الجمعة ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤
بقلم عبد الفتاح الزايدي

الأخرس

قصة قصيرة

كان نحيلاً وصلباً ، شعره الكث الأبيض لطالما أثار اهتمامي ، كل شعرة فيه تدل على واقعة معينة كانت أحدثه ، ويحدثني ولكني كنت أكتب له فكان لا يسمع ما أقوله ، في الوقت الذي كان فيه متحدثاً بارعاً ، تفصلني وإياه على وصول الباص في أحدى محطات طرابلس بضع دقائق قال لي والثقة تملأه :

أشجار التفاح والكرم وشجيرات العنب تكسو الأرض ولعل خضرتها ما أ ضاف لها رونقاً خاصاً ، في مساء كل يوم كنا نجلس نحتسي ( الزهورات والقهوة الشامية ) ولمة العيلة وعند أكتمال القمر وموسم الحصاد كانت الدبكة تقض مضجع الليل بنغماتها الحماسية المشحونة بالعاطفة ، وضفائر الحسناوات وهن يردن الغدير لجمع الماء بقراب الجلد وأواني الفخار ، ضلت تلهب أفئدة الشباب ، انحدرت دمعة على خده المجعد وكأن السنين قد حفرت فيه مثلما حفرت في ذاكرته . قال لي وهو يبعد دمعته ، كل شيء كان جميلاً كنت يومها في السادسة أو يزيد قليلاً لي أبناء عمومة بعضهم يلبس قميصاً فضفاضاً ويأكل الفول والآخر يرتدي قميصاً أقصر قليلاً مع سروال فضفاض ويأكل الشعير المعجون المزيت بالطبيخ لا أعرف أسماؤهم ولكنهم أبناء عمومتي وكفى .

مع تباين عاداتهم وتقاربهم إلا أني أذكر جدي كان يحدثني عنهم ويشوقني لزيارتهم وحالهم أفضل من الآن فكنا نمش ي ونتبادل الزيارات : نحن عرب ، ولكنه صاحب البشرة الحمراء وحقده .

إيه يا ولدي غيه لقد حفر ذلك اليوم في ذاكرتي بئراً عميقاً ... سمعنا صراخاً وعويلاً وصوتاً قوياً جداً وشيئاً ضخماً يطير في الهواء ويزمجر كالرعد لقد أفزع طير الوروار الذي كان يزورنا تلك الأيام والبلابل والزرازير أيضاً ، كان يلقي بأشياء يدمر كل شي ويقتله . جدي صاح يومها إنهم اليهود وكلاماً لا أفهمه ..

انتداب بريطاني . أرض الميعاد ووعد بلفور ، أذكر يومها أننا حملنا ما نقدر من متاعنا وأمي وأبي ، وأختي ( فرح ) ضلت وهي لم تتعدى الشهرين بعد ، لقد كانوا مشاة فأشجار التفاح والكرم ستلعنهم ، ضلت أ وراق التفاح شيئاً فشيئاً فيما كان حمارنا في سيره ناسياً ثقل الحمل الملقي على ظهره ، دخلنا أرضاً غريبة مكسوة بالأشجار الكثيفة وصار حمارنا يعلن عن تعبه بنهيقه الحاد والهدوء يغلف المكان ... نصبنا خيمة هناك وشرعت أحمل ما قدر عليه ولد في السادسة من عمره ، جارنا أكرم قد تبعنا ونصب هو الآخر خيمة ولأسرته ، سألته عن حال القرية وقد تحسست موضع شاربي لقد رأيت جدي يفعل ذلك ، الأوغاد ، علق جارنا أنهم يحملون بنادقهم الرشاشة وعربات تحمل أنبوباً حديدياً يصدر صوتاً قوياً يفجر كل شيء .

صاح جدي أنها الدبابة ، رغم أني لم أسمع أن جدي درس بالجامعة أو سبح في أغوار السياسة إلا أنه واسع الثقافة والمعرفة ، سرعان ما عجت الغابة بقريتنا ، تكاثرت الخيام هناك حتى أسميناه مخيم القرية ، سألت جدي لماذا لم يأتي أبناء عمومتنا ليطردوا اللص سارق القرية وأشجار التفاح ، تنهد جدي بعمق فيما بدأ بإشعال سيجارته وقال إنهم الآن يطاردون لصاً مختلفاً ، ولكن يا جدي اللص يسرق وقد يضطر للقتل فماذا لصنا هنا يقتل فقط ولا يهتم بالسرقة ، ولكن من هم اليهود يا جدي .. إنهم يسرقون الإنسان .. علق جدي ، ولكن يا جدي نحن لسنا عبيداً ولم نستعبد أحداً فيما عدا حمارنا ولكنه يأكل التبن وأنا أداعبه كثيراً ، أبتسم جدي لبراءتي وقال لي : بشيء من الثقة سوف نسرقهم ياجدو .. سوف نسرقهم .

مرت أيام ونحن نصارع البرد والخوف والمرض ، جدي يصارع الموت وهو مزال ممسكاً بالتفاحة التي أحضرتها له خلسة من مزرعتنا التي عجت باللصوص حتى أن جارنا المسيحي لم يسلم منهم لقد حطموا ديره وصنعوا منه أسطبلاً للدواب .. فيما تراخت قبضت جدي على التفاحة كانت روحه فارقت جسده النحيل ... تدحرجت التفاحة على أرض الخيمة حتى أصدمت بقدمي وأنا لا زلت واقفاً على باب الخيمة فيما علا صراخ وعويل النساء الذي تلاه عويل وصراخ من خيام أخرى ، أردت سرقة أحد اللصوص أخذت مسحاة وتسللت إلى أحدهم وفيما كان يتكلم مع رفيق له اقتربت منه وضربته على مؤخرة رأسه لقد علمني أن قتل أحدهم يعني أن أسرقه كما سرق قريتنا ..

تكاثر حولي زملائه ببزاتهم العسكرية وحملوني وقد أوسعوني ضرباً وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري ، بعدها حملوني إلى ( علي باباتهم ) نضرت إلى رأسه فرأيته خالياً من الشعر ولمحت كيف أنه يربط عينه بلفافة سوداء على غرار القراصنة الذين طالما حدثني جدي عنهم أمطرني بسباب لا أفهمه وأمرهم بطردي وأسرتي إلى هنا يا ولدي حيث تراني ، وقبل أن أرحل حملت معي هذا الكيس من التراب لقد رأيتهم ينضرون إلي وأنا أحمله وكيف أنهم بدوا ينضرون إلي بعضهم ويضحكون ، ولكني كنت أريد أن أ زرع التفاحة رائحة قريتي غير أني لم أفلح فالتراب هناك متجانس جداً ، انحدرت على خده دمعة أخرى ولكنه مسحها هذه المرة بقوة ، أخرج من حقيبته كيساً بالياً وفتحه ونثر بعضاً من التراب على حافة الإسفلت وأقفل الكيس بسرعة . عجبت من أمره وأمر أبناء عمومته . وفيما أقبلت الحافلة ( الأفيكو ) صعدت وتركت ذلك العجوز على مقعد الأنتضار هو وترابه وبقايا قريته .. في الوقت الذي تخترق فيه ( الأفكو ) شوارع طرابلس .. شعرت بالأسى والحزن على قرية تركها أبناء العمومة تعيش شاهدة على لصوص البشر .

قصة قصيرة

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى