الخميس ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم أكرم سلمان حسن

الابتسامة الثالثة

لم يكن يوماً عادياً لعائلة عاطف المغربي الصغيرة، المكونة من.. سيادة العقيد.. (كما يسميه أهل الحي قبل أن يكتسب لقباً مختلفاً في المساء) وزوجته سعاد وابنته الأرملة نور، وحفيده كمال. الذين يسكنون داره المكونة من طابقين، تزين واجهتها على امتداد السور المحاذي للطريق نباتات متسلقة. وخلف الدار وقفت أشجار الحمضيات مصطفة كالعسكر. بدأ كل شيء صباحاً حين استيقظت العائلة لتجد الثلج يملأ المكان، ويسد الدرب الضيق الواصل بين البوابة الخارجية لسور المنزل وباب الدارة.

مشهد الثلج المتراكم في الحديقة، أدخل البياض عنوة إلى الدارة الغارقة في السواد منذ وفاة مروان (ابن أخ العقيد وزوج ابنته الوحيدة) والذي وجد فيه العقيد تعويضاً عن ابنه الذي لم يلد قط. عاشت العائلة طوال ثلاث سنوات حياة أقل ما يقال فيها أنها تعيسة، الحزن المستوطن أشجار الليمون، التي شهدت موت مروان، بعد سقوطه بينها، تنزف دماؤه لساعات قبل أن ينتبه إليه أحد، ذاك الحزن مازال يخيم فوق الرؤوس، يسكن النفوس و ينداح في أرجاء المنزل، يصل الوسائد وملاءات الأسٍِّرًّة، يرشها بالدمع كل ليلة.

الثلج المتراكم أعلن حصاره للدار ومنع الخروج، مما اضطر العقيد للتسلل من النافذة، لتحرير الباب من كتائب الثلج التي تحاصره، وهذا لم يكن أمراً مألوفاً في بلدة ساحلية، تصاحبت وهطل المطر، ودارة العقيد، قبل هذا الصباح، لم تستقبل الثلوج سوى مرة واحدة في العشرين سنة الماضية. واستقبلت معها، ابتسامة نور الأولى لهذا اليوم التاريخي في حياة الأسرة، كان هذا حين أطلت من النافذة وشاهدت الثلوج غافيةًً على حافة النافذة.

خرج الجميع من الأسر، إلى الحديقة المغطاة بالثلوج، آخر الخارجين كان الصغير كمال، مد رأسه بحذر شديد كي يرى ذاك العدو المجهول المدعو ثلج الذي يحاصرهم (كما تخيل عندما سمع الجدة سعاد تقول أن الثلج يحاصر المنزل) قال لأمه <<لابد أنه قوي جداً ذاك الثلج كي يمنع الجميع، حتى العقيد بذاته، من الخروج من باب المنزل>>، ابتسمت نورا لدى سماعها رأي الصغير، تلك الابتسامة، كانت ابتسامتها الثانية هذا اليوم.
وحين لم ير أحداً في الخارج، زال خوفه وركض إلى ما ظنه قطن أحضره جده لصنع الفُرُش الجديدة بدلا عن تلك القديمة، بناء على رغبة جدته التي أعلنت عنها بالأمس، لكن غياب نصف رجليه في القطن البارد، أعاد إليه خوفه، فتوقف ناظراً إلى أمه ، التي ركضت إليه، فحملته ومشت به إلى حيث الأشجار، تقطف عنها ندف القطن وتفرك بها وجهها، حتى عاد إليه اطمئنانه، وبقيا يلعبان بالثلج حتى المساء، حيث نام الجميع تلك الليلة باكراً، فالكل مرهق من الثلج ,إما وإزاحة، وإما لعباً.

وحدها نور لم تنم، أمرٌ ما يشغلها. فرجل الثلج الذي صنعته اليوم وهي تتخيل مروان، أسعد نهارها ولكن سعادتها نغصت عندما تذكرت أن الربيع قريب من أبواب الحديقة.. على بعد أسابيع قليلة، فكيف تحافظ على الثلج الذي يدفئ قلبها!! وما بين النوم واليقظة جاءها صوت مروان شاحباً كالثلج.
نور.. ترى هل اعتدت فراقي.. أنسيت عهدنا..لا يفرقنا شيء سوى الموت.. وكان احتجاجك عالياً فصدقتك حتى الموت يجب أن يكون ثنائياً.. يجب أن نرفضه يأتينا فرادى.. لا يأخذك من حضني.. ولا أترك حضنك.. الحي فينا يتنكر كفناً أو رشة عطر.. وهكذا يتسلل خلسة إلى القبر.. ويكون عناقاً أبدياً>> ألم تكن تلك كلماتك نور؟ مت قبلك وانتظرتك، لكنك تركتني هناك، في تلك الحفرة المظلمة الموحشة.. وهاأنت اليوم تعيدين الكرة.. تخلقيني من جديد.. وترحلين عني.. تزرعيني هنا.. تحت نفس الشجرة المشؤومة.. مطروداً من حضنك ثانية.. أستعيد موتي الأول.. وأنتظر موتي الثاني.. عند أول سنونوة تطير بقربي.
هبت نور تاركة الفراش الغارق بالدمع وجرت راكضةًً.. آتية حبيبي.. لا أتركك ثانية والله.. نلتصق كما تعاهدنا.. جسداً واحدا نعود.

صرير باب المنزل الخلفي، أيقظ السيد عاطف وهو الحذر بطبعه نتيجة خدمته الطويلة في سلك الأمن، التقط مسدسه المحشو دائماً ,محركاً عتلة الأمان، واضعاً إصبعه على الزناد، متحسباً لشبح من يأتيه الماضي، (كابوس يزوره كل ليلة)، توجه إلى حيث الباب الخلفي، فشاهد نورا تحمل المعطف والقبعة العائدين لزوجها وتتجه بهما نحو الأشجار حيث غابت وراءها.. جمد الدم في عروقه.. أيعقل أن ابنته تجلب له العار.. وهو من هو، تأتي بعشيقها إلى المنزل، وتهديه ثياب زوجها الراحل، لم يصدق ما رأته عيناه.. سيذهب خلفها ليتأكد من ظنونه من جهة ومن هوية العشيق الذي تجرأ عليه وداس كرامته، سار على دربها بخطى بطيئة ، إلى أن وصل الأشجار، الضوء هنا أخف، لكنه كاف ليتأكد، كانا هناك، متعانقين، الفاجر يدير له ظهره بكل ازدراء.. الياقة العالية والقبعة يمنعانه من التعرف على شخصيته.

مدنساً معطف المرحوم وقبعته.. هنا في عرينه.. يهتك عرضه.. يبصق في وجهة.. يطؤه بحذائه.. ساخراً من تاريخه و أوسمته وبطولاته.

هو من هو، مهاباً من الجميع في القرية، أغنيائها قبل فقرائها، سمعته القاسية التي لازمته سنين الخدمة، لم تتقاعد مثله، سبقته إلى مدينته، وكان خبر عودته حديث المدينة و بخاصة أهل الحي الذي تقع فيه داره، كانوا خائفين.. متوجسين.. من خطأ غير مقصود قد يودي بهم. كيف لا وهو الضابط الذي ملأ اسمه البلد رعباً أثناء الاضطرابات التي عصفت بالوطن.

صعد الدم إلى رأسه وأحس بقلبه ينخلع من صدره.. تسارعت أنفاسه غامت عيناه.. وتشوش ذهنه.. دهمته صور متلاحقة.. عاد صغيراً، تغريه أمه بالخروج واللعب بظل شجرة التوت التي يحب,يلبي رغبتها بفرح.. لكنه يشعر بالعطش.. يعود ليروي ظمأه من الجرة الفخارية الباردة.. هناك كان الشيخ ريحان يطرحها أرضاًً.. ضحكهما يملأ البيت الطيني الواسع.. يخاف مما رآه ويخاف أن يرياه، يعود أدراجه إلى الظل، تغيب الصور و تحضر.. متداخلة فيما بينها.. ويعود الشيخ ريحان ضاحكاً.. لكن هذه المرة يحمل على كتفيه نسراً و نجمتين.. يطرح زوجة السجين الشابة أرضاً.. صراخها يملأ.. ذات البيت الطيني الواسع..!!<<أتوسل إليك لا تلوثني، يكفي زوجي موتاً>> يكمم فمها بيده.. يحس تحته انتفاضات الجسد الغض.. يزيد الضغط إلى أن يخمد.. يملآ أذنيه صوت رفرفة لجناحي طائر حسون، يتناول مسدسه ويرديه قرب باب الزنزانة.. هلوسات أنهاها.. صوت رصاصة.

لم يصدق عينيه حين رأى الفاجر مازال واقفاً.. لا يفهم.. كيف حدث هذا! كيف أخطأ الهدف ومن مسافة قريبة كهذه!! وهو الذي لم يخطئ يوماً جسداً واحداً. قفز يروم اقتلاع حنجرته و تمزيق عينيه.. لكن أصابع العقيد الحارقة، غاصت في عنق رجل الثلج الذي نحتته نور صباح اليوم.

جن سيادة العقيد.. واستحق لقبه الجديد، وأصبح منذ هذا المساء,العقيد المجنون، وذلك عندما شاهد ابنته تسقط أرضاً، يدها على صدرها تبعد ألم النار المشتعلة.. لكن.. تعلو وجهها الابتسامة الثالثة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى