الأربعاء ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم جمال عبدالرحيم

في أربعين جدتي

بقلم: جمال عبد الرحيم

كانت سنديانة..

عاشت طويلا طويلا غير أن الأيام حرمتنا من ذكريات دافئة لنا معها.

عمرت قرابة قرن من الزمان تجذب الأيام بقوة من جب الحياة يوما بعد يوم تحلم أن تراه ويراها، وأن تعانقه ويعانقها. وأن تبتسم في وجوهنا قبل أن تمطرنا بقبلاتها الدافئة.

عاشت لحلم وتشوقنا بشغف لنراه حقيقة وواقعا. ولكن حالت بيننا الحدود. وخذلنا الساسة "الحكماء" و محترفو سياسات البغاء.

كانت لا يهدأ بالها حتى تراه وتطمئن على حاله. فقد كان بكورة أولادها وسندها بعد أن صار والده الثائر لاجئا وحالت بينها وبينه "النكبة" والحدود.ولكن عصر ذات يوم لم يرجع من ثانويته إلى قريته.
وعلمت في المساء أنه عبر الحدود ليلحق بأبيه. حزنت كثيرا ولكنها واست نفسها أنه سيعود بعد شهور برفقة أبيه مع جيوش الفاتحين البسالى.

ولكن مرت الشهور وتخاصمت الفصول وكرت السنون ولم يعد. فالهدنة كرست الحدود؟ وعمدة جيوش الفاتحين انهمكوا بتطهير بلادهم من الملكية و"التبعية" للإستعمار تمهيدا لاستعادة إرث بني العباس السليب في بلاد فارس وما وراء النهر. وأنى لها أن تدرك الأولويات والمصالح العليا التي لا تبالي قليلا أو كثيرا بامرأة بسيطة قاست مرارات عدة من فراق زوج وولد ومصادرة أراض وممتلكات.

لم يرجع كما تأملت. فصارت تتحرق لتسلل الفدائيين، فتقريهم يوما أو يومين فتستمع إلى أخباره من دليلهم. وكان من أبناء قريتها وجارا لزوجها في ديار اللجوء. وكذلك كانت تغتبط لقدوم الزائرين فتلج على أحدهم أن يحمل إليه منها خابية زيت، وحفنات من لوز وزعتر وزيتون.

كبر فتزوج وصارت له ذرية فتمنت ملاعبة أبنائه. وبقيت تحافظ على آثاره في بيتها. فهذا فراشه سيرجع يوما ليبيت فيه من جديد. وهذه ثيابه ما زالت تشتَم فيها رائحته. وتلك كراساته. وكانت تتعاهد وتهتم بشجرات اللوز في حاكورة البيت التي زرعها عندما كان صغيرا.

وتدحرجت السنون في عقود. شب الأبناء وتزوجوا وصار له أحفادا، فاشتكت قهر الأيام ومراراتها. وداوت ألم الفراق بأمل اللقاء.

وأصبح ذلك الأمل ماءها ونسغها وهواءها. وكانت به تحيا. وبه قاومت كل سقام.

تلكم جدتي..

كان لا يشدها للحياة إلا إصرار أن ترى بكورة أبنائها. فقلت لا ترحل إلى شق في الأرض، ولا تلقى الذي برأها حتى تلقاه.

ولكن هرمت حتى أضحت من خامس جيل يتكئ على فراش الأرض. وقلما أذنت الأرض أن يتزاحم الأجيال فيها. ومن دأبها أن تنادي أماناتها فتجيب طائعة لتخلد إلى مأوى لها فيها.

رحلت جدتي والبراعم قد بدأت تكسو الأشجار والسنونات في السماء تؤذِن لميلاد ربيع جديد.

رحلت وبقي حلمها بيننا..

حلم أن يلقاني وألقاه. وأن يعانقني وأعانقه بعد أن فرًقت بيننا الحدود. وحالت بيننا لأكثر من عشرين عاما سياسات "الحكماء" وقوانين تأشيرات السفر بين قبائل بني شهاب وعبس ومضر.

بقلم: جمال عبد الرحيم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى