الثلاثاء ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم جمال عبدالرحيم

في يوم بنرجع

كانت الدموع تنساب على وجنتي أمه، وهي تبحث بين أنقاض منزلهم، بينما كان جده يقف بعيدا عنهما ينكأ الأرض بعكازه غير آبه بالدماراللامتناهي من حوله. فالمشهد لم يكن غريبا عليه.. كتل الإسمنت.. و ألواح الصفيح.. وقضبان الحديد الملتوية التي تطل من أحشاء الركام.. وبقايا الطوب التي تكومت على بعضها ليقيَ بعضها بعضا حرَّ الصيف الملتهب.. وأشلاء أثاث المنازل التي دمرتها المعارك تدميرا كاملا.. ولكنه كان حديثاً على "إيهاب"، ابن السابعة عشر ربيعا، الذي يراه رأي العين لأول مرة في حياته..

كان بوده أن يعرف عما تبحث أمه بين أنقاض منزلهم.. فقد مضت أيام وهم في هذه الحال. ففي كل يوم كان يأتي معها هي وجده إلى حيث كان ينتصب منزلهم قبل أسابيع. وما أن يملأ الركام عينيها حتى تفيضان بالدموع وتبدأ بحثها في صمت لم يعهده فيها. كانت في بعض الأحيان تشير إلى بقايا جدران مهدمة، فيهشمها بمطرقة كبيرة، ويلقي بها جانبا، وتتابع هي بحثها.ورغم أنه قدّر أنهما قلَّبا أنقاض منزلهم مرتين ولم تجد ضالتها، ولكنها كانت مصرة على البحث قبل أن تأتي الجرافات لإزالة الأنقاض.

ولمعرفة السر سأل جده قبل يومين:

ـ هي بنتك كانت مخبئة ذهب بالبيت؟

ورمقه جده نظرة استهجان، ولم يجبه.

وقت الظهر مر بهم بعض الصحافيين،فتوقفوا يلتقطون صوراً لجده، فاغتاظ من ذلك، وشتمهم في سره "أبناء العاهرات لا يصوّرون وينشرون إلا مصائبنا وبهدلاتنا ". ولما حاولوا أن يصوروا أمه نهرهم.فابتعدوا عنهم وتركوهم وشأنهم. فمن يدري ماذا سيكتب هؤلاء " الأغبياء" تحت صورتها إذا نشرت في الجرائد.

"إمرأة منكوبة تبحث عن بقايا السكر و الأرز بين أنقاض منزلها".

أو يحلو لصاحفي شاعري أن يكتب:

"منكوبة تبحث عن هنائها وسعادتها المفقودة".

وكأنهم كفلسطينيين عرفوا السعادة من قبل. فأيامهم كلها كانت مرارات. ولكن النكبة "الثانية" التي ألمّت بهم جعلت سالف الأيام تبدو كأنها ليالي قمراء. وتمنى لو يصدق أعضاء الوفود الزائرة بوعودهم بالإسراع بإعادة إعمار المنازل التي تدمرت حتى لا يبقى هو وأخوته ووالده المقعد موزعين ضيوفا ثقالاً في منازل أقربائهم لأسابيع أو لشهور طويلة..

ـ ما في أحلى من بيتنا..

هكذا أسر قبل أيام لأخته التي تصغره بعام.. وهو الذي كان يشتكي دائماً من سكناهم تحت سقف من ألواح الصفيح..

فعلى رغم ترحاب أقاربهم بهم إلا أن التجهم كان مخيما في دار عمه حيث نزل هو. ولم تكلف بنات عمه أنفسهن عناء إخفاء تذمرهن من وجوده في منزلهم، وكأنه بوجوده بينهن رغم خفة ظله كان يحول بينهن وبين الهواء الذي يتنفسنه.. ونسين أيام كن يستدعينه ليخفف عنهنَّ هُنَّ وصويحباتهن بلطائفه ودعاباته.. وأما زوجة عمه فكانت لا تفوّت فرصة إلا تنخزه فيها بشكواها من زيادة مصاريف المنزل.. وكان يسمع عمه يزجرها أحيانا بقوله:

ـ هو بطن واحد زاد علينا !!

ويستاء من وصف عمه له بالبطن.

وترد هي بغضب تقول :

ـ بطن واحد بس.. بس واحد.. الصبي يأكل مثل الغول !

ولا تلبث أن تلمِّح لعمه أن يستبدله بإحدى أخواته الصغيرات لتساعدها بأعمال المنزل. فيغلي الدم في عروقه.. فهي تريد لواحدة من أخواته أن تكون خادمة عندها في منزلها. وكان عمه يحسم الجدال بالقول:

ـ بناتك أولى أن يخدموك.. جنتهم تحت رجليك.

أشارت إليه أمه أن يرفع كتلة من الإسمنت من مكانها، فأزاحها بعد مشقة و جهد كبير. وابتعد يقف في الظل إلى جوار جده الذي كان يبدو هادئا جداً وهو يراقب ابنته تقلب بأغراض المنزل بين الركام، وترمي بها يمنة ويسرة.. ولكن هدوءه كان زائفاً إذ كان يمكن قياس توتره ببضع "كيلو واطات" تكفي لإنارة مصباح كهربائي ! !

فجأة لاحظ حماسها، فصاح بها كما اعتاد أن يفعل في الأيام الماضية :

ـ ها؟؟

فأجابته بصوت مبحوح، وهي تمسح دموعها:

ـ أظن لقيتها..

ولاحظ "إيهاب" أنها قالت " أظن" ولم تجزم بقولها، فلم يهتم كثيراً. ولكنها ما لبثت أن بدأت تصيح: " لقيتها.. لقيتها". وهرعت صوب جده، وهي تتعثر بين الركام، وفي يدها علبة صغيرة من "التنك" مهشمة لا يذكر أنه رآها في منزلهم قط.. فناولتها إلى جده وهي تبتسم بزهو.. أخذها الجد منها، وقلَّبها في يده بحنان بالغ، ثم أخرج من جيبه مطواة صغيرة عالج بها العلبة حتى فتحها.

كان في داخل العلبة بضعة أوراق صفراء تآكلت أطرافها. أخرجها الجد بأصابع مرتعشة.. وبدأ يتصفحها عن كثب. ثم أخرج من جيبه منديلاً، ودسَّها في جيبه بعد أن لفَّها به. وخاطب ابنته معاتبا:

ـ كانت معك عمر.. لو ضاعت لكان خراب بيتنا !!

ـ فيه خراب بيوت أكثر من هذا؟؟

هتف الشاب الطري العود مشيرا إلى أكوام الركام لعشرات المنازل المدمرة من حوله..

فردت عليه أمه باستنكار وهي تنفض الغبار عن ثوبها، وتعيد ترتيب هندامها:

ـ هذا بيتعمر.. بس لو ضاع الطابو ما بيتعوض.

و زجره جده بنبرة مفعمة بالأمل، وهو يربت على جيبه حيث وضع الطابو قبل لحظات :

ـ في يوم بنرجع لبلادنا.. وبنسترجع أملاكنا.

 [1]


[1[1] الطابو: السجل العقاري لممتلكات الفلسطينيين الذين هُجِّروا من ديارهم عام 1948. وما زال الكثيرون يحتفظون به للآن رغم أن قراهم دُمِّرت بالكامل، و أُقيمت على أنقاضها مستعمرات و كيبوبتزات يهودية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى