الأربعاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم ميسون أسدي

أنا

تعقيب:

سأصارحكم بالحقيقة، بطلة القصة هي أنا، وقد جرت أحداثها قبل عام، واليوم لا يُرحب بي في معظم المقاهي، وابتعد عني معارفي، ويتجنبونني إذا صادفوني، وحتى جلال، لم يعد يهتم بمشاكل أبناءه، وبصراحة أكثر لا أعرف ما هي المشكلة وما هو السبب، فأنا على حق والجميع لا يعرف حقيقة من أنا..

التوقيع: أنا سماح

أنا لا أرضى بذلك- قالتها بقرف شديد وأشارت إلى النادل بيدها بحركة ملؤها التعالي والتعجرف وكأنها تنادي على كلبها ليأتي صوبها؟ وصاحت به على مسمع من زبائن المقهى: ما هذه الخدمة السيئة التي تقدمها للزبائن المحترمين.. ؟ هذا تعامل منحط، لا أوافق عليه، ما هذه السوقية.. إلا تعرف من أنا؟

النادل وهو شاب في العشرينات من عمره، ويبدو انه طالب جامعي، طأطأ رأسه واحمر وجهه كاتما غيظه، لم يتفوه بكلمة واحدة، فالزبون دائما على حق- كما قال له صاحب المقهى، عندما دخل إلى هذا العمل.

همس لها جلال: ما ذنب هذا المسكين، ربما هذا النادل هو طالب ويعمل الآن بعد انقضاء يوم دراسي شاق، أو ربما يعيل عائلته، أو هو.. ليس مهم من هو.. ليس لك الحق بإهانته؟

قالت له سماح بطرف شفتيها: أنا أحب أن يكون كل شيء على أحسن حال...

قال النادل وهو يضغط على حروفه: نعم، ماذا يمكنني أن أخدمك؟

قالت بفظاظة: أحضر لي كأس من الجيلاتي وعليه كريما بيضاء وحبة كرز ولا تنسى الموس شوكلاط، أنا أريد "أميريكان جيلاتي" فاخر.. واحضر كأس ماء مع قطعة ليمون لا تتأخر في الطلبية؟ ؟

 نعم في الحال يا سيدتي.

  اذهب!

نفضت شعرها بيديها يمينا وشمالا وأدخلت أناملها بين خصلاته السوداء المجعدة والجميلة وداعبتها مرارا وكأنها تريد أن تؤكد بأنها عادت لتوها من عند مصفف الشعر..

نظر إليها "جلال" متسائلا في ذاته: سماح شابة حسناء لا ينقصها شيء من جمال الشكل، لها عينان زرقاوان تشعان بريقا في وضح النهار، ولكنها جلفة الطباع، متكبرة..

تعمل سماح معلّمة في المدرسة الابتدائية، التي يتعلم فيها أولاد جلال الثلاثة، واعتادت سماح أن تهاتف جلال بين الحين والآخر، بحجة اطلاعه على أمورهم الدراسية ومشاكلهم، لكنها في الحقيقة كانت تتعمد لقاءه في مكان عام وعلى مرأى من الناس ليمنحها شعوراً بالفخر والسعادة، كونها تجالس فنان معروف له شعبية كبيرة وملفت للأنظار.

اليوم الأحد، تمتلئ المقاهي عادة بمحتسي القهوة وقارئي الجرائد الصباحية، قامت سماح بمهاتفة جلال، لتخبره بوجود مشاكل مع أحد أبنائه وهكذا اتفقا أن يلتقيا في مقهى "موتسارت".

انتظرها ولم تصل، وفي اللحظة التي همّ بالخروج من المقهى دخلت وهي تختلق الأعذار: آسفة جداً يا جلال، نسيت أن هناك لقاءً تلفزيونياً للحوار معي، حول ترشيحي لجائزة المربية المثالية.. وبصراحة لن استطيع المكوث معك كثيرا، فلدي محاضرة مع مجموعة مدراء مدارس حول "الاحترام المتبادل وتقبل الآخر". واقتربت منه وصافحته وصعرت له خدها بمعنى: "قبلني".

قبلها وكأنه يقول: "سامحتك هذه المرة".

نظرت سماح حولها وقالت بجفاء: أين ذهب هذا النادل اللعين، لو علم "موتسارت" كيف يتصرفون مع زبائن مقهاه، لقام من قبره وكتب سيمفونية "الانحطاط".. في الماضي تعاملوا معي بطريقة أرقى!

فقال جلال: لم تمض خمس دقائق على طلبك والمكان يعج بالزبائن.. انتظري سيأتي في الحال.
  آسفة، يجب أن يبقى النادل حول الطاولة، هناك مقاه تتمنى أن ادخل إليها أنا، لتزيد من شهرته!

رفعت يدها من جديد وبإشارة السيد إلى العبد، نادت النادل..

حضر النادل، وقدم لها طلبها محاولا كل جهده أن يكون مؤدبا ولطيفاً..وما كاد يستدير ويخطو خطوتين، حتى نادته ثانية: أنت ارجع.. تعال هون.. احضر لي صحناً صغيراً، أريد إزالة الكريما من على الجيلاتي..؟

أعتذر منها النادل وقال لها: الجيلاتي على حسابي الخاص.

أخذت تزيل الكريما عن الجيلاتي وهي مغتاظة، وسألته ثانية: لماذا لون الجيلاتي غامق أكثر من اللازم؟، وحبة الكرز طعمها ليس بطعم الكرز، هل الحبة تالفة؟ ومنذ متى تقدم لي الجيلاتي بهذه الكأس الكبيرة، ماذا أصابكم اليوم، هل أنا في مقهى "موتسارت" أم مقهى شعبي، ما هذه البلادة.. ؟

أخذ النادل نفسا عميقا، ونفض فوطته بقوة، وأدار ظهره لها وتركها غير مكترث لأقوالها.

تأففت "سماح" ونظرت حولها وقالت لجلال: الرجال لا يحبون المرأة القوية، التي تكون نداً لهم، يحاولون تقزيمها وتهميشها ولهذا أنا لا أتفق معهم.

 ولكن وحسب حديثك، لديك مشاكل عديدة مع أفراد عائلتك، ومع صديقاتك، ومع المعلمات في المدرسة وهن لسن برجال، فكيف تفسرين ذلك؟

  نعم، أنا أحب التعامل برسمية فائقة ومهنيّة عالية في كل مكان، فانا أحب احترام المواعيد والتشديد على تمرير المواد الدراسية على الطاقم المهني، فنقدي لذاتي كشفت لي الخلل في علاقاتي وعملت على تحسينها.

جلال يعلم علم اليقين، أن "سماح" تحمل بين جنبيها نفس النمرود بن كنعان كِبراً وخيلاء، استغل فرصة حديثها عن نفسها وراح يراقب عمل النوادل من شباب وصبايا في المقهى، وكيف يرسمون البسمة على وجوههم لإرضاء الزبائن، فهو نفسه عمل نادلا أثناء دراسته. وعندما نبهته إلى حديثها سمعها تقول: إن انخراط المرأة في العمل السياسي، صعب جدا،

كونها محاطة برجال، فأنا أشارك في ندوات سياسية ولي رأي متأصل، ومهم أن يصل للناس، وعلى القادة السياسيين أن يحترموا النساء أمثالي، خاصة وأنني اليوم أصبحت متكلمة وعندي ما يقال ولغتي راقية، هناك نساء مهنيات، حين يتحدثن تشعر وكأنهن يقشّرن البصل أو يقطّعن البقدونس، أما أنا فحينما أتكلم.. أتكلم بمفردات أنا أوجدتها، فأنا لي ثقلي على الساحة السياسية والاجتماعية، كيف لا وأنا...

قاطعها جلال قائلا: أريد أن اطلب صحن سلطة مع جبنة بيضاء، هل تحبي أن تشاركيني به
 نعم ولم لا..

احضر النادل صحن السلطة ولم تترك سماح انتقاداً واحداً إلا ووجهته ضد السلطة ومكوناتها: الخضروات في السلطة ليست طازجة، قُطعت قبل عدة ساعات على الأقل، انظر إلى شكلها. الصالصات المرافقة لا تكفي، وأين الزبدة، أين الماء؟ ثم قامت من مكانها ولحقت بالنادل وقالت له: اذهب وأرسل إلي مديرك، في الحال؟

تدخل جلال قائلا: لن أسمح لك بمحادثة الشاب بهذا الأسلوب!.. أنت إنسانة مثقفة ومتعلمة وسيدة مجتمع ماذا دهاك! واعتذر جلال من النادل وغمزه بطرف عينيه بما معناه: لا تكترث لها.
بدأت سماح تتناول السلطة بنهم وشراهة، الأمر الذي افقد جلال شهيته، ولكن أن تلتهم الطعام بهذا الشكل لهو أفضل من مواصلة حديثها عن أناها.

أثناء الأكل نسيت سماح تعجرفها، وجفاء طباعها، وأخذت تتصرف على سجيتها، نظرت إلى يمينها عدة مرات وهي تمسح فمها بمنديل ورقي، وفجأة بدأت تعدّل جلستها وأخذت تهز جسدها هزات خفيفة، وشحنت نفسها بشحنة جديدة من التعجرف والكبرياء لتعود إلى ثوبها الأخر وكأنها ممثل يقف وراء الكواليس في اللحظات الأخيرة قبل دخوله إلى خشبة المسرح.. ورغم أن ملامحها تتزين بحزن وقلق، كمن ضاقت بنفسها وبالناس ، إلا أنها قالت له بمكر: أنظر إلى يمين الطاولة، هناك امرأتان.. كما يبدو تعرفتا عليّ من خلال وسائل الأعلام.

ابتسم جلال في سره ساخرا منها.

طغى جو من التذمر والشكوى والانتقادات اللاسعة من سماح على فلان وعلان وعلى المجتمع وقيمه وما تصبو إليه، وبين الجملة والجملة كانت ترمي بكلمات غير مفهومة وتعطي أجوبة مغمغمة، وشعر جلال بأن الأجواء المتوترة التي تخلقها "سماح" هي بعكس أسمها- سبحان الله؟
وتذكر جلال أن سبب اللقاء هو التباحث حول أمور أطفاله لكنه لم يرغب بتذكيرها في ذلك وبدلا من هذا هم واقفا وقال مصطنعا التوتر: تذكرت أمرا ضروريا وعلي الذهاب.. وخرج مسرعا وسمعها وهي تقول: لكن أنا....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى