الأربعاء ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم حسن أحمد عمر

الطيب والخبيث

لوحة 1:

بعد يوم طويل من العمل الشاق فى خدمة الناس وتقديم العون لهم فى كل صغير وكبير والمسح على رأس يتيمهم وتقديم المعونة لفقيرهم وحث غنيهم على مثل ذلك، وبث النصيحة المخلصة والكلمة الطيبة فى كل مجلس يحضره وفى كل مكان يعبره، وبعد أن يغمر كل قلب يقابله بنظرة حب وإحترام وتقدير، عاد عم حامد الطيب مجهداً إلى منزله المتواضع بين أولاده وبناته الطيبين وزوجته الهادئة الطباع حيث يستقبلوه ككل يوم بمشاعر الشوق والحب والمودة الراقية، فيجلس وسطهم ليستريح ثم يتناول بعض الطعام الذى يسد الرمق ثم يؤدى فريضة ربه ثم يخلد للنوم بعد يوم ملىء بالعمل الصالح والجهد الطيب من أجل الإنسان فى أى مكان.

أولاده لا يتركوه ينام نوماً عادياً بل لقد تعود على قبلاتهم الحانية منذ كانوا أطفالاً ولم تزل هذه العادة فيهم متمسكين بها حريصين عليها فتأتى طفلته الصغيرة وتقبله وتلقى عليه السلام ثم يأتى باقى البنات والأولاد فيقبلونه ويكون فى قمة السعادة ثم يخلد فى نوم عميق.

هذا اليوم نام كثيراً وراح فى عالم آخر من الجمال والروعة واللذة فهاهو يرى نفسه فى غرفة مذهلة كأنها صنعت من قطع الماس وبها فرش كأنه العسجد، وأثاث لم ير له مثيلاً فى حياته الدنيا وروائح من عطور ورياحين وورد وفل وياسمين، وزهور ونباتات غاية فى الجمال تحيط به من كل ناحية، وشجر ينبت بثمار بضة شديدة الحمرة مثل تفاح الدنيا ولكن لذته أشد وأعمق وأعناب وتمر وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وعسل شهى مصفى ولبن لم يتغير طعمه وماء زلال غير آسن وخمر لا يذهب بالألباب، وزوجة طيبة حانية محبة أكثر بهاءاً وجمالاً من زوجته فى حياته الدنيا،

كان يسأل نفسه وهو فى خضم رؤياه هل أنا مت وانتقلت إلى العالم الآخر وأدخلنى ربى جنات النعيم بعد أن غفر لى وصفح عنى؟ ما هذا الإبداع الذى أراه وما هذا الجمال الذى يخلب الألباب ويأخذ بالعقول ويأسر القلوب؟ ما هذه اللذات المنقطعة النظير؟ بيت من ماس وفرش من عسجد؟ واثاث ليس له مثيل وزوجة رائعة البهاء والسحر والجمال؟ إننى أعرفها جيداً، إنها زوجتى وحبيبتى فى حياتى الدنيا ولكنها هنا أكثر حسناً وبهاءاً وروعة وجمالاً، سبحان ربى مالك الملك، ما هذا الذى أرى؟ وما هذه المساحات المترامية الأطراف من الزرع والنبات بكل أنواعه واشجار الفاكهة وشتى أنواع الثمار الطازجة اللذيذة؟ وما هذه المشروبات الجميلة التى لا يزول طعمها بل يزداد تأثيراً كلما مر الوقت ؟ هل فعلاً أنا فى الجنة؟
وما هذه المخلوقات الجميلة الطلعة االبهية المنظر الرائعة الحسن التى تدخل علىّ من كل باب يلقون عليّ السلام ويحيونى ثم يطيرون بأجنحتهم الرائعة المزركشة ويطوفون حول المكان؟ هل هؤلاء هم ملائكة الرحمة الذين قرأت عنهم فى القرآن الكريم وعرفت صفاتهم من آياته الكريمات؟

لوحة 2:

وعلى الجانب الآخر وفى نفس القرية يعيش السيد حاقد خبيث يعود كل مساء مقطّب الحاجبين، سىء الطلعة قبيح المنظر، وشياطين العالم تتراقص على وجهه بعد يوم عسير من العمل الشاق فى الغش والنهب والسرقة وأكل حقوق الناس بالباطل والتهكم من الطيبين والإستهزاء بالصالحين لأنه يعتبر أن كل طيب فاعل للخير هو غبى لا يعرف مصلحته ويرى أن كل إنسان له عقل يفهم أو قلب يعقل يجب أن يستغل موقعه ومنصبه فى نهب الناس والضحك على ذقونهم والنصب عليهم لجمع أكبر قدر من الأموال ولتملك أوسع مساحة من الأرض وبناء أكبر عدد من العمائر التى تؤجر للناس أو تباع تمليك بأسعار خيالية .

يدخل حاقد خبيث على بيته فيرفس الباب برجله ولا يلقى على أهل السلام ويلعن زوجته وأولاده ويطلب الطعام فيأتى له فى الحال أشهى أنواع الطعام فيلتهمها كأنه تمساح جائع ولا يحمد ربه ولا يعرف لله طريقاً، فهو فاسد مفسد دائماً شيطان شرير يكره الناس جميعاً ولا يطيق أن يسمع عن قصة نجاح حقيقى أو أن فلاناً قد وفق فى كذا أو كذا فما يلبث أن ينزل لعناته وغيبته ونميمته على جيرانه الطيبين وأهل بلده المخلصين ثم يقوم ليذهب إلى فراشه لينال قسطاً من الراحة بعد يوم شيطانى شاق فى الظلم والإستبداد والتخريب والتعذيب والتضييق على الخلق وبث الكراهية والحقد فى القلوب .

نام فى هذا اليوم نوماً عميقاً جداً فرأى نفسه مقيداً بسلاسل وجنازير من حديد ملتهب خرج للتو من نار قديمة ووجد مخلوقات عجيبة الشكل واللون والمشهد حمر العيون تخرج النيران من عيونهم ويحملون فى أيديهم مقامع من حديد يضربونه بها على وجهه وظهره ضرباً مبرحاً ثم يسحبونه على وجهه على أرض ملتهبة تنبت بالجمرات ورأى مخلوقاً مخيفاً يحضر له نبتة من شجرة إسمها الزقوم ويدخلها فى حلقه فتحرق حلقه وبطنه وتشعل النيران فى كل جسمه، ثم يطلب ماءاً فيأتيه مخلوق مخيف يصب فى فمه وجوفه ماءً يغلى كالمهل كغلى الحميم يقطع أمعاءه فيشربه باكياً متذللاً ويطلب الرحمة فلا يجيبه أحد ثم ينظر إلى أعلى بعيداً جداً فيرى جاره حامد الطيب يجلس فى قصر عظيم وحوله كل خيرات الله تعالى فيطلب منه أن يفيض عليه من هذا الماء الزلال أو الطعام اللذيذ الذى حرم منه ولم يعد يتذوق غير الزقوم والجمر والماء الذى يغلى فى بطنه كالمهل، فيرد عليه قائلاً أن الله حرمهما على الكافرين، ثم يرى أشباحاً عجيبة تحوم حوله وجوههم كان يعرفها فى الدنيا نعم إنهم هؤلاء الذين طغى عليهم وتجبر وظلمهم وقهرهم وعذبهم وحقر من شأنهم وسرق خيراتهم ونهب أرزاقهم، ولكنهم ليسوا هم إنهم مخلوقات تشبههم جاءوا نحوه يسومونه سوء العذاب بما قدمت يداه فى الدنيا الفانية التى غرته وغره فيها بالله الغرور .
كان يحاول أن يهرب من هذا العذاب الرهيب ولكنه كان يجد مخلوقات مخصصة للعذاب تقوم بإعادته إلى قعر جهنم فيستغيث ولا من مجيب ...ويطلب من أكبرهم قائلاً له أدع ربك يخفف عنا يوماً من العذاب فيرد عليهم قائلاً إنكم ماكثون ..

لوحة 3:

زوجة حامد الطيب ذهبت لإيقاظه فلم يستيقظ لقد مات وقابل وجه مولاه سبحانه وتعالى، بكت بحرقة شديدة ولكن قلبها المؤمن بالله واليوم الآخر يأبى أن تكون غير صابرة فأحاطوا بالرجل كما تحيط ملائكة الرحمة بعباد الله الصالحين ثم قاموا بعمل ما يلزم لأبيهم من غسل وصلاة عليه ودفن فى مقابر الغلابة فى لحد تحت الأرض واحتسبوه عند مولاهم ودعوا له بالرحمة والمغفرة.

وفى طريقهم إلى البيت بعد مراسم الدفن كانوا يقرؤن قول الله تعالى:

(( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) النحل 30-32

لوحة 4:

زوجة حاقد خبيث تدخل لإيقاظه ليستأنف ظلمه وجبروته ولكن الله تعالى يأبى ذلك فقد انتهت حياة حاقد الظالم ولم تعد لديه أى فرصة للتوبة إلى الله تعالى وقد عمره الله فى الأرض ما يتذكر فيه من تذكر ورأى نهاية الذين ظلموا أنفسهم وتبين له كيف يفعل الله بالمجرمين وكيف يأخذهم أخذ عزيز مقتدر فلا يفلتهم أبداً ..

خرجت زوجته ونادت أولادها فى سعادة بالغة كأنها عثرت على كنز، فجاءوا إليها مهرولين غير مصدقين أن الظالم قد فارق الحياة وقد آن لهم الأوان أن يذوقوا طعم الحياة ولذتها ويتمتعوا بما تركه لهم من ثروة طائلة وليذهب هو إلى الجحيم وبئس المصير .

ثم قاموا بعمل إجراءت دفنه فى مقابر الأغنياء الشاهقة المحلاة بالرخام والمرمر والتى يقوم على خدمتها عدة اشخاص مقابل راتب شهرى ويذهبون كل خميس لنشر العطور حولها وتوزيع الأكل والفاكهة والفلوس على فقراء المقابر طالبين منهم الدعاء للفقيد .

وعند المقابر سمعوا رجلاً يتلو قوله تعالى:

(( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ )) النحل 28- 29


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى