بسحب الغطاء من فوقه، فيجلس القرفصاء بعينين ناعستين ومليئتين بعمش أضحى ملازما لهما منذ بدأ العمل كــ”كـُـورْتِي”في موقف سيارات الأجرة بباب شالة.

يحدق في رجليه المتورمتين وفي الحناء الذي يرصع أسفل قدميه، فيلعن اليوم الذي تعرف فيه على”وجوهْ الْـمْــحـَاكـَّـة”بمدينة الرباط...

يحدق ويتأمل ويرجع بالذكريات إلى الوراء فيتذكر كيف كان مناضلا يقيم الدنيا ولا يقعدها بساحات جامعة محمد الخامس، نضال فرض عليه أن يتذوق ما لا يستلذ ولا يستطاب من العصي المخزنية المنجورة واللامنجورة،... يتذكر كيف طرده أبوه من المنزل مباشرة بعد رجوعه من مخفر شرطة احتجز فيه رفقة المجرمين لأسبوعين كاملين نتيجة خوضه لإعتصام مفتوح داخل كلية الآداب لإجبار عميدها المتعنت على الحوار معه حول المشاكل الطلابية، ويتذكر كيف سعت أمه لإبعاده عن السياسة وما جاورها عبر تخييرها له بين سخطها ورضاها، وكيف كُسِّرت رجلاه في وقفة إحتجاجية، وكيف رفضت إدارة المستشفى استقباله وهو في غيبوبة تامة بعد تلقيها بصدر رحب أوامر مدير الأمن الإقليمي هناك، وكيف أصبح عاملا في مجال البناء يحمل على كتفيه أكياسا ثقيلة بالرمل والحجارة و”الكياص”عقب تخرجه وحصوله على الإجازة بميزة حسنة جدا.

يقطع حبل الذكريات بيديه الخشنتين، وينظر في الأصابع التي أمره الطبيب بإبعادها عن رائحة الإسمنت إن هو أراد شفاءها من داء”الكزيما”فيترحم على حرفة ترابها لا يعمي ونقودها لا تغني ويلعن اليوم الذي التقى فيه بـــ”وجوهْ المْحاكــَّة”.

يستلقي على ظهره ويحاول جر الغطاء نحوه من جديد فتصارعه زوجته من أجل ذلك مصراعة المدرب اللطيف وتتوسله أن يلعن الشيطان وينسى عياءه وخموله ولو ليوم واحد، وتقبله قبلة فقبلتين يحاول معهما أن يشتم عبير شفتيها كما كان يفعل أيام الخطوبة فيتذكر أنه مزكوم منذ أول لقاء له مع”وجوه المحاكة”.

“وجوه المحاكة”ألا لعنة الله عليهم في كل زمان ومكان... حتى فحولتي صاروا يجردونني منها... ها نحن قد قاربنا الشهرين ولا من جماع يذكر... حتى عصير”الأفوكا”لم يعد يجدي نفعا معي... كل يوم عياء وتعب، نكد في نكد، وكل يوم يمر وينقضي والجسد القوي ينهك، والشاب الطري يشيخ، واللياقة تضعف، والقوة الجنسية تفتر...

إيه وآه وأوه من حروف الأسى = والضعف والعجز في الأعماق قد عرَسا
والله لولا عيال رضع، وإخوان”رتع”، وأم للخلق والخالق تركع، ما عدت لهذا الشغل أبدا....

تبتسم زوجته لكلامه ابتسامة المتفهم الحنون، وترد عليه في أدب أصيل:

الرجل بلا عمل كالنحل بلا عسل، وأنت تعلم أكثر من غيرك أننا في زمن الجمر والنار، زمن لا يرحم أولي الوظائف الكبرى، فمابالك بمن لا يشتغل أصلا، أو بمن تسول له نفسه الإنقطاع عن عمل يتمناه الغير ولا يجده...
تعقل يا عبد الله ولا تكن ممن يأكلون الغلة ويسبون الملة....

أصغى بتضجر لنصيحتها وحاول لملمة قواه الجسدية، فباءت محاولاته بالفشل الذريع، واستسلم مرغما لنزوة من الذكريات والأحلام التي لطالما نسجت في أعماق جمجمته الشبيهة بخريطة جغرافية.

كان يحلم بمستقبل يكون فيه مدرسا”قد الدنيا”يعلم الطلبة ما معنى حب الله والوطن ويربيهم على الشهامة والشجاعة والمروءة ومكارم الأخلاق، فكان كلما وضع رأسه على وسادة ما يصحح للطلبة أخطاءهم، ويسألهم إن حفظوا درسه عن ظهر غيب، ويسائلهم بشرح ما فهموه عنه، ويعيد على مسامعهم قصائد الماضي وأخبار الحاضر وينير طريقهم نحو المستقبل بطريقة تنم عن وعي لا مسبوق في تاريخ المدرسين المغاربة والعرب. لكنه اليوم ما إن يضع رأسه على الوسادة المتسخة بلعابه في غرفة النوم حتى ينادي بأعلى صوته:

“بَّا الحسن”،”قريدة”،”18”،”حسن المشاكل”،”الدمدومة”،”152”،”الغرنوك”،”1215"،”وقف نتا”،”باقا نوبتك آآكحل الراس”،”وا الشـْـيافرْ راه واحد الشـْفـَّار بغا يسرق النوبة”،”واش ما كاينش شي راجل فيكم اللي وقفوا عندْ حْدّو”،”وإلى كنت راجل ومزغرتة عليك أمك خرجْ معايا ذراع أو حيد المْـضَـا”،”آرا الدرهم نتا”،”آرا بلاصة للتقدم بلاصة بلاصة”...

كانت محطة باب شالة بالرباط مقر عمله اليومي، وكانت هذه المحطة تنقسم إلى عدة محطات تقف بساحاتها سيارات الأجرة الوافدة من مدينة سلا ومن باقي أحياء العاصمة، وكان هو يشتغل في محطة التقدم \ اليوسفية وهي أخطر المحطات على الإطلاق بمدينة الرباط، فسائقو هذه المحطة نادرا ما تجد بينهم مثقفا يعي ماذي تعنيه كلمة التنظيم وحروف الإحترام، وزبناؤها يتوزعون حسب طبيعة أشغالهم اليومية، فالتجار يذهبون إلى حي اليوسفية المحتضن لسوق”القريعة”، ورجال الدرك الملكي وثلة من الموظفين والمياومين يقصدون سيارات الأجرة المتوجهة نحو المقاطعة الحضرية الثالتة عشر، و”المقرقبون”و”الشماكرية”وقطاع الطرق يستقلون طاكسيات”ميني بارك”للوصول بأقصى سرعة ممكنة إلى ضواحي قرية”عكراش”حيث تجار الخمرة والحشيش وباقي أنواع المخدرات لهم الكلمة الكبرى هناك....

كانت مهمته تتلخص في الحفاظ على نظام المحطة، وفك الصراعات الناشبة بين سائقيها، وتخليصها من اللصوص، سواء لصوص الجوار الذين بات يعرفهم من سيماهم، والذين حصلوا على الدكتوراه في تقطيع الجيوب بطريقة لا يقدر إبليس على حفظ قواعدها، أو لصوص المحطة المتيمين بالفوضى والمغرمين بسرقة”النوبة”للغير.

السيارات تصطف يمينا وشمالا، وفي مدخل المحطة يوجد رجلان يسجلان على أنقاض أوراق قدت جوانبها من علب السجائر الفارغة أرقام سيارات الأجرة الوالجة إلى المحطة، وفي منتصف شريط مليئ بسيارات المرسيدس القديمة والحديثة، وتحت شمس محرقة بالصيف، وغيوم ممطرة بالشتاء، يقف هو مناديا بما لصوته من قوة على كل من وصله الدور لحمل الركاب نحو وجهتهم المطلوبة.

من السادسة صباحا وإلى حدود السابعة مساء ينبح عليهم كما ينبح الكلب على الغريب، ومع مرور كل سائق بسيارته من أمامه يأخد منه درهما مقابل نباحه عليه وتمكينه من دوره على وجه التمام والكمال.

يتذكر أول يوم وطأت فيه قدماه أرض المحطة، خمسة شبان غلاظ شداد حاولوا أنذاك تهشيم عظام جسمه النحيل باعتباره دخيلا يريد قطع أرزاقهم وأرزاق عيالهم، تدخل أمين الحرفة وحذرهم من مغبة التعرض له بسوء، وهددهم بالطرد إن هم تربصوا به الدوائر، ونصحهم بالتعاون معه وعدم الإستهانة بقدراته الجسدية مادامت البعوضة تدمي مقلة الأسد وماداموا هم غير قادرين على ضبط نظام المحطة ولا آبهين بثقل المسؤولية الملقاة على أعناقهم.

توجسوا منه خيفة بادئ الأمر، إلا أن شطارته وحنكته في العمل وصرامته أمام اللصوص وذكاءه وغير ذلك فرض عليهم أن يجلوه ويوقروه ويستشيروه في الصغيرة والكبيرة.

تنظمت المحطة بفضله، وعلم السائقون بمستواه الدراسي فسألوه عن الحلال والحرام وباقي الأحكام، واستفسروه عن أفضل الوسائل وأسهلها لجلب محبة النساء، وعن أنسب الطرق لمضاجعتهن، وعن كيفية التعامل مع الحساب المانع للحمل، وعن رأيه في خطابات الملك وقرارات الوزراء، وضحايا”النجاة”، وأخبار سنوات الرصاص، وعن وجهة نظره في صراعات فتح وحماس، ومقتل صدام، وأسلحة إيران وووو، فكان يجيبهم بما يعلم فيما يعلم، وبـ << قل رب زدني علما >> فيما لا يعلم....، وتوفي أبوه على حين غرة من الدهر فوجد نفسه الوريث الوحيد لهموم ومشاكل أسرة تسودها البطالة من أخمص قدميها إلى أعلى أذنيها، ودخل في”جرجرة”المحاكم مع شركة التأمين بغية استخلاص دية أب عاش عيشة الذباب ومات ميتة البغال، ليخسر على طاولات المحاكم ومكاتب المحامين ومقاهي القضاة أكثر من ثلتي ما منحته له الشركة التأمينية.

يستيقظ من نزوة أحلامه وذكرياته على وقع أصوات زوجته وأمه وإخوته، فيلعن الدهر والمحاكم والدراسة والأحلام والمحطة و”وجوه المحاكة”، الكل يطالبه بتغيير ملابس النوم والإستعداد لتطبيق خطط إجازته القصيرة على أرض الواقع، يستجيب لهم على مضض، وينهض من فراشه تاركا خياله الواسع على وسادة الغرفة الضيقة، يدخل إلى مرحاض تنبعث منه رائحة تختنق من سحرها الأنفاس، يتوضأ، و يزيل بقايا بول تساقطت قطراته على سروال قديم، يسمع رنين الهاتف، تحمله له زوجته على جناح السرعة، يرد على المكالمة فتتغير ملامحه وتتزين بــ”عبس وتولى”.

تسأله الزوجة عن المتصل من يكون، فيرد عليها بتحسر شديد:

ــ إنه لحية الشيطان

:”صباح الله ما صباحو”، ما عساه يريد منك في هذا الصباح الباكر ؟؟؟

ـــ يقول إن باب شالة مقلوبة رأسا على عقب، وإنه علي التوجه دون تأخير لإعادة النظام إليها.
: قل له أنك في إجازة، أولا يعلم ذلك، بالله عليك أرفض أمره

ــ لا لا لا أستطيع، إن عصيت أمره فلن تجدي ما به تذهبين إلى الحمام يوم غد، إنه الأمين يا زوجتي، هو من استخذمني هناك، وهو من طرد من قبلي في المهنة لمجرد أنه قال له لا في يوم من الأيام.

: أعلم أنه الأمين ولأنه الأمين فهو من يجب أن يضبط النظام لا أنت !!!

ــ إنه أمين على مصلحته وجيبه فقط.

....... تدمع عيناها، وتأبى تجهيز مائدة الإفطار، يتشاجر معها، يغلق باب الدار من خلفه، يصل إلى المحطة، يتصارع مع هذا، ويسب ذاك، ويلعن أم سائق لا يحب الإنضباط، ورويدا رويدا يعود الهدوء للمحطة وتشيع الطمأنينة والسكينة، وعلى الساعة السابعة مساء يقتسم حصة يومه مع باقي”الكورتية”، ثم يقف مع طابور المصطفين المنتظرين لسيارة أجرة تقلهم نحو حي التقدم ولسانه يردد في خلوة مع النفس:

كالكلب اللقيط أُمسي...
 
من الشغل الذي أَشتَغِلْ
 
أنسى جراحي و كل جرح بَعْدُ...
 
لم يَنْدَمِلْ
أسائل نفساً للبؤس و المرارة...
والحرمان... تَعْتَقِلْ
متى يا نَفْسُ نََـفـْسِـي...من دنيا الكآبة
سَتَنْتَقِلْ؟؟؟
متى يا نفس أو متى يا حَبْسُ
نَفْسِي عَنْ حَبْسِ نَفْـسِي
بَين الفأْسِ والبأْسِ
بين الفقر والقهر
و البؤْس...
ستقوم وتَرْتَحِلْ ؟؟؟

 [1]


[1ـــ الكـُـورْتِي: لقب يطلق في المغرب على الشخص المكلف بتسجيل أرقام سيارات الأجرة الوالجة إلى محطة ما، والكلمة تطلق في الفرنسية على السمسار، وأغلب”الكورتية”بالمغرب هم بطبيعة الحرفة سماسرة يسمسرون في قطاع سيارات الأجرة بمختلف أنواعها.

ــ الشيافر: السائقون
ــ الشفار: اللص
ـــ المقرقبون: المدمنون على حبوب الهلوسة
ــــ الشماكرية: صنف من أصناف المساطيل بالمغرب
ـــ النوبة: الدور
ــ باب شالة: محطة مشهورة بمدينة الرباط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى