السبت ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم جودت جورج عيد

الحكـيم والذئـاب

جلس الحكيم في مقعده الخشبي قبالة ذلك الكوخ المسكون في التلّ المقابل لبيته، نظر طويلاً علّه يرى شيئاً غير الدّخان المتصاعد في مدارات الضوء، دون جدوى، راح يستنشق رائحة أخشاب الصنوبر المحروق التي تملأ فضاء الليل ويرقب من بعيد تلك النار التي أشعلها، قرب الكوخ، جاره منصور وثلاثة رجال آخرون من الحي، الذين خرجوا ذلك المساء وسط زغاريد النساء، حملوا بنادقهم والفوانيس وراحوا الى ذلك الكوخ الذي يحوم حوله ذئب كبير.

يقولون، إن الذئب الكبير وحش يأتي لحماية الكوخ المسكون، ولم يجرؤ أي شخص دخوله أو الاقتراب منه منذ اختفى مسعود، صاحب الكوخ، تاركاً الأطباق المنقوشة النادرة والجرار القديمة والمعدات الثمينة، التي كان يستعملها في صهر المعادن والقلائد الذهبية.

وصارت تُحكى حكايات وحكايات، عن ذلك الذئب الكبير الذي يستطيع بأسنانه تمزيق عشرة رجال في ضربة واحدة، ذلك الذئب الذي يتربص بالفتيان والفتيات، لينقضّ عليهم ويأكل حتى عظامهم الغضة، وكانت النساء تقدِّمن القرابين ومنهن من يصلّين الصلاة المريمية ومنهن من يذهبن الى قبور الأولياء، لتحرس صلاتهن أهل الحي، من شر ذلك الذئب الملعون الذي تسكنه الروح الشريرة.

كان منصور والرجال الذين معه بمثابة أبطال، حيث خرجوا لمواجهة الذئب وكانوا قد بنوا لهم خيمة صغيرة على مقربة من الكوخ لرصد أي حركة لذلك الذئب المريب، الذي صار يظهر كل ليلة ويخيف الناس. في كل مساء، كانوا يحملون عتادهم وزادهم ويذهبون للسهر في الخيمة ويجلسون حول النار على أهبة الاستعداد لأي مفاجئة "ذئبية" في الليل الموحش.

اعتاد الحكيم أن يجلس في مقعده قبالة ذلك الكوخ كل مساء، ليراقب الأبطال حين يصلون الى الخيمة قرب الكوخ ويضرمون النار، بالرغم من أنه لا يستطيع الرؤية بوضوح، الا أنه أصرّ أن يراقب ذلك المشهد كل مساء وهو جالس، يحتسي فنجان الشاي الانجليزي، ويستنشق رائحة أخشاب الصنوبر المحروق المنتشر في أثير الليل منذ بدأوا هذه المهمة.

وتتوالى الليالي الصيفية وتليها ليالي الشتاء الباردة والمخيفة ويزداد الرجال الأبطال إصرارا للخروج الى مهمَّتهم وانتظار الذئب، يحملون معهم الزاد والعتاد وطاولة النرد ورقعة الشطرنج لسهرة جديدة مع المغامرة.

لكن لم يظهر أي ذئب طوال المدة، وصار منصور والرجال يقضون الليل حول الكوخ وعند مدخله وبعدما اشتد البرد والمطر، قرر الرجال الأبطال دخول الكوخ الذي حاولوا مراراً، استراق النظر عبر نوافذه الخشبية المغلقة. وعندما فتحوا الباب فوجئوا بالكمية الكبيرة من الأدوات المنزلية الثمينة، أدوات زراعية، موجودات أثرية وجِرار مزخرفة وسبائك صغيرة من الذهب. لم تصدق أعينهم ذلك المنظر الجذاب، لكنهم قرروا أن لا يلمسوا شيئاً في البداية وأن لا يخبروا أحداً عما وجدوه في كوخ مسعود المسكون الذي يحرسه الذئب المخيف.

واستمر الرجال في مهمَّتهم الليلية، لكن لم يعد الحكيم يرى النار من بعيد ولم يعد يرى الخيمة، بل صار يرى الفوانيس تحوم حول الكوخ ثم تختفي داخله، حتى أول خيط من خيوط الشمس، فيعود الرجال الأبطال الى بيوتهم دون أن يراهم أحد، حتى ولا زوجاتهم، ومعهم بعض الغنائم الثمينة المتروكة للغبار في كوخ معتم... وكانوا يخرجون من بيوتهم، فقط عندما يفيق الناس من نعاسهم، ليحكوا لكل الناس حكاية مثيرة ومغامرة جديدة، حول الذئب وعيونه المشتعلة الباحثة عن فريسة في الجوار! في أحد الأيام، حملوا حكاية تروي بأن الذئب الكبير قد هاجمهم وقد حاولوا قتله، الا أنه استطاع الفرار منهم، ومرة قالوا أنهم رأوه يلاحق فتاة عارية، كما يبدو ليست من الحي، وقبل أن يفترسها، قالوا باشمئزاز، أنه داعب شعرها ولعق نهديها ثم التهمها بسرعة فائقة، ولم يستطع أيٌّ منهم الخروج لقتاله لأنه سريع الحركة وضخم جداً ومخيف…

لم ير الحكيم في الليل أي شيء. في كل ليلة كان يجلس في شرفته ويراقب ذلك الكوخ، لكن لم ير أي ذئب، بالرغم من ان بيته أقرب بيت يطلّ على الكوخ وعلى التلّ الذي أسماه أهل الحي "تلّ الديب". لم يستطع الحكيم رؤية شيء، غير مصابيح الرجال التي تدخل الكوخ مراراً وتخرج منه، حتى يغلبه النعاس فيذهب إلى فراشه ليقوم في الصباح ويستمع إلى حكايات الذئب الكبير.

وانتهى الشتاء والمطر والضّباب وحلّ الصيف بكل قيظه وقرّر الرجال، في نهاية حزيران، التوقف عن مهمة التربّص للذئب قرب الكوخ المسكون. بعض الناس قال بأن الرجال قد قتلوا الذئب، والبعض قال بأن الذئب قد مات ولم يعد يأتي إلى الحي، والبعض قال بأن الذئب سيعود يوماً، وسوف يقضي عليهم جميعاً ولن يحمهم أحد بعد اليوم فلم يعد المكان آمنا، والبعض قال أن الرجال قد تعبوا ولم يعد هناك ما يخيف، إذ أن الكوخ، في الشتاء الأخير، قد بقيت أبوابه مفتوحة وكانت الريح تلاعب شبابيكه الخشبية ولم يعد هناك أي شيء، غير "خرابة" ليس فيها شيء.

لم يعد " تل الديب" يعني شيئاً للناس، غير حكاية يروونها عن ذئب كان يحوم في المكان، يحرس السرّ الكبير في الكوخ المسكون، وظلّ الحكيم خلف نافذته، يقول: "لقد رأيت لصوصاً يشعلون النار هناك… ولم أرَ الذئب الكبير… لقد رأيت ذئاباً تلمع عيونها وكأنها فوانيس، تحوم وتحوم وتحمل كل شيء ممكن أن يُحمل… لكني لم أر الذئب الكبير التي تخرج من عينيه النار"...

أما الناس فقالوا ان الحكيم المسكين بالكاد يرى خلال النهار فكم بالحري في عتمة الليل؟! غير أنهم استمعوا إلى حكايته كل يوم، فلم يعد هناك حكاية يرويها الرجال الأبطال، بعدما صار الكوخ مهجوراً، ليس فيه شيء، لا كنوز ولا حتى قشّ، وصار فناؤه ملعباً للريح أو ساحة لصِبيةٍ يلعبون في النهار، وجحراً في الليل، للباحثين عن عتمة تلفّ أجسادهم العارية لتحترق شهوة، أو مرتعاً للتائهين في جزيئات "غبار الملائكة" البيضاء للحظات من هذيان...

جلس الحكيم في مقعده الخشبي ليرشف الشاي الانجليزي الفاخر... ويحضِّر حكاية جديدة لنهار اليوم التالي! (لندن)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى