الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

أشباح وأرواح

في اللّيل البهيم، يكاد سائد الشواوي أن يشاهد أشباحاً متحركة طويلة سوداء، بأذرع عديدة تتماوج في الهواء، وأرواحاً هائمة! على شكل بقع ضبابية سابحة في الفضاء المعتم، تجتاح أفرع الأشجار الباسقة، فلا تعرقلها، ولا تتأثر باصطدامها بأعمدة الكهرباء، أو الهاتف، ويسمع أنيناً مخنوقاً لموتى يتألمون تحت الأرض، وحوافر خيل تطارد على البلاط المحيط بمشروع قصره الذي بناه على الرابية الغربية من مدينة العولمة، ليكون بعيداً عن العمران المكتظ، بعد أن أقنعته زوجه أسمهان، بأن في البُعد عن الناس هدوءاً، وراحة لأعصابه المنهكة، التي هدّها الزمن، وثقلت عليها هموم الحياة، فتكاثفت حركات الأشباح حوله، خاصّة عندما تهبُّ رياح عاصفة! فإنه يسمعها ممزوجة بصهيل خيولٍ مندفعةٍ، تقذف بنفسها في اتجاهات متعاكسة! تريد أن تقطع حبالها، وكأن الضِّباع الشّرسة، تهاجمها على أطراف المدينة!

كان الشواوي يحاول أن يطرد تلك الشرور، والأحاسيس السوداوية التي تعصف بكيانه، تذكّر كلمات أغنية قادمة من الجزيرة العربية تقول:

" الحياة صارت ثقيلة، وابتسامتي قليلة" لا بل صارت ابتسامته معدومة، فإن التقرير الذي قدَّمه الدكتور الألماني (فريدريش) عن حالته الصحية، كان مرعباً لجميع أفراد عائلته ومعارفه، ومن لهم علاقة به! كان عنوان التقرير (نقص المناعة)!

"(إيدز)! صاح السائق بركات الأسمر مفجوعاً!" ولكن أم سفيان المصدومة بالخبر، قالت وهي تبكي:
"يا جماعة؛ تقرير الدكتور يقول (نقص مناعة) ولم يقل (إيدز)! وقد تكون هناك أسباب عديدة لنقص المناعة، وليس بالضرورة أن يكون ما تتخيلونه صحيحاً!" صارت عيناها بقعتي دماء، يتواصل انهمارُ دموعهما، على شكل ساقية.وقال السائق بركات الأسمر لنفسه:

" لم أكن مغفلاً، أو أهبل أو ساذجاً، عندما رفضتُ طلب(أبو سفيان) الركض برفقته مساءً، كنوع من التّمرين الرياضي، الذي كان يمارسه في كثير من الأمسيات، مقلداً الرئيس الأمريكي المنتخب، الذي يركض حول البيت الأبيض، استعداداً لدخوله.."

وفعلاً كان أبو سفيان يستعدُّ، بعد التجهيزات النهائية، لدخول قصره الفخم، في الرابية الغربية لمدينة العولمة..صار قصره لافتاً لأنظار المارّة من بعيد، أو لراكبي السيارات، أو الذين ينظرون إلى الآليات المتحركة حول ذلك البناء العملاق، المتربِّع على قمة الرابية، وكأنه ديناصورات عملاقة، تتجمع للتّعارك هناك على قمة الجبل... كانت الشاحنات والرافعات والإنشاءات وخلاّطات الباطون الجاهز، التي تضخُّ حمولتها الإسمنتية الرخوة، لتغطية وعقد سقف من السقوف الكثيرة، وصبّ الأسوار الخارجية للبناء، والتي تحيط ما يزيد على ثلاثة هكتارات من الأرض، تنبيء بأن شيئاً عظيماً سوف يقوم هناك عند القمّة.... وهذا ما جعل الشواوي فخوراً بتميزه هناك..التميّز بكل أبعاده؛ السّكَن وراحة البال، والصحة والمال الوفير والشهرة! عالم المعرفة! حب البقاء والخلود! ذلك هو شعور من يبني مثل هذه النماذج المُمَيّزة من الفخامة المعمارية، إنهم يُقلِّدون (إرم ذات العماد.التي لم يخلق مثلها في البلاد!) والأهرام؛ قبور الفراعنة التي تعني؛ القصور الأبدية، وإيوان كسرى، وصرح ضريح تشان كاي تشيك في جزيرة فرموزة، وتاج محل في الهند، وضريح لينين في موسكو، ونصب (إبراهام لنكولن في واشنطن دي سي).. كل هؤلاء عملوا من أجل تحقيق الشهرة! من أجل الخلود، حياةٌ إلى الأبد. وإلا فلماذا كل هذه التعقيدات، والتفاصيل المعمارية، لحياة بائسة، نحن فيها ضيوف على الأرض؟ نحن نمرُّ على هذه الأرض، ولا نتوقف... لا نهدأ، منذ ولادتنا وحتى مماتنا، ثم يأتي بعدنا أشخاص آخرون، ويمرون بالطريق نفسه، فلا يهدؤون! ولكن الشواوي قرّرَ أن يسكن ويُحقِّق السكون أو الهدوء، في ذلك القصر العملاق.. ولكن أي هدوء هذا الذي فاجأه في تقرير الطبيب الألماني!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى