الثلاثاء ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم عبد الله المتقي

محكيات القص وتقنياته في (أنفاس مستقطعة)

ثلاث وعشرون قصة قصيرة تحمل عنوان (أنفاس مستقطعة) يقدمها القاص المغربي عبد الواحد كفيح إلى قرائه في أول تجربة له، صدرت عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة الكتاب الأول ب 74 صفحة من القطع المتوسط.

عبد الواحد كفيح يلتقط اليومي المألوف ويعيد إخراجه بأسلوب مهووس باستغوار البسيط الموغل في العمق، بعيدا عن اللبس الذي أصبح يتسلل إلى أغلبية الكتابات القصصية، كما تسير الأحداث بين يديه بهدوء يشبه خرير ماء النهر على ارض فيها الانحدارات كما الارتفاعات، يقصها سارد بارع،تارة مطواع، وتارة حرون،،وقدح زناده -كما مصباح علاء الدين- يلمع بالدهشة والغرابة.

تحكي قصص المجموعة قضايا الطفولة، تقترب من براءتها وعفويتها، كما قي قصة (صراع)، حيث اللعب المعقلن (هز، حط، هز، حط، هز حط) ص 49، ويبلغ الشغب ذروته حين نقرأ في نفس القصة (استجمع العصفور أنفاسه ومن بين أصابع سليمان انفلت ثم طار)

تقترب نصوص المدونة من الأمكنة السفلى، ومشاكل كائناتها المهمشة، التي تدفعها الدونية إلى التمرد على واقعها بطرقها الخاصة، وقد يكون هذا التمرد سخرية سوداء، وقد يكون ضحكا كالبكاء، كما في قصة (مسعودة) التي تنرفزها شيطنة الصغار بمن فيهم أحفادها (فكانوا يثيرون أعصابها مرددين النشيد اليومي، مسعودة كالتها الدودة، مسعودة مسعودة) ص 40.

في قصة النحل – وهي برأيي من أجمل قصص المجموعة -، حيث تحول هذه الحشرات النافعة إلى قناع يعبر عن الثورة ضد الاعتداء على الحقوق، وكل محاولة لتخديش الحرمات، ف(بطش) الصلب والخشن مع محيطه والنحل حتى، ريثما ينفجر النحل ضد جبروته ويكون مصيره (أرخبيل من الفيالق شمرت على ساعد الجد، فراحت تغازله بلسعاتها وتمت بالجملة، لكنها تتلذذ في لسعه قبل الموات) ص 9

وتأتي قصة (المقبرة) لتلامس مكانا طالما تم التغاضي عنه في الكتابات القصصية، رغم ما يحبل به من سحر وأسطرة واندهاش رهيب، ربما قد يكون الدافع لدونية المقبرة في الكتابة كونها تذكر بالموت، هذه التيمة التي طالما أرقت الإنسان منذ فجر التاريخ.نقرأ في ص 11(كلما دخلتها إلا وحضرني العالمان المتناقضان: الجنة والنار، فيستولي علي الذعر والخوف الرهيب)

في (تابوت طائر) نقرأ في نهاية القصة (وصلت قافلة التوابيت الطائرة، وكان نصيب القرية منها واحد) ص 45، ولاشيء بعد ذلك سوى الموت ينظر في كفنه الأبيض (فبداخل التابوت وجدوا مظروفا وسع رسالة مكتوبة ببياض ناصع البياض).

وباعتبار القص جنسا مفتوحا، وقابلا للزواج الوثني مع بقية الفنون والأجناس، تقترب قصة (خراب حلقة) من مكان شعبي واحتفالي، كان وما يزال فضاء للتمسرح، والاحتفال، إنها مسرح من لا مسرح له، ومنبر من لا منبر له (في ساحة الحلقة، وضع صندوق خشبي كبير) ص 25

(حالة استنفار) تفضح السلطة، المواطن المتواطئ المدسوس في كل مكان، كما تفضح شيخوختها وتآكل أساليبها،.فالوليمة التي اعتقدها السيد القائد اجتماعا لتنظيم سري (وبعد استدعاء كبار رجال الدرب وأعيان المدينة بمن فيهم فقهاء البارحة، تبين أن الاجتماع كان عبارة عن وليمة لأعصاب البطن ليس إلا) ص 21

لم تكتف أنفاس كفيح بمشاكل شخصياتها وقضاياها الساخنة والمستفزة،، بل اقتربت من المكان، باعتباره جزءا منها، يعاني منها وتعاني منه.

ولان أنفاس القص من زمن ولى، يشكل حضور الحنين إلى المكان قيمة مضافة في المجموعة، هناك أمكنة بعيدة في تلافيف الذاكرة، حيث يبدو الحنين ومقاومة انمحائها هي التيمة المهيمنة في علاقة القاص بها، وبذلك تعومل معها كفضاءات تحمل دلالات أعمق، وليس كجغرافيا، ومن أنماط الفضاءات التي وظفها القاص : فضاء المدينة، فضاء المقبرة، فضاء الأحياء والدروب، فضاء القرية...

يقوم كفيح باستدعاء أعلام إنسانية معروفة، سواء أكانت تاريخية، أو دينية أو شعبية، أو غيرها، محملا إياها موقفه وهواجسه بحيث تغدو رمزا لتلك القضية او الفكرة ومن هذه الأعلام : طارق بن زياد، نيرون، الأسكندر المقدوني، يوسف، يونس،علاء الدين....

يقول في قصة (رحلة رومية لمغامر عربي) ص 33(في تيفولي اهتز كياني، أفزعني هذا الجبل المعفر بعبق التاريخ، هل هنا فعلا غنى نيرون، مستمتعا بألسنة النار وهي تلتهم روما؟)، يقوم التناص في المقطع السابق على استدعاء شخصية " نيرون " التي تظهر متسلطة، سفاحة وغارقة في ساديتها، ومن خلالها يمرر القاص رؤيته الخاصة لتيفولي الايطالية، ويمكن الإشارة أن هذا الاستلهام لشخصيات كونية ومتنوعة يحبل بدلالات جديدة مرتبطة بتلك الدلالات القديمة.

إن الخيط الناظم للكثير من قصص الأنفاس المستقطعة هو السخرية، هذه التقنية التي لها جذور في أدب كل الأمم، نقرأ :

(وأسماله البالية يهزها البرد فتظهر عظامه كفزاعة وسط موجات من الدخان)

(تقوس، تكوم كالحية، لوح بإحدى أفاعيه في الهواء كالمقلاع) ص28

(يسترسل الوشم الى ما تحت الذقن والعنق والصدر و.. إلى أخمص القدمين، يوحي بأنها " أنتيكا ") ص 40

هذه الأوصاف الساخرة والتهكمية، يمنح النصوص القصصية أهمية خاصة في التأثير على المتلقي باعتبارها أدوات لتفعيل جمالية التلقي، كما يفتح عيون القراءة، وينمي شهية الضحك والتهكم والاستخفاف

على سبيل الخلاصة :

يكتب عبد الواحد كفيح بعفوية ساحرة، دون التفات إلى التزويق، أو البحث عن مفردات لا تخدم شخصياته التي تبدو قريبة منه، كما لو أنها تعيش بيننا على بعد أمتار قليلة،
وبعد، فإن قصص (أنفاس مستقطعة) لها نكهة خاصة، لا تشبه إلا عبد الواحد كفيح، كما تمثل إضافة إلى إلى المنجز القصصي المغربي والعربي عامة، وهي تكتسب أهميتها من دقائقها، تفاصيلها، خفاياها، وسخريتها السوداء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى