الجمعة ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم جمال عبدالرحيم

إجازة مرض

لم تصدق سمر كلام الطبيب وهو يشرح لها عن مرضها. فتلعثمت تقول وهي تنظر إلى أوراق التحاليل الطبية على الطاولة أمامه:

ـ لكنك في البداية قلت لي أني أعاني من عوارض الإرهاق المفرط.

فأجابها الطبيب باقتضاب:

ـ نعم.. هذا كان تشخيصي الأوِّلي.. السبب هو الإرهاق المفرط..طلبت التحاليل حتى أتأكد أنك لم تصلي إلى مرحلة المرض.

ـ والتحاليل الان تقول أني وصلت مرحلة المرض؟؟

فأومأ الطبيب برأسه. وبعد صمت قليل أردف يقول لها مطمئناً:

ـالعلاج متوفر ولكن سيستغرق بضعة شهور. الأهم في العلاج أن تغيري نمط حياتك وان تقلّصي من نشاطاتك.

فأجابته بنبرة أسى وهي تبتسم ابتسامة باهتة:

ـ هذا ما يقوله لي كل من يعرفني.

بسط الطبيب كفيه الغليظين على الطاولة أمامه. وقال لها:

وأكرره أنا لك.. الإنسان مثل الآلة تتآكل وتعطب إذا تم تشغيلها أكثر مما تطيق..عليك بالراحة، وأن تولي العناية لنفسك.

وشرع يكتب لها قائمة بالأدوية التي عليها أن تتناولها..

رجعت إلى البيت بعد أن اشترت الأدوية التي وصفها لها الطبيب. كانت أختها الصغرى تنتظرها بالباب. فابتدرتها بالقول ممازحة:

ـخير يا جاموس؟.. ماذا قال الطبيب؟؟

ولكنها سرعان ما استدركت تقول بعد أن لاحظت توجمها، ورأت كيس الدواء في يدها:

ـ خير إن شاء الله؟

فردت بعدم اكتراث:

ـ كل شيء على ما يرام.. أين أبي؟

فقط والدها يمكن له أن يواسيها، وأن يخفف عنها. فقد اعتادت منذ صغرها أن تهرع كلما شعرت بضيق، أو ألم بها أمر ما. ولم يفت ذلك أختها. فقالت لها متجهمة:

ـ أبي ذهب لعيادة أحد أصدقائه القدامى في المخيم. قال أنه سيرجع في المساء.

وتابعت تسألها:"خير..؟ لماذا كل هذه الأدوية"؟؟

ضحكت متصنعة..وقالت تزجر أختها:

ـ لا شيء.. لا شيء.

وهرعت إلى غرفتها، وأوصدت خلفها الباب. رمت بالأدوية على المنضدة بجانب السرير. وأخرجت أوراق التحاليل الطبية، وبدأت تقرأ فيها. لم تستوعب شيئا مما قرأت فوضعتها جانبا.

جلست على حافة السرير. وبعد لحظات أخرجت هاتفها النقال، وبدأت تبحث في قائمة الأسماء.. مع من تتحدث..؟؟ أعز صديقاتها حامل وتتوقع أن تضع مولودها الأول بعد أسبوعين.

ولا يمكن لها أن تزعجها بأمر مرضها.. من إذا؟؟ خطيبها أحمد؟؟ لا.. لا. فأمه ستسارع إلى فسخ الخطوبة حين تعلم بمرضها. ولا بأس بذلك. فهي كانت قررت أن تفك ارتباطها به بعد أن أدركت في الأسابيع الماضية قوة تأثير أمه عليه.

من..؟؟ من..؟ أين أنت يا أبي..؟؟

نظرت في ساعة يدها، وتأففت. فهو لن يرجع قبل ساعتين. فكيف ستمضي هاتين الساعتين؟ فجأة رن الهاتف في يدها. ترددت قبل أن ترد على المكالمة بعد أن قرأت اسم مخابرها على شاشة الهاتف الصغيرة. كانت فاطمة من جمعية رعاية الطفولة تذكرها بالإجتماع الشهري للجمعية الذي سيعقد الليلة. فبادرت بالإعتذار عن الذهاب بالقول:

ـ أبي مريض.. ولن أتمكن من الحضور..

ولكن فاطمة أصرت بحزم تقول:

ـ هو مريض وليس أنت..وجودك في الأجتماع الليلة مهم للغاية..
وأنهت المكالمة.

مهم..؟؟ كل شيء مهم عند فاطمة حتى مقدار السكر في القهوة. ولم تمر ثوانٍ قليلة حتى عاود الهاتف الرنين.. ولم تتردد هذه المرة في الرد. ففي
الطرف الآخر كان عمر. وكانت تأنس بالحديث معه وتستمتع بصحبته.

بعد تبادل التحيات طلب منها أن تقوم بمهمة مرافقة وفد أجنبي زائر يريد القيام بجولة ميدانية في المخيم لمعاينة شبكة الصرف الصحي. وشرح لها عمر أن صديقتها فاتن اعتذرت عن مرافقة الوفد. وقتحت عليه أن يوكل إليها أداء هذه المهمة.

تعجبت من ذلك. وعلًقت تقول له:

ـ لكن فاتن مولعة بمرافقة الوفود ولا تفوت فرصة لترطن بالإنجليزية.
ضحك عمر. وشرح لها قائلاً:

ـ قبل قليل تذكرت أن غدا يصادف حفل خطوبة ابنة عمتها.....
فقاطعته قائلة:

ـ غدا..؟ لا يمكن أبدا.. غدا سأصطحب تلاميذ المدرسة الأطفال في نزهة.
قبل عمر منها عذرها، ولكن طلب منها أن تقترح عليه فتاة أخرى يمكن لها ان ترافق الوفد الزائر. فسارعت تقترح عليه اسم فاطمة.. فضحك عمر بصوت عالٍ. وقال بمرح:

ـ مَن..؟ فاطمة..؟ فاطمة ستغسلهم ببهدلة لتقصيرهم وبعدها ستقدم لهم قائمة بمقترحات إنشاء مشاريع بدل بهدلات المساعدات العينية..

ضحكت هي الأخرى. وأنهت المكالمة بعد أن تمنت له حظاً سعيداً.

بعد هاتين المكالمتين فكرت قليلا. وخلصت إلى أن الطبيب كان على حق. فهي تُجهِِِِد نفسها أكثر مما يجب. وتحمٍّل نفسها فوق طاقتها. وضعت الهاتف على المنضدة، واستلقت فوق سريرها على ظهرها. وعاودت تفكر.

معظم النشاط الإجتماعي في المخيم تقوم به الفتيات تطوعا وبدون مقابل مادي. وهناك كثير من الفتيات غيرها يعملن في هذا المجال. ولكنها تألقت بينهن لأنها لم ترفض يوماً أي عملٍ طُُلِب منها. فكانت في نشاط دائم. كل يوم تذهب في الصباح إلى عملها كمعلمة قي مدرسة إبتدائية. وبعد الظهر يستهلك النشاط الإجتماعي في المخيم معظم وقتها. وفي المساء عليها أن تحضر اجتماعات تحضيرية لنشاطات قادمة. او تذهب إلى أمسيات أدبية. وأحياناً كانت ترافق والدها في زيارات مجاملة للأقارب وأصدقاء العائلة، وهذه عادة دأبت عليها منذ وفاة والدتها..

وفي الليل كانت تذاكر ساعة أو ساعتين لدراستها العليا. وأما أيام العطلة، فهي ليست لها للراحة والإستجمام. ولكن لمزيد من النشاطات.

تنهدت، وهمست لنفسها "بصراحة يا بنت اليوم يجب أن يكون 48 ساعة بدل 24 ساعة. أو أن أنفلق إلى اثنتين".

وابتسمت لنفسها. فهي بدينة قليلاً. ويوازي حجمها حجم فتاة ونصف. ولذلك تناديها أختها بتودد بلقب "جاموس"..

سمعت قرعاً على الباب. ومن ورائه جاءها صوت أختها تنادي اسمها. فردت عليها أنها ترتاح الآن، وستخرج بعد قليل.

بقيت مستلقية على السرير. أرخت اعضاء جسمها.. وبعد لحظات بدأ النعاس يداعب جفونها. فاستسلمت له، وهي تتمتم لنفسها " فقط غفوة بسيطة حتى يرجع أبي "، ونامت. ولم تصحُ إلا على صوت رنين الهاتف.

كانت الغرفة مظلمة، فتحسست بيدها، وتناولت الهاتف من على المنضدة. كانت فاطمة على الطرف الآخر. وقبل أن تحييها بدأت فاطمة تصيح بها منزعجة:

ـ ماذا..؟ نائمة..؟ نحن ننتظرك هنا.. وحضرتك نائمة..

الساعة جاوزت الثامنة والنصف إذأً.. رجع والدها بالتأكيد. فردت على فاطمة يصوت مليء بالنعاس:

ـ قلت لك لن أحضر، فأبي مريض.

ـ كاذبة! رأيت أباك قبل ساعتين. كان في سيارته خارجاً من المخيم..

ـ فاطمة.. عزيزتي سأشرح لك فيما بعد..

فردت عليها فاطمة مغضبة:

ـ لا يوجد فيما بعد.. صرت أكسل مخلوق أعرفه..

وأقفلت الخط..

أرجعت الهاتف على المنضدة، وهمت بالنهوض لتخرج إلى أبيها. ولكن قبل أن تقوم سمعت نقرا خفيفا على الباب، فميزته. فهذا نقر أبيها حتى لا يوقظها إن كانت نائمة، فأسرعت تفتح له الباب. وحالما رأته رمت بذراعيها حول عنقه، وهي تتمتم:
" أبي.. أبي.. لقد تأخرت "..

أشعل والدها نور الغرفة. وقادها إلى السرير وأجلسها عليها. وجلس هو بجانبها. وسألها بحنان:
ـ ما الذي يشغل صغيرتي الآن؟

ـ أبي أريد أن افسخ خطوبتي من أحمد..

ـ كما تريدين.. غداً أذهب وأكلم والده بالأمر. لكن ما الذي يشغلك الآن..

أطرقت سمر قليلاً. ثم قالت بصوت منخفض:

ـ التحاليل أثبتت أني مريضة..

فرد والدها وهو يبتسم:

ـ لكن الطبيب قال أن مرضك ليس مرضاً مستعصياً، فالعلاج متوفر.. وعليك بالراحة.

جحظت سمر عينيها، ونظرت إلى والدها نظرة إتهام. وقالت:

ـ أبي.. لا أصدق!! أنت تجسست علي عند الطبيب.

فضحك يقول:

ـ لا يا حبيتي..هو إتصل بي، فقد خشي أن تخفي الأمر عني.

شاركته الضحك، وهتفت تصيح:

ـ اللعين.. اللعين!!!

وبعدها أردفت تساله قائلة:

ـ أبي.. ماذا تظن علي أن أفعل الآن؟؟

فأجابها بهدوء:

ـ ببساطة نتبع وصفة الطبيب.. ثمن العلاج يمكن أن نتدبره ولن يؤثر ذلك على دراستك أو دراسة أختك..

ولكنها احتجت تقول:

ـ أبي.. لكن كيف يمكن أن أغير نمط حياتي.. فأنا لا أعرف حياةً غير هذه..

فبقي صامتاً ولم يجبها.

فتابعت تحتج:

ـ أبي.. ولكن الناس بحاجة إلي.

فطوقها بذراعه.. وهمس لها:

ـ كنت دائما فخوراً بك تتفانين في خدمة الناس. لكن الآن عليك بالراحة.

وجلسا صامتين حتى نادت عليهما أختها الصغرى لتناول العشاء.

بعد العشاء تناولت أقراص الدواء. ثم صلت ركعتين كعادتها قبل النوم.

بعد أن انتهت من صلاتها وتلاوة أورادها استلقت في سريرها تفكر..

أخيراً خلصت أن والدها على حق. فالناس بحاجة إلى فتاة تتمتع بصحة جيدة وحيوية ونشاط وافرين.. وعليها بالراحة كما قال الطبيب. مدت يدها الى هاتفها وتناولته من على المنضدة.. ضغطت على زر قائمة المواعيد، ومن ثم على خيار المسح. ترددت لحظة، ثم ضغطت عليه، ووضعته جانباً. وهمست لنفسها:

" غداً أشتري شريحة جديدة برقم آخر "..

بعد ذلك استدارت إلى جانبها الأيمن، وخلدت إلى النوم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى