السبت ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم علاء الدين حسو

ذلك الرنين.. تلك الرائحة

نفسي لا تصدق ما فعلته..رجل في الخامسة والخمسين..يركض خلف وهم - فتاة في العشرين-..؟كما يقول المثل"بعد الكبرة جبة حمرا".

مشكلتي بدأت قبل شهر..كنت جالسا في دكان.. لبيع أجهزة الهاتف.صاحبه صديق قديم. قلب ابنه المحل من صيانة وبيع الساعات اليدوية لبيع وشراء أجهزة الهاتف وملحقاته..وكنا منشغلين بأخبار صديق لنا أصبح من أصحاب الملايين، في عام زاد فيه الطلب على أجهزة استقبال المحطات الفضائية، وقد تحول إليها بعد انخفاض الطلب على صيانة المحركات الكهربائية..عندما بترت فتاة حديثنا لحظة دخولها.فراقبناها بذهول..كأننا أمام فيلم رعب يحبس الأنفاس..وحين خرجت، التفت إلينا ابن صديقي الذي باعها هاتفا كأننا زملائه:

  أرأيتم؟..كانت تضع خلخالا في رجلها..!

كأننا لن نسمع ذلك الرنين، الذي قطع علينا الحديث كجرس انتهاء الحصة المدرسية.. كأننا لم نشم الرائحة، وكأننا في مخبر لصناعة العطور..وكأننا لم نلمح، تلك المشية كطاووس في قن دجاج..التفت إلي صديقي مبتسما:

  البطر يا صاحبي..!

حاولنا العودة إلى أخبار صديقنا ولكن الشهية هربت وراء تلك الفتاة البطرانة..

داهمتني جملة من الآلام تلك الليلة..كأنني في حالة احتضار أو كريب حاد من الدرجة الأولى..تسرع في القلب..رجفان في الأطراف..اصطكاك أسنان..برودة شديدة مع ألم حتى من الملابس..فسهرت وسهرت زوجتي معي، التي ألحت علي بالذهاب إلى الطبيب قائلةً:

 كريب الصيف أقوى من كريب الشتاء؟

هبت عليّ، نسمة أنعشت روحي..وكدت اصرخ :

 عرفتها -وحقّ الله- عرفتها..

كان ذلك بعد أسبوعين، وكدت أنسى لولا دخولي الصيدلية لشراء مرهم تحسس من أشعة الشمس لابنتي وصفها الطبيب.. تفحصت الصيدلية.. فلم أجد سوى صاحب الصيدلية، وشاب يعمل لديه. انتشل الوصفة مني.. وبدأ يقرأها. فأدركت من طريقة قرأته بأنه يتعلم أصول المصلحة.كمهنة عبر الممارسة..مثلما أسرَّ لي صديق.فتح لابنه مخبراً لصناعة الأسنان، وقد استأجر شهادة له..

راجع الشاب معلمه عن شيء في الوصفة. لبس الصيدلي نظارته،وقرأ الوصفة وأشار للشاب مكان علبة الدواء،وعاد يتابع مايشاهده في التلفاز مبتسما معلقا:

  يبدو أن الرائحة (سطلتك)..

والتفتت إلي وتابع حديث:

  البطر يا أخي... تخيل فتاة تدخل عليك كأنها استحمّتْ في برميل من العطر..ولم تجد للذهب مكاناً أنسب من رجلها..تفحص وجهي لبرهة ثم عاد إلى متابعة التلفاز..

للمرة الثالثة ذهلتُ.. كان ذلك قبل أسبوع..عندما اقتحم مقر عملي زميل لي وقد شكل وجه لوحة سريالية تلمع الشمس من عينيه والضباب يغطي انفه:

  شيء لا يصدق يا أستاذ أمجد..
  خير إنشاء الله..؟!

تصور..رأيت لتوي فتاة تضع خلخالا في رجلها.. فأحسست بمغص.فتحت درج مكتبي وتناولت قرصاً مسكناً..كأنني لتوي سمعت الرنين وشممت الرائحة.

  بابا..أمي بدأت تغار عليك..

صعقت، وكأن ابنتي اكتشفت مايشغلني :

  عليّ.! ممنْ..؟

  من الأزهار التي أصبحت تحبها..

أحسست بخجل عارم، كطفل خاف من اكتشاف ذنب ارتكبه ولم يره أحد..وتذكرت بأني أطيل المكوث بين شجرة الياسمين وأزهار الفل والقرنفل..أنّبتُ نفسي كثيرا، وبختها، أمرتها العودة إلى رشدها، وارتسمت ابتسامة على وجهي من العبث الحصول على تركيب مماثل لعطرها..وانقلبت الابتسامة إلى ضحكة مجلجلة عندما تذكرت ليلة البارحة لما هتفت زوجتي:

  أنا أحلم.أول مرة تشتري لي فيها عطرا..

البارحة، أول مرة ادخل فيها إلى متجر للعطور. وبخجل، وحرج شديد،سألت البائع عن عطر لا اعرف اسمه، ولكني أميز رائحته..فشممت عدة أنواع فسكرت، ولم أعد أميز بينها،واشتريت صنفين وانصرفت..وقبل أن أترك المتجر سمعت البائع يحدث نفسه:

  غريبة أطوار الناس، مالهم يطلبون عطراً لا يعرفون اسمه..؟!
قاطعته :
  وهل غيري طلب...
  نعم..عذرا يا أستاذ خاصة من فترة أسبوعين..
  وهل مرت من هنا؟
  من؟!..
 صاحبةُ العطر...

تركته والدهشة تفوح في دكانه...وعدت إلى منزلي لأجد نفسي أقدم ما بيدي لزوجي..

أيقظني جرس البيت من شرودي... وعتابي لنفسي الذي لا يصدق ما فعلته..رجل في الخامسة والخمسين..يركض خلف وهم - فتاة في العشرين-..؟

فقلت في سري:

  حتى جرس البيت صار متعة...

كنت أصغي لرنة الجرس. أحاول إن أشبه برنة الخلخال. عندما نادني صوت نبهي إلى دهشة ابنتي وهي تتفحص وجهي:

  بابا بدي خلخال..

كانت كلمة خلخال كصاعق.فجر غضبي، وأحسست نظراتها سيوف مصارع ثيران تغرس في ظهري، فرأيت الدنيا كلها حمراء.. رفست الطاولة التي كنت اجلس خلفها، وكسرت أحواض الزرع.. وأسرعت نحو جرس البيت..قفزت فوق الكرسي...كأنه خصص لهذه اللحظة ورحت أضرب بكلتا يدي جرس المنزل فتلقيت هزة غريبة قذفتني بعيداً، فرأيت الدنيا قد تحولت إلى سواد شديد.

عندما استيقظت، وجدت ابنتي تمسح آثار الدموع من عينيها قائلة:

  الحمد لله على سلامتك كادت الكهرباء تقتلك..!

فابتسمت وابتسمت زوجتي.. والتفتت نحو صغيري وناديته وكان يلعب بشيء ما قذفه في الهواء وهرول إلى حضني.عندها سمعت رنينا عذبا كان ينبعث من قطعة النقود التي سقطت لتوها على الأرض..ضممت طفلي وإذناي تصغيان إلى الرنين الذي تلاشى وهبت رائحة احبها من ايام والدتي..رائحة البخور فوق رأسي تطرد الحسد والعين والأذى...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى