الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤
دراسة جديدة حول الروائى القيرواني صلاح الدين بوجاه نشرها كاتبها مصطفى عبدالله بالعدد الأخير من الأسبوعية الإماراتية الصدى

" النخاس " .. و روايات المتوسط

مصطفى عبد الله

أجد أن مناقشة رواية ( النخاس ) هنا في الإسكندرية ، داخل قصر الكلمة ، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر ، و كبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط .. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين و مصر و اليونان و نهضتها في إيطاليا و فرنسا و تميزها في الشمال الإفريقي و الأندلس .
و ربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد ، لنا مع الآخر ، الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي ، و نهر الإبداع الروائي .

و قد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها و تقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب ، أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس ، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي ، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشرت روايته الشهيرة (السد) ، و كذا لكونها رواية مربكة مريبة ، تأخذ بقارئها في بعض مساربها ، فإذا ما اطمأن و أسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض .

وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ ( النخاس ) ، هذه الرواية المداورة ، فيزج به في منطق اللهاث و التقصى .. اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة ، و تقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، و في استفهامات العالم اليوم من ناحية ثانية .

و ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت و الميلاد و المتعة و الألم و البداية و النهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات ، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب ، فيكون الأداة و الرمز في آن واحد .

و لأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات و ثقافات عدة ،فإن ( النخاس ) تستدرج أجناسا و شعوبا ، منها الإيطالي و الإسباني و الفرنسي و التركي و اليوناني والمصري : القبطي و المسلم ،فضلا عن التونسي طبعا ، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية ، و تمدها بثراء فريد ، و تتخطى بنا أحادية الأسلوب و الأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها .

و لعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد الدكتور صبري حافظ بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارا جديدا مع الرواية في المشرق العربي .

و ضمن هذه الوجهة نضع ( النخاس ) التي تدعونا إلى قراءات متجددة كثيرة للوقوف على خفايا بنيتها ، و مجاهل قضاياها .. و متعة أسلوبها ، و هي وجهات في الفهم و التأويل يلخصها الشاعر التونسي منصف الوهايبي بقوله :
"تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن الترويق العربي ، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة " أرابيسك " ، حيث يسم التفريع الأصول ،كما يسم التعريج الفروع ، و يدرك التشعيب غايته .. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في (ألف ليلة و ليلة)" .

لهذا نكرر على أننا إزاء أسلوب ساحر ، ونص سردي مريب ، و إثارة عجيبة للمعاني و الأغراض .. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي .

لهذا فإننا لا ندعو إلى قراءة هذه الرواية فحسب ، إنما تأملها ، و مقاربتها المقاربة النقدية الضرورية ، و مقارنتها بالجديد المصري و العربي.. و وضعها ضمن مسارات إبداعن الروائي الحديث .
هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة أفقها الفعلي ، و هي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية حارقة ، هي " قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة ، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس و مصر وغيرهما من البلدان العربية .

تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي ، لورا ، الراقصة ليلى ، وجرجس .. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قال الكاتب في (النخاس ) : " تاج الدين نخاس كاتب أبدا ، حلزون تائه زاحف في دنيا الناس كاشف خفاياهم شارح صدروهم ، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره ، صدره كونه من الشموس و النار و الثلج و الخوف و الخامات النفيسة و قصور الحكام و فحش آخر الليل ، و الحياء و العفة ، و المخطوطات النادرة و أولياء الله الصالحين .
هذا كله شجعني في هذا التمهيد على استجماع عناصر حيرتي و أنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرا في مراوغاتها الممتعة ، و دعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن حول مسألة الحوار العالمي ، و إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم ، و سالف إسهاماتهم في حضارة الأمس و اليوم .

و كم احتلت هذه الرواية حيزا من مناقشاتي مع بوجاه كلما التقينا هناك في تونس أوهنا في مصر ، و قد أكد لي أن شخصيات النخاس لا ظل لها على أرض الواقع ، و إنما هي تجسيد لحضارات متبانية ، بل و متصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطالية ،و كأنها تعلة للانعطاف على لعبة كبرى ..

و من يبحث عن القيروان مجسدة داخل ( النخاس ) سيرهقه البحث ، فصلاح الدين بوجاه يؤكد أن المدينة لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية و زمانية ، و هو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل ( السيرك ) مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام .

فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي أكد :" حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى ؟ أم ندعى إلى أن نهتف مع بوجاه نفسه : ماذا يفعل الكاتب في النهاية غير محاولة تشويش المثل و الحقائق قصد إعادة تنظيمها ؟!" .

مصطفى عبد الله

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى