الأحد ١١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم ربيع مفتاح

استلهام تراث السرد العربى

فى روايات خيرى عبدالجواد

كثير من الروائيين بدأوا أولا بكتابة القصة القصيرة ثم اتجهوا بعد ذلك الى كتابة الرواية، خيرى عبدالجواد من الذين تميزوا فى فن القصة القصيرة، ثم شق طريقه فى حقل الرواية وأبدع عددا من الروايات من أهمها العاشق والمعشوق، وكتاب التوهمات، وقد اتسمت معظم اعمال خيرى عبدالجواد القصصية والروائية بخصيصة أساسية وهى استلهام تراث السرد العربى بنوعيه المكتوب والشفاهى.

وشكل التراث الشعبى أهم المنابع التى نهل منها الكاتب فى قصصه ورواياته،هذا التراث الذى يشمل التاريخ، الرحلة، التصوف، السيرة الشعبية،ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة،تغريبة بنى هلال وغير ذلك من العناصر التراثية إلا أن التفاعل الروائى مع الليالى العربية وخاصة فى رواية العاشق والمعشوق هو الأبرز، ليس لأن حكايات ألف ليلة وليلة من أشهر النصوص السردية على الصعيدين
العربى والعالمى ولكن لأنه تحول إلى نص ثقافى شامل تتولد نصوص فى مختلف الأنواع الأدبية وهذا مانتج عنه مايسمى بالتوالد النصى، وقد حقق خيرى عبدالجواد بهذا الإنفتاح على النصوص الأخرى قيمة جمالية مضافة وقيمة معرفية متدثرة فى ثوب التراث
وصياغة بناء روائى مغاير ومختلف عن الشكل الغربى للرواية
والسؤال الذى يطرح نفسه فى هذا السياق هو كيف وظف الكاتب هذه المعطيات الإبداعية بكل عناصرها من تراث شعبى شفاهى ومكتوب وتجربة حياتية ثرية وممتلئة وهموم ابداعية، كيف وظف كل ذلك فى اطار نسيح روائى ممتع ومتميز.

فالإمتاع روح الفن والتميز هو بصمة المبدع التى لايمكن تكرارها لكن يمكن تمثلها والإستفادة منها، لقد أوتى خيرى عبدالجواد قدرة رائعة على المزج بين كل هذه المعطيات الإبداعية وبمعنى اخر 22 موهبة نادرة فى القدرة على التأليف بين العناصر.

وصهرها فى بوتقته الإبداعية، قدرة كبيرة على التمثل والإمتصاص، وقد ظهر ت تلك الخصيصة فى أسلوبه السردى الذى اخى بين العامى والفصيخ، نتج عنها لغة تميزت بها كتاباته وإذا كان العشق والموت وجهين لعملة واحدة هى الحياة، فالعشق
دليل حياة والموت نهاية هذه الحياة، الموت هو الفعل النهائى والعشق هو رد الفعل الإستباقى المقاوم لإحساس الإنسان بنهايته ومن ثم جاءت رواية العاشق والمعشوق
والتوهمات لتمثلا هذين الإتجاهين العشق والموت.

العاشق والمعشوق:

اعتمد الكاتب فى البناء الروائى لهذه الرواية على نوعين من الكتابة، كتابة الحياة اليومية وما يحدث وتعليق الراوى وقد ميزها من خلال درجة الخط وكثافته، فهى تختلف فى الدرجة والنوع عن الكتابة الأخرى التى جاءت أكثر كثافة لتمثل لغة المخطوط الذى يحمل كل الأسرار ثم التفاعل بين الكتابتين، كما جاء الشكل الروائى.

مختلفا عن شكل الرواية الأوربى، لا يوحد مكان محدد ولازمان محدد ولا شخصيات محددة، وقد استخدم الكاتب الأسلوب البريختى فى كسر الحائط بينه وبين المتلقى وتوجه بمخاطبته مباشرة، ومن ثم جاء هذا الأسلوب مناسبا للبناء الذى اختاره الكاتب، وهاتان فقرتان فى بداية الرواية مكتوبتان بنفس درجة الخط التى تميز الحياتى من التراثى.

"الان اطمأن قلبى، كنت على ثقة من انك رجلي الذي ابحث عنه،و انك سوف تعدني بتنفيذ تلك المهمة الصعبة. لقد امتدت يدك الحانية لتمسح دموعي المتساقطة،فكم أنت لطيف، هل لازلت فى شك من أنك أنت الذى أتوجه إليه بهذه الكلمات الان فاعلم أيها العزيز أن المخطوط هو: أنا.. وأنت.. الآن فقط”.

“إن ما يحدث أمامى لايستطيع عاقل تصديقه، فكل ما أفكر فيه أجده مكتوبا أمامى، حتى حيرتى وأسئلتى، أفكارى التى تولد توا، وتلك التى لم أفكر فيها بعد، هل سمعت الأميرة صيحتى، وأنا أعدها بالبحث عن اسمها؟ وهل كان الماء المتساقط
بين سطور المخطوط دموعها حقا؟ كيف يتلاشى فجأة الحد الفاصل بين عالمين مختلفين؟ أيكون هذا هو سر المخطوط بدأ يعلن عن نفسه؟ وكيف أعرف معرفة لا لبس فيها؟ أن هذا الكلام موجه لى تحديدا، يقصدنى دون غيرى؟ ولماذا أنا من دون الخلق؟ لقد بدأ المخطوط مرعبا حقا، فكل ما جال بخاطرى قرأته مكتوبا أمامى؟
هذه الحالة من التماهى والتوحد بين الراوى العاشق والمعشوقة والمخطوط تعلو فوق الواقع وفوق قوانين الحياة العادية، هى حالة صوفية ينصهر فيها العاشق والمعشوق.

كما أن عملية استلهام التراث وتوظيفه فى بهذا الشكل استحال معها الواقع الحياتى المعاش الى واقع ساحر يتعدى حدود الزمان والمكان والعقل وأصبحنا فى حالة من الواقعية السحرية التى تفقد فيها الأشياء منطقها، فالمخطوط يخرج من بين صفحاته
الحبيبة العاشقة.

إن المزج بين عالم الواقع وعالم الخيال، بين عالم الحقيقة وعالم الأحلام، بين عالم اليقظة وعالم المنام تيمة أساسية فى البناء الروائى فالراوى يرى الرؤيا ثم ينطلق لتحقيقها
“كنت نائما ذات يوم، فإذا بهاتف يجيئنى وأنا أسمع صوته ولا أرى صورته ويهتف قائلا: قم أيها الغافل اللاهى لتبحث عنها، فهى اختارتك وأنت أحد الموعودين بها، فهلم إليها تجدها فى انتظارك، سيدة نساء العالمين تقرؤك السلام وتقول لك ابدأ رحلتك صوب المخطوط من هنا حتى تصل إلى الجبال التى تحيط بالدنيا كما يحيط السواد بالبياض أو النيل بالبلاد”.

يرتبط العشق هنا برحلة البحث عن المخطوط وتتداخل الخيوط، وفى لحظة ما يختلط أمر العشق بين الراوى والمخطوط حتى نصل إلى أن المعشوق قد يكون المخطوط ذاته، والرواية بهذا الأفق المفتوح تستوعب تأويلات متعددة.

ولم يعتمد الكاتب على كتاب ألف ليلة وليلة وأسلوبه فى الحكى فهذا كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسى يقتبس منه ما يلائم السياق الذى يتحرك فيه:

“وللحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدى اليها الذكى، فأولها إدمان النظر ومنها الإسراع بالسير نحو المكان الذى يكون فيه، ومنها اضطراب يبدو على المحب
عند رؤية من يشبه محبوبة، أو عند سماع اسمه فجأة”.

ماذا قالت الحبيبة أو المعشوقة لعاشقها بعد رحلة البحث المضنية؟

“ها أنت الان يا حبيبى على مشارف لحظة هى الأبد،دع هذا التجلى يغمر قلبك للمرة الأخيرة، فما شاهد ذلك قبلك غيرى، كما لن يراه بعدك غيرك، فانت سيد كل شىء الان، وأنا أعطيك كتابى فخذه بقوة، لا تضيعه مرة أخرى، فإن ضاع كما ضاع قبلا فقل على الدنيا السلام. هلم إلى يا سيد نفسى لأضمك إلى صدرى، فقد أمضنى الشوق، ان لغربتك أن تنتهى بعد خطوة أخيرة تخطوها، وان للعاشق المجد
الأوب إلى معشوقه ليكتمل به، ان لى أن أهمس لك: يا أنا”

فى هذه الرواية نستطيع أن ندرك الواقع من خلال الحكاية الشعبية والحدوته والأسطورة والخرافة والسيرة الشعبية، تتكون القصة من أربعة فصول. أما وموضوع الرحلة هو المهيمن على الأحداث يعثر الراوي على مخطوطة نادرة مسحورة، يصاب كل من يقرأها بلغة الرحيل والبحث عن صاحبة المخطوط. التي يبدأ اسمها بحرف الميم. وتتعدد التأويلات وهذه هى سمة الرواية الحديثة، لكن التوحد بين العاشق والمعشوق فى رحلة البحث هو القيمة المعرفية الأكثر إلحاحا على قارىء الرواية رغم تعدد الحكايات الصغيرة التى تحيط بالحكاية الأساسية، بعض الحكايات قدمها المؤلف كما هى معروفة وبعضها تصرف فيها الكاتب، ومن ثم تلاحمت القيمة الجمالية مع القيمة المعرفية، وقد أدى ذلك إلى تطوير وتثوير الشكل الروائى فجاء مغايرا عن غيره من الأشكال التقليدية، كما وصلت الغرائبية فى الرواية إلى درجة يمكن وصفها بالواقعية السحرية، ولكن كل ذلك من خلال استثمار التراث السردى العربى الشفاهى والمكتوب.

كتاب التوهمات:

كتاب التوهمات هو رواية الموت، مجموعة من التوهمات تبرز عالم الموت بكل مافيه، ولاشك أن موت الأم أو سيرة أمينة مرشد هى المحور الرئيسى للعمل.

ونلاحظ أن تقسيم الرواية لايعتمد على فصول أو أرقام وانما يذكرنا هذا التقسيم فى عناوينة بالكتب التراثية ومن ثم جاءت تسمية كتاب اكثر دقة، فعلى سبيل المثال
هذا العنوان،”الأخبار الحزينة فى موت السيدة امينة”"أحدوثة عن الفقد”.

"وفيها ما جرى لأمينة بنت مرشد راضى: من الأمور العجيبة والحوادث المدهشة الغريبة التى تطرب سامعها، وتلذ قارئها بالتمام والكمال، والحمدلله على كل حال”.

اعتمد الكاتب على الراوى على عازف الربابة ليغرف من معين السيرة الشعبية فى الموضوع الأساسى وهو الموت وقد ارتكز البناء الروائى فى محوره الأساسى على ذلك، ومن ثم جاءت العلاقة بين الراوى والمتلقى علاقة مباشرة وحميمية بعيدة عن أية حواجز أو فواصل، وهذا ما يؤكده الراوى فى بداية الرواية:

"توهمت”أننى منشد ربابة، وهو توهم طالما تمنيته واشتهيته، أمسكت ربابتى الحبيبة، وبين يدى اجتمع نفر من الناس، وأحاطو بى كما يحيط السواد بالبياض

أو النيل بالبلاد، وأنا جلست على دكة خشبية متربعا، تناولت الربابة بين أصابعى فأصلحت أوتارها، أمسكت القوس بيد ثابتة وأنشدت مفردة شعبية أخرى وظفها الكاتب بنجاح فى بداية كل فصل وهى العدودة المصرية
وهذا ما يجعل الرواية مصرية شكلا ومضمونا، دما ولحما حتى النخاع

“سرى وسرك يا أمى فى طبق فخار والطبق انكسر واتفرقت الأسرار”

“وأحلفك يا قبر تسليه يادود ما تبلغ مرادك فيه”

“عدتوش تعودوا للبيوت يا صحابها”

“قالوا النهاردة العيد، أنا قلت العيد لأصحابه وايه يعمل العيد للى اتفرق أحبابه”

“يا مرحبا الليلة ــ ياما القبر يقولك ــ يامرحبا الليلة نورت قبرك وعتمت على العيلة

"كان عندنا منه.. كان عندنا منه.. وموتة الرجال هى الخراب كله”

“غابوا الحبايب بقى لهم عام وادى التانى، والقلب مشغول بهم وقليل رجوعهم تانى”والقبر قال انزل ولا تخافشى، خايف انزلك يا قبر ما اطلعشى”

“باب اللحود مش زى باب البيت، كتفك عريض وازاى خشيت”

وقد حشد الكاتب هذه المفردات الشعبية ليستكمل طقس الموت ومناخه مع أحبائه الذين فقدهم واحدا تلو الأخر، والراوى حريص على أن يمهد ويشحن المتلقى قبل أن يبدأ معه حديث الموت ووقائعه، فقبل أن يسرد وقائع موت الخضرة يقول الراوى:

“وبينما أنا كذلك إذ تنبهت من غفوتى فتنهدت، وشددت القوس والوتر وغيرت المقام، وقلت والنشوى تسرى فى لسانى هذين البيتين:

لا تأسفن على الدنيا وزينتها

وأرح فؤادك من هم ومن حزن

وانظرإلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن

ثم أصلحت وأنشدت:

اللى انكتب على الجبين لازم تشوفه العين، والخضرة عاشت وشافت.. ولها حكاية غريبة وأمور مطربة عجيبة، وهى ضلع فى روايتى، وها أنا ذا أبدأ حكايتى ــــ فانتبهوا، إن اختيار الكاتب لموضوع الموت وهو موضوع باق مابقيت الحياة، وهو الموضوع الذى اهتم به المصريون القدماء فجاء كتاب الموتى وثيقة فرعونية خالدة

وهذا ماجعل الكاتب يصدر به كتاب التوهمات:

“دعنى أنال السيادة داخل هذا الحقل لأنى أعرفه وأبحرت خلال جداوله كى أصل إلى مدنهلأجل هذا، لقد نلت القوة على فمى المزود بالتعاويذ كى لا ينال المتلألئون السيطرة على، لا تدعهم يقدرون على”

الراوى يبدأ هنا بأول تجربة موت وأهم موت فى حياة الراوى وهو فقد الأم، ذلك الفقد الذى استأثر بالجزء الأكبر فى كتاب التوهمات، فموت الأم هنا هو مركز الدائرة التحوت تجارب الموت الأخرى، يقول الراوى:

“أمى التى جاءت من كوم الضبع حتى بولاق الدكرور بالليل فى عربة دفع أجرتها أبوها، حين تزوجها من يكبرها من السنين بمائة الا ستين وصار أبى ــ سوف تموت الان، قالت لى بلسانها الذى لاينطق عن الهوى، ان هى الا رؤيا رأتها ليلة النصف من شعبان حين نامت على جنبها اليمين قرأـ مالاعين رأت وسمعت مالا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من قبل، اذ قالت أمى وجلسنا حواليها نسمع”

التناص:

حفلت الرواية بالتناص سواء من القران الكريم ومن مصادر أخرى ولكن من خلال سياق روائى متجانس وقدرة على السرد بلغة سهلة وعميقة وجذابة

“قالت ربى اشرح لى صدرى بأولادى، فقد خلقوا فى كبد. ثم إنها نظرت إلينا فىحسرة، وقالت بعد أن ذرفت عبرة: أوصيكم فكونوا عند حسن ظن أمكم بكم
أذكرونى أذكركم”

“الشارع الذى عاشت فيه من السنين ثلاثين مما تعدون وخرجت منه بيضاء من غير سوء"

“أوصيكم فاستوصوا بمحبة أبناء البطن الواحدة، اعتصموا بحبل الأخوة ولا تفرقوا، أذكروا أمكم وصلوا الرحم، إذ كنتم نطفا فألف بينكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد موت أمهم”

وتناص الكاتب مع الأغنية الشعبية”واحد اتنين سرجى مرجى:، انت حكيك ولا تمرجى، أنا حكيم الصحة، العيانةأديها حقنة، والمسكينة أديهالقمة، بدى أزورك يا نبى ياللى بلادك بعيدة فيها أحمد وحميدة”

اتسمت الرواية بلغة سردية متميزة ومن ثم جاءت القيمة الجمالية للرواية والقيمة المعرفية نتيجة لهذا البناء الروائى على درجة كبيرة من التفرد والتميز

.

فى روايات خيرى عبدالجواد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى