السبت ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم سمية البوغافرية

أنا المبدع المرموق... !

صوت عجلات تنخر الأرض.. رهف الطبيب السمع فابتسم وردد عبارته المألوفة:" من يفتح بابه لمرضى النفس فليتوقع كل شيء"، ثم عكف يقرأ جريدته اليومية... اهتز باب العيادة.. اهتز قلب الطبيب وتطايرت الجريدة من يده. بيدين مرتعشتين لم جريدته، ركب نظارته ومضى مبتسما ليستقبل زائره.. زائر وما أدراك ما زائر هذا الصباح.. العجلة تعنونه.. عجلة طاغية على أفعاله وأقواله.. كأنه يرغب في إدراك أمر مهم وموعد الرحيل الأبدي يطرق بابه ولا يمهله إلا دقائق معدودة.. وهو قد نسى أن التاريخ يشهد بأن أمثاله يخاصمهم الموعد الأخير ولا يطرق بابهم حتى تعفهم الأرض وأهل الأرض... أشار عليه الطبيب بأن يجلس على الكرسي بجانب مكتبه لكن زائره الذي لا يحرص على شيء مثل الوقت أحرق، كعادته دائما، المراحل فمضى إلى السرير وهو يجر وراءه حقيبته السوداء المزررة بكل أشكال الأقفال.. حاول أن يقتلع حقيبته، لكن طاقته لم تسعفه فراجع الأقفال واحدا واحدا ثم لف يده بحزام الحقيبة ونط على السرير وتهالك.

سأله الطبيب مبتسما وهو يشير إلى الحقيبة:
 هل أنت مسافر اليوم؟
 أول يوم أقبل فيه على السفر يا دكتور
 هذا ما قرأته.. وإلى أين أنت مسافر إن شاء الله؟؟
 لقد سافرت إليك يا دكتور.. لقد نصحني يوما أصدقائي أن أزورك لتنصحني وترشدني.. ولى زمن الأصدقاء ولم يبق اليوم غير الحساد والأعداء وزارعي الألغام ـــــــــ
قاطعه الطبيب قائلا:
 مما تشكو يا..
 مبدع.. اسمي مبدع.. اسم على مسمى
 مما تشكو يا مبدع
انفجر مبدع يبكي:
 أنا متعب يا دكتور... متعب جدا
 كلنا متعبون.. بقليل من الصبر نتغلبــ..
 الصبر؟.. أنا أيوب عصرنا يا دكتور
 ما يتعبك يا مبدع؟..
أشار بسبابته إلى رأسه ثم إلى الحقيبة وقال:
 آه! لو يدرك الناس قيمتها يا دكتور.. سوف... وسوف....
 وهل فيها شيء غير ملابسك
 هذا خطأ يقع فيه الأغبياء حينما يرغبون في السفر. يشحنون الحقائب بالملابس.. زمن الخواء.. كل الاهتمام منصب على المظهر.. أنا مبدع المبدع دائما وأبدا، لا أهتم بالمظهر.. أنا أحيا بالإبداع ولا أهتم بشيء غيره...
أشار مبدع بعينيه إلى حقيبته وأضاف:
 آه، لو يعلم الناس ما في هذه الحقيبة
 وماذا في حقيبتك هذه؟
 قنابل يا دكتور.. فيها قنابل موقوتة ستفجر العالم في ساعات معدودة

اهتز قلب الطبيب وتوارى إلى الخلف تتقاذفه الأمواج.. الإرهاب لعلع.. لعنة العصر حلت.. أحزمة ناسفة.. قنابل بشرية.. اليوم قنابل موقوتة في عيادتي؟؟.. تصفح بقلب مقبوض الصفحة الأولى من جريدته.. تنقل بين صور الإرهابيين المبحوثي عنهم ووجه زائره مبدع المبدع.. تنهد ثم غمغم ملتصقا بالجدار.. وكم من الإرهابيين لم تطلهم أجهزتنا؟.. تذكر ديونه.. الرهن على فلته.. أولاده الثلاث الذين يدرسون في أمريكا.. ماضيه، حاضره، مستقبله.. فغمغم مرعوبا:
كل شيء سينهار لو لم أعرف كيف أنجو من مصيبة يومي هذا..
كل شيء يهون في سبيل إنقاذ الروح والمستقبل..

داس الطبيب على كرامته وكبريائه ونط على يدي زائره يقبلهما وهو يتوسل إليه بأن يفجر قنابله بعيدا عنه وعن عيادته...
ببرود نادر رد مبدع:
 سأنطلق من هنا إن شاء الله بعدما تصف لي الدواء
 لم تكشف لي بعد عن مرضك
 أنا المحارب في صمت.. أنا الشمعة التي تحترق لتضيء العالم.. أنا المبدع.. أنا البديع.. أنا منهك يا دكتور
 هل أنت كاتب؟؟
 أنا الكاتب الذي يهزم ولا ينهزم.. أنا القلم الذي لا يجف.. أنا الكاتب الذي استوطنه الإلهام وتملكه الإبداع.. آه لو يلتفتون إلى ما أكتب
 وهل سبق أن نشرت مؤلفاتك ؟
 النشر هو مكمن دائي.. أنت وضعت يدك على جرحي الغائر
 أتمنى ذلك
- الحساد كثيرون.. وأعلام العمالقة حجبت الشمس واحتكرت الينابيع...قمامتهم لا تنزل إلى الأرض.. الكل يتلهف عليها.. وما هي إلا قمامة رغبت عنها ورغب عنها الزمن.. فتات لا تشبع ولا تغني من جوع.. آه، يا دكتور لو تقرأ ما أكتبه..
 إن شاء الله.. إن شاء الله

نط من فوق السرير وفتح حقيبته المكدسة بمؤلفاته ومضى يفرش بها أرض العيادة والمكتب والكراسي والنوافذ والرفوف وذراعي الطبيب وهو يقول.. هذه مؤلفاتي في السياسة، وهذه في الفلسفة، وهذه رواياتي، وهذه دواويني، وهذه قصص للأطفال، وهذه قصصي القصيرة، وهذه مجموعة قصصي القصيرة جدا جدا جدا جدا، وهذه أبحاثي في الطب، وهذه أبحاثي في التكنولوجيا، و..و.. و... وراح مبدع خارجا يجر وراءه الحقيبة ليفرش الدرج والرصيف والشارع ثم عاد وشرارة الشر تشع من مقلتيه حينما رأى ذراعي الطبيب قد التوت وهوت المؤلفات إلى الأرض وقال للدكتور بنبرة مخيفة:
 أنا مؤلفاتي لا تنزل إلى الأرض.. عليك أن تقرأها كلها
 إن شاء الله، إن شــــــــ
 أنت مثلهم.. لا رجاء من حياتكم.. لقد حفظت عن ظهر قلب أسلوبكم الممقوت.. اليوم تقول إن شاء الله سأقرأها.. وغدا تبصق على وجهي: آسف التزاماتي حالت دون الاطلاع على مؤلفاتك.. كنت مريضا لم أقدر حتى على السعال.. لا مزاج لي كي أقرأ... وبعده تتهرب مني.. قل لي: لماذا هذا العزوف عن القراءة؟.. لماذا تطفئون الأنوار بأيديكم؟.. لماذا تتجاهلون رموز السداد؟.. لماذا تقتلون المبدعين؟.. نحن الماضي والحاضر والمستقبل.. نحن الشهداء..نحن النباريس...

مسح مبدع الرفوف والخزانات من مجلدات الطبيب وراح يفرشها بمؤلفاته ثم اقترب من الطبيب كالثور المهاجم وهو يقول:
 قل لي لماذا لا تقدرون.. لماذا لا تصفقون إلا للتوافه؟.. لماذا تعشقون فقط القمامات؟..

زر الطبيب.. فجاء مساعدوه وحقنوا مبدع المبدع. خارت قوى الثور الهائج وزاغت عيناه وانطفأ فوق السرير.

بعد ساعة استيقظ مبدع يهتف: مؤلفاتي.. كتبي.. أنا كاتبها.. أنا مبدع المبدع
قال له الطبيب:
 كتبك في الحفظ والصون
 هل قرأتها كلها يا دكتور؟
 سأقرأها مع ملايين القراء... النشر لم يعد مشكلة تعرقل إنتاج المبدعين في الوقت الحاضر.. اليوم، تقدر على إيصال فكرتك إلى أبعد نقطة في العالم وأنت جالس على كرسيك
 كيف يا دكتور؟؟.. قال لي أصدقائي زمان أني سأجد عندك الدواء.. لقد صدقوا ويبدو أني أخطأت في حقهم حينما ضربتهم بمؤلفاتي.. لعنة الله على الشيطان وعلى الغضب
 أنشر أعمالك عبرـــــــــ
 رجاء يا دكتور لا تنصحني بدور النشر.. دور النشر كلها محتكرة
 أنشر أعمالك عبر الأنترنت.. ثم بعد ذلك ستسعى دور النشر إلى احتكارك
 آه، لو تعلم كم حساسيتي مفرطة من الأنترنايناينايت هذه.. أنا جيل الدواة والحبر والقلم يا دكتور ولكن أعدك أني سأقاوم حساسيتي وأتصالح مع الأنترنايناينايت.. علي أن أقاوم حساسيتي وأن أصبر.. وهل للمبدع شيء غير الصبر والتضحية؟.. ولكن كيف الدخول إلى هذه الأنترنايناينايت ؟
 أنصحك بأخذ حصة أو حصتين في اليوم تتعلم فيها كيف تدخل إلى الأنترنيت وكيف توصل أعمالك إلى الموقع الذي تراه جديرا بها
 وهل مواقع الأنترنايناينايت كثيرة؟
 أوووه، ما أكثرها ربما تهت فيها وتعسر عليك الانتقاء
 سأنشر فيها كلها وهل هذا ممكن؟
 ممكن جدا
 نورت عقلي يا دكتور الله ينور عقلك. سأنزل اليوم على كرسي معلم الأجيال لأجلس على كرسي المتعلم.. كل شيء يهون في سبيل العلاج.. الدواء مر ولكن المرض أمر منه...

تعلم مبدع النقر على الأزرار والدخول إلى الأنترنت.. تصاحب مع الغوغل واستأنس بالحاسوب وزالت الحساسية بينه وبين الأنترنت في وقت وجيز.. نقر على الغوغل المطيع السريع الذي لا يعصي أمرا ولا يرفض طلبا.. سمعا وطاعة فيما ترغب؟.. أبحث عن مجلات الإبداع.. خرجت "مجلة الإبداع" في أبهى حلتها مبتسمة يانعة يافعة تحضن إليها "المبدعين" وترحب بالقادمين قائلة: الإبداع جنة تتسع للكل.. فخفق قلب مبدع وقال: أنا قادم إليك يا جنة الوجود.. من اليوم لن يشمل حضنك غيري يا "حبيبتي".. ولن ينبض قلبك لأحد سواي.. أنا أكره المزاحمة ويخنقني الازدحام.. سأخلصك يا "جنتي" من كل "المتطفلين".. سأطهرك من هذيانهم.. سأعطيك وحدي الحياة والدفء والنور.. سأكون يومك وغدك..

طلب مبدع من غوغل أن يحضر له مبدعي المجلة .. فانسابت اللائحة بأسمائهم وخيماتهم وصورهم وأعمالهم .. تصفح مبدع أعمالهم.. وما يكاد يقرأ الكلمة الأولى من العنوان حتى ينزل على التعليق ويسجل إمضاءه:.. تافه.. تافه.. تافه... ثم استقام في جلسته واستعد لمعانقة "مجلة الإبداع".. تذكر نصيحة الدكتور بألا يقذف بكل إبداعاته دفعة واحدة.. فقال مبدع في قرارة نفسه: لن أكون ضيفا ثقيلا على حبيبتي "إبداع" من أول ليلة.. نسج في دقائق قصته ـ أنا المبدع المرموق ـ فأرسلها مع صورته إلى حبيبة مستقبله. في ذات المساء نشرت قصته وصورته فطار فرحا وذبح بقرة ونعجتين المتبقيتين من ميراث والده.. وانهمرت عليه التعاليق من كل حدب وصوب.. لم يشهد تاريخ "المجلة" هذه الفيضانات من التعاليق.. بلغت المائة تعليق فألف فمليون.. تفرغ صاحبنا مبدع لقراءة الردود واستراح اليوم من الكتابة.. وهاهو يخاصمها ليومين على التوالي والتعاليق ما تزال تتواتر وتتناسل أمام عينيه:
ـ ...رحمة بعقولنا يا "إبداع"..
 أنقذنا يا سبويه..
 إيش الملوخية دي..؟
 لا دي ملوخية مصرية مخلطة باللبلالابي التونسي*..
 اشنو هاذ لحريرة* أللي فاضت على "إبداع" هذ العشية؟..
 ارحمونــــــــــــــــــــــــــي.. نص مكتوب بالعربية ولم أفهم منه شيئا..
 هذه هيروغليفية لم أقرأها في المدرسة.. الرجاء أن يكتب المبدعون بالعربية..
 وين المترجمين يا "إبداع"؟..
 يقولون العرب لا يقرأون... الحقيقة لا يجدون ما يقرءونه والدليل أمامنا يا "إبداع"...
قرأ مبدع:
 هنيئا لك أيها المبدع المرموق نص آخر في مستوى هذا النص ستشطب المبدعين شطبا من "إبداع" ومن قبلتهم..

سأشطبهم من عالم الإبداع كله، قال مبدع فخورا بنفسه، ثم مضى إلى الشرفة التي تطل على البحر تاركا وراءه شريط التعليقات يدور كعداد كهرباء شركة.. تأمل البحر المترامي أمامه، مصدر إلهامه دائما، ثم ما لبث أن قال مخاطبا نفسه: لو كان البحر كله " بيصارة"* يا ترى يا مبدع كم سيلزمنا من الخبز.. لا شك سيحل مشكل المجاعة.. زلافة بيصارة تستهلك معدل خبزتين ونصف ومياه البحر تقدر بحواليــــــــــــ ... لن أضيع وقتي في الرد على تعاليق المتطفلين وإنما سأكتب لهم: انتظروني غدا سأطل عليكم بنظرية مهمة في الاقتصاد ستحل مشكل التغذية في العالم وستكون مرجعا لكل الاقتصاديين..

**************

اللبلابي: طبق تونسي يتكون من الحمص المسلوق جدا ويخلط بمائه مع فتات الخبز ويضاف إليه ـ حسب الاختيار ـ قطع صغيرة من الكوارع، ويقدم مع التوابل والهريسة وعصير الحامض وزيت الزيتون ويِؤكل ساخنا. طبق لذيذ لا لون له ولا أمارة واحدة تدل على هوية العناصر الممزوجة..
الحريرة: شوربة مغربية
البيصارة: طبق مغربي على شكل شوربة يهيأ بالجلبانة اليابسة أو الفول اليابس ويؤكل ساخنا بالملعقة والخبز. ومعروف في تناوله باستهلاك كمية كبيرة من الخبز


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى