الاثنين ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤
قصة قصيرة
بقلم هداية شمعون

زينـة

كان وجهه مضاء بلهفة المسافر من جدران الصمت.. عيناه المفجوعتان تحدق في حلكة النهار الذي بات رمادا في يومنا المتلألىء بدموع عاجلة كما عودتنا الحياة دوما في طرقات المخيم.. يداه كأنما امتدت جذورهما في السماء فبات قطعا من الليل الذي لم يرحل يوما عن دارنا الصغيرة.. دارنا التي لم ترونها..

إنها دار فرحة لكنها عجوز مثلي أنا التي لم أتجاوز الثالثة عشرة ربيعا.. غرفتان واحدة لأمي وأبي والثانية لي وشقيقتي وأحمد الصغير.. وساحة الدار تتخللها أشعة الشمس من شقوق الأسبست في سطح دارنا.. فنتزاحم كلنا على نقاط الشمس في الشتاء ونتهرب منها في الحر القائظ.. لم يكن هنالك من داعي للبحث عن الحياة خارج الدار فخلفنا تقبع مستوطنة يهودية.. منذ ولدت وأنا أسمع عنها لكني لم أحاول يوما أن أراها ..

كانت أمي كل صباح تخبر لنا الزعتر حتى بات الهواء الذي نتنشقه .. تضع العجين الطري ثم تمسحه ببقايا زيت الزيتون لو وجد ثم ترش الزعتر فيتساقط كأنه نسمات هاربة من الحياة.. تنتشر رائحته سريعا لنحرك أعيننا تجاهها ..فتبتسم بحزن قائلة الآن سأحضره لك يا زينة..

كم أحب أمي حين تناديني باسمي اشعر أنها تقصدني أنا وحدي، يمنحني صوتها مزيدا من الحب والقوة.. أما احمد فيهرع إليها حيث تخبز على فرن طيني في زاوية الدار مهللا سبقتكما.. فأقول له حين تكبر يا أحمد لن أتركك تسبقني ..

إلا أن دموعي تسيل دونما أشعر.. في السابق كانت أمي تهرع لتمسح دموعي غير أنها الآن أصبحت تتركني قليلا وتشيح بنظرها..
لم يكن أحمد يضايقني أبدا لأنه صغير لا يدرك ما يقول لكن لماذا أمي تشيح بنظرها ولا تهرع لتمسح دموعي وتضمني فأشم رائحة الخبر في ثيابها..!! لماذا أصبحت متثاقلة في مشيتها نحوي.. لا بل نحو كل شيء كانت أشبه بنحلة تعمل ليل نهار..

شعرت بها في تلك الليلة قربي.. كانت صامتة تحدق في العتمة ..لم أكن نائمة همست.. زينة.. أجبتها وعيناي في ثقب جديد أعلن عن نفسه في سطح بيتنا..

 نعم يا أماه ..
 زينة حمل أبوك أختك والصغير خارجا هنالك إطلاق نار كثيف قربنا والجنود يحيطون بالمكان نخشى ألا يكون البيت بأمان..
  تريدون أن تتركوني وحدي يا أمي..
  نحيبها يعلو .. تغرق وجهها في ثيابي .. لا يا حبيبتي الآن سيأتي والدك لا تقلقي لكني أشعر بالدوار لذا لم أقو على حملك ..
  اعلم يا أمي .. بت كبيرة وثقيلة .. أنا ..
  كفى يا زينة ..
  أماه أنا خائفة جدا.. .
  حبيتي لا تخافي سأحملك لن أنتظر مخاطرة والدك ..

كانت تحاول أن تحركني، لكنها لم تتمكن كانت تنتحب لذا فقد خارت قواها مع انهمار الرصاصات من فوقنا وانفجارات القذائف التي أضاءت المكان ..
  زينة .. زينة ..
ذهبت صرخاتها أدراج الرياح ..لا ادري كيف زحفت وسحبتني خارج الغرفة.. رأيت كل شيء.. الدنيا تمطر رصاصات، اللون الأصفر والأحمر والأبيض باتوا لونا واحدا ..رأيت الموت بين انشطارات سقف غرفتي وهو يتطاير.. بينما دولابي الذي لم أفتحه يوما تساقط كشمعة بالية .. رأيت نفسي راقصة باليه ممتشقة القوام.. بينما ترتفع إحدى قدماي للأعلى .. بحركات دائرية ..حسنا لقد أخبرتني داليا صديقتي عن راقصات الباليه.. لكن داليا لم تعد تزورني لأن بيتنا غير آمن كما قال والدها..

لم اعد أشعر بالخوف.. صمت كل شيء دفعة واحدة ..صياح الشبان من حولنا أيقظني من موتي المصطنع ..حملونا خارجا.. والدي أصيب هذا ما سمعته من جارتنا ..

  كان يحمل الصغيران ولم يكد يضعهما حتى وقع أرضا .. قالت جارتنا .. كان يهتف باسمك وينادي على والدتك .. أخبرتني بعد القصف بيومين حين ذهبت أمي إلى العيادة ..
ربنا يعين أمك على مرضها .. والله إنها..
  أمي مريضة . .
صرخت بما املك من قوة ليأتي صوتي مبتورا ..
فجعت أم محمود .. آه يا ابنتي ألم يخبروك .. أكيد ما بدهم يشغلوا..
  أمي لا .. أمي ما بها . .
.. حمي اشتعلت بكل جسدي الذي لم أشعر به يوما.. ولم أتحسسه يوما لأدرك الفرق بيني وبين داليا صديقتي التي زارتني مرتين ثم رحلت هي الأخرى..
..أمي ..

  زينة حبيبتي أفيقي الدكتورة هنا تريد أن تطمئن عليك ..
  لماذا أنت مريضة .. أمي ..
  زينة أفيقي ..
جاء صوت والدي يحمل حزن العالم ويحتضر..
 أمك ليست مريضة يا زينة أمك ستأتي لك باخ أو أخت ألا تريدين أخا أو أختا..
  لماذا يا أبي .. لتضعها بجانبي لا تقو على أن تصافحك يوما ..
سمعت بكاء الجميع ورأيت وجه الدكتورة .. وهي تحدثني وحدي بعدما أخرجت الجميع .. قال والدك انك فتاة قوية لكني لا أرى ذلك .. زينة أنت تحملين والديك أكثر من طاقتهما.. زينة أمك لم تحمل برغبتها كانت تأخذ حبوبا لمنع الحمل لكن الله شاء غير ذلك .. ألا تؤمنين بالله ...
أومأت برأسي .. وقلت لها أخبري أمي أني أحبها ...
فأسندت رأسها إلى الحائط قائلة .. ستأتيك هنا كي تخبريها بنفسك ..
.. لم أتوقف عن النظر لدولابي المحطم ..حاول والدي مرارا أن يصلحه لكن عبثا .. رفضت أن يغيروا شيئا ..عروسة أختي لم يبق منها إلا الرأس بفعل قذيفتهم..بينما احترقت بقيتها وبقت كلوحة حزينة .. كنت أرى فيها نفسي ..إذن لست وحدي التي لا تقو على الحراك .. هناك الكثير من الدمى مثلي.. وربما البشر الذي يمشون ويركضون .. تذكرت المعلمة التي كانت تأتيني قالت لي ذلك .. فأخبرتها أنها تريد أن تجعلني أظن ذلك لكني أكدت لها أنها لا تقول الحقيقة فانا لم أرى حارتنا ..ولا أعرف من الجيران إلا من يزورونا .. وليس لي أصحاب ولم أذهب للمدرسة .. وقائمة تطول..
كنت حزينة يومها وأنا أقول لها كل ذلك .. فصمتت المعلمة سعاد نعم أذكر اسمها.. ولم تجبني يومها..

جاءت بعدها مرتين لكنها شعرت أنها لا تقدم لي شيئا ..فليس لي إلا عينين هما كل عالمي وهما ما أرصد بهما الصورة وصوتي الذي ينبلج من الأعماق صادحا بالحقيقة التي لم تستطع أن تغير فيها شيئا ..
.. سالت أمي ذات يوم وهي تحضر الزعتر... لماذا خلقت أنا بهذه الصورة واحمد خلق كباقي الأطفال..

صمتت أمي وقالت بعد برهة طويلة .. زينة ..

 أمي أريد أن اعرف حقا .. لن أبكي ولن أغضبك ..
 حبيبتي لقد سكنا في هذا البيت بعد أن تنقلنا في أكثر من مكان، وكثيرا ما اسقط اليهود قنابل غازية على السكان في المنطقة هنا. ولأننا قرب المستوطنة فهم كانوا دوما في حيطة دائمة لإرهابنا كي لا نقترب من سياج المناطق التي احتلوها.. وذات يوم سقطت إحداها هنا في فناء الدار قبل أن نضع الاسبست وكنت وحدي بالبيت بينما والدك كان في عمله فأغمي على من كثرة ما استنشقت من الغاز.. وأخذني الجيران للمشفى .. ولم أدرك ما حدث كنت حاملا بك .. وظننت انه غاز مسيل للدموع كما كنا نطلق عليه لكنه للأسف كان من الغازات السامة التي سببت تشوها للجنين وهذا ما قاله الطبيب بعد ولادتك وهو ما سبب لك الشلل في كل أنحاء جسدك....

.. ثلاثة غيمات حطت قربي..كنت أركض بينهما وقد زرعت الورود في كل مكان .. كنت بيضاء البشرة .. وشعري كان قصيرا بسواد الليل .. تقافزت قرب الشطآن .. علني لا أسمع مزيدا من الحروف ..

كان الليل قد أوشك على الفلول .. وكانت طبول أفريقية تدق في راسي فلم تغمض جفناي .. كان الليل حالك .. وصوت الرصاصات لم يتوقف لكنه بات أكثر قربا .. كانت كلمات أمي تدق في رأسي فأتجاهل أصوات الجيران الفزعة وهم يهرولون .. دقات أيد فتية تحذر السكان من الصهاينة ..لم أحقد عليهم يوما مثلما أشعر الآن.. حياتي صغيرة أهدروها.. وأي مستقبل هذا الذي ينتظرني .. حرموني من الحياة وأبقوني جسدا قعيدا منذ طفولتي.. ولم يرحموا ما تبقى لي من ذكرى .. والدي كان يلوذ بالصمت كلما حذرنا الجيران من البقاء في المنزل فضيق الحال يجبره على البقاء.. ..

أراه الآن أمامي .. بعدما اشتدت الضربات وانفجرت القذيفة الشيطانية في غرفتي مرة ثانية.. لازال محدقا في ..أنقذ إخوتي وعاد رغم الخطر المحدق بالمنزل كي يأخذني.. كان صامتا كما عهدته لكن دمعا يتلألأ في عينيه .. احتضن جسدي المشلول بين راحتيه ..تساقطت دموعه على وجهي ..نظرت إليه والألوان تتجلى في دارنا.. لمح دموعي فهتف ..

  لا تخافي يا حبيبتي..
قذيفة أخرى جعلت الباب الخشبي يشتعل تراجع والدي بسرعة .. سقطت ثالثة وسقط جسدي الصامت ..انكفأت على وجهي ..بقيت أحدق في تراب البيت الناعم ..أشم رائحة الأرض.. صوت أنين يوقظني..
  أبي ..

  زينة .. لا ..تخافي..
صراخ هستيري أصابني.. دب الخوف في أوصالي .. أبي .. لماذا يالله .. أريد أن أجري.. أبي.. لا تمت الآن .. أبي....
ابتلعت صوتي علني أسمع أنينه.. أسمع صوت حفيف قربي.. يده تمسك رأسي ألمحه ..الدماء تغطي وجهه يغمض عيني ..
  لا تخافي يا زينة .. أحبك يا ابنتي...
  أبي..

يتدافعون قرب الباب .. عشرات الأرجل أراها .. يخفون بنا ..
يرن صوته في رأسي.. لا تخافي يا زينة..
ويأتي صوت أمي.. لا تبك يا زينة ... أحبك أكثر من حياته يا زينة...


مشاركة منتدى

  • ويحك ايتها الكاتبة الرائعة .. لقد استوقفتيني سريعا أمام بهاء هذا النص الطويل المفجع .. وعشته بارتجاف تخللني وأنا أعبر من بوابته الى تجسيده واقعا في غمرات القصف اليومي بعد خروج الدبابات من " شبه مدينتي "..

    كأنني أمام شاعرة في لغة الوصف .. وفنانة استطاعت ، بجدارة ، ان ترسم بريشة الكلمات ما تعجز عنه الألوان..ربما هي الحميمية الملتصقة ؟ ربما .. لكن استوقفتيني سريعا أمام بهاء هذا النص الطويل المفجع . دمت بخير ..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى