الخميس ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم أحمد نور الدين

غداء هستيري

ربتت على كتفي بحنو بالغ وقالت:

 كلما شعرت بضيق من الدنيا، عودي الي. ستجدينني دائما أما لك، ومؤنسة في لحظات الوحشة.

نظرت في عينيها وأطلت النظر. رأيت فيهما دفأ حميما لم اعرفه طوال حياتي. وقتها داخلني احساس مطمأن بأنه اصبح لي أم حقيقية. بأنني وجدت اخيرا الحضن الدافئ، والأذن التي تصغي الى همومي. وخيل الي أنني استشعر ما يشعر به الابناء العاديون ذووي الاباء والامهات.

غادرت منزلها في ذلك الأصيل وكلماتها العذبة تتردد في أذنيي ألحانا. فتاة في مثل سني ووضعي احوج ما تكون الى أم تسمعها وتعي همومها وأوجاعها. وأقسمت في سري على أن احافظ على علاقتي بأمي التي لم تلدني ولو بدمي. فمن تدفئ أطرافه حرارة الحنان يشق على نفسه الرجوع الى صقيع الوحدة واليتم. "أدامك الله أما لي الى الأبد" هكذا كان النداء يدوي في قلبي ووجداني.

وفي غرفتي الصغيرة خلعت ملابسي وارتديت بيجاما رقيقة تناسب حر الصيف. حضرت عشاء خفيفا وجلست في الشرفة أتناوله بهدوء. ولم أملك الا أن استعيد معايشة مشاعري الجديدة التي طفحت مرة واحدة، ولم أكن قد خبرت طعما لها من قبل. وفجأة خيمت على ذهني ذكرى العمل. وتذكرت ما ينتظرني في الغد من عمل طويل. مما أصابني بشيء من الكدر.

منهوكة القوى أكاد اخر من شدة الجوع، خرجت من المطعم حاملة كيس الطعام؛ دجاجة مشوية مع لوازمها من بطاطة مقلية وكتشاب ومخلل وغيرها..

قطعت فناء بيتها بخطوات سريعة وفي ظلمة المدخل اعترض طريقي صبيان صغيران. هما ابنا الجيران. فتحاشيتهما بعصبية وشققت سبيلي صعودا.. تمنيت أن اكون قد وصلت في الوقت المناسب، لا أريد أن اجد أنها تناولت غداءها.

طرقت على بابها طرقات متتابعة.. ثم انتظرت.. وقبل أن تفتح لي كان الصبيان قد لحقا بي. وقفا على مقربة مني وهما يرمقاني بنظرات غريبة. مما اثار استيائي، وقد عن على بالي أن ارميهما بنظرة عابسة، لكن شيئا ما امسك بي.. وانتبهت الى أنها لم تفتح لي بعد..! لقد تأخرت.. فطرقت الباب من جديد، بعصبية هذه المرة.. وقبل أن اعاود الطرق قال لي احد الصبيان:

 لقد ماتت!

التفت اليه بحركة سريعة كالبرق.

دارت بي الدنيا دورة خاطفة، لم أعي الكثير من شرح الصبيان.. نزلت السلالم بقدمين مزلزتين... وفي الطريق استوقفتني الجارة.. اسمعتني كلاما لم افهم سوى أنه من قبيل "العزاء".

في الخارج استقبلني هواء محمل برائحة ألفتها منذ زمن طويل جدا... كانت قد غابت منذ مدة، لكنها عادت من جديد لتغزو أنفي وتتوطن رئتاي.. لعلها رائحة اليتم، لكنها هذه المرة أقوى بأضعاف.. وجدت يدي تأتي بحركة غير ارادية.. ورأيت احد الصبيان يستلم الكيس مني.. كيس الطعام.. قفز الصبيان قفزة فرح جنونية ثم هرعا الى داخل البناية..

قبل أن اشرع بعبور الشارع أمسكت بذراعي يد.. فالتفت واذا بها الجارة.. ماذا تريد يا ترى.. ماذا؟ تدعوني الى تناول الغداء؟ انطلقت من فمي ضحكة هستيرية طويلة... فاحمر وجه الجارة.. ربما حرجا.. ربما خجلا.. أو شيئا اخر.. ثم انطلقت ضحكة اخرى.. اطول واكثر حدة.. وكأنني ارى الجارة تأتي بضحكة بدورها... ضحكة تشبه ضحكتي.. لكنها اقل جنونا.. او تحمل جنونا من نوع اخر..

بذراعين متشابكين، قطعنا الفناء بخطوات بطيئة ايقاعية، ونحن غارقتان في ضحك هيستيري لا نهاية له...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى