الخميس ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم محاسن الحمصي

على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحْــتي

لم يكن يتوقع وهو يحتضن نسخًا من كتابه الأول، مثلما تتلقف أمّ بحنو فرحتها البكر وأول عطر الأمومة.. أن ينتهي به المطاف بائعًا متجولا، تخيّـل لو أنّ بضاعته (سي دي) لاختلف الوضع، ووجد من يتحلقون حوله حد الاختناق...!
واصل طريقه كاتــــــــمًا حنقه، لاعنًا اللّحظة التي اكتوى فيها بنار الحرف.

أجابه صاحب المكتبة العجوز- وهو يقترح عليه الاطلاع على نسخة من كتابه، ودون فتح حقيبته اليدوية التي يضعها على كتفه- محرّكًا رأسه بالنفي..

العجوز استكثر عليه حتى الرد بكلمتين.. فكّر في أن يقترح عليه أن يغيّر مهنته، ويبيع أيّ شيء غير الكتب، حث الخطو في اتجاه مكتبة أخرى مقاوما رغبته في التقيؤ على الزمن الرديء!

انتظر صامتًا حتى سألْته عن رغبته وهي منشغلة مع زميلتها بالزبائن وحاجياتهم من الكتب المدرسية.. كرّر نفس الجملة الرتيبة، التي بدأ يحس بكراهية بغيضة اتجاهها، جاءه ردّها - باردًا- بأن صاحب المكتبة غير موجود، أيقن أنها تكذب، فمنذ ما يفوق عشر سنوات وهو يلمح طلعتها البهية في هذا الدكان الأغبر.. أحس ببقية كلامها كالصفعة:"مرة أخرى...!!".

" ياااااااااه، وكأنّي شحاذ، تطلب منه أن يعود في يوم آخر".

خاطبها بلهجة ممتعضة:

 كلامك جارح، يمكنك القول أنك لا تقرئين، ولا تردي عليّ بما قلت.
 قلت لك: صاحب المكتبة غير موجود، ويمكنك أن تعود مرة أخرى.
 قولي إنك لا تقرئين.
 نعم. أنا لا أقرأ، أميّة.. ألديك أيّ اعتراض؟!

تدخلت زميلتها لتهدئة الأوضاع.

انسحب من أمام دكان الكتب كسيرًا، تتكوم في قلبه كلّ المشاعر السوداء...

لمح صديقه الشاعر ينتظره في المقهى، ناوله نسخة من الكتاب وهو يحسّ بأنّ هناك من يشاركه فرحه بوليده البكر..

 اكتب أيّ شيء، لو متّ بعد أسبوع تبقى كلمتك..
 ماذا أكتب؟ لا أعرف ما سأكتب..
 اكتب أيّ شيء، ضروري..

هذا الصباح، استيقظ - ومن دون منبه- على الساعة السادسة صباحًا،أحس بنشاطٍ غريبٍ يدب في جسده المتعب..

- أفكر في الذهاب إلى الثانوية.
 ربما يطلبون منك نسخا مجانية.
 لا أدري..!!

التقى أستاذ مادة الفلسفة بشاربه الكث الأشبه بشارب نيتشه وهو يستقل سيارته أمام البوابة يتكلم مع أحدهم، والتلاميذ غارقون في تفاصيل الانخراط والدخول المدرسي، مد له يده:

 أستاذ عبد الله، كيف الحال؟

لمح الفرح يرقص في عيني الأستاذ، لم يصدق أنه يمكن أن يتذكره بعد عشر سنوات من الغياب، سأله عن أحواله، وفرح حين عانقت عينا الأستاذ كتابه، بادره قائلا:

 أعرف حبك القديم للّغة العربية.

ناوله الأستاذ قلمًا طالبًا منه أن يكتب أيّ شيء، الأستاذ يطلب من تلميذه الفاشل أن يكتب كلمة...

"إلى أستاذي الخالد في القلب والذاكرة (...) بعض حبّي الأزلي للأدب العربي. مع كل الحب".

ومدّ يده إلى حافظة النقود...

سأله عن أستاذ اللغة العربية، أشار بيده إلى مجموعة أساتذة أمام مبنى الإدارة، لمحه من بينهم، ألقى تحية عليهم، مدّ يده مصافحا:" أستاذ (...)، كيف حالك ؟".
وانتحى به جانبا...

 أمازلت تتذكرني، وتتذكر تفوقي في مادتك؟

أحسّ أنّ كلّ الدّنيا لا تساوي شيئا أمام لحظة مودة بين أستاذ وتلميذه رغم كل تقلبات الدهر..

انتهى لقاءهما بالاتفاق على دعوة حفل توقيع بعد شهر رمضان.

لمح أستاذ مادة الجغرافيا والتاريخ، حيّاه ببرودٍ، وتجاهله قائلا إنه مشغول بأمر ما في الإدارة، اعترض طريقه أثناء عودته وهو يتوجه إلى سيارته، لمح إليه بيده أنه لا يفهم القصص...

احتقر نفسه..

كان يعرف أنه مجرد كلب عجوز مراهق: " لو سألته إحدى التلميذات عن أيّ شيء، لوزّع ابتساماته البلهاء يمينًا وشمالا. شكرًا من القلب على الإهانة أيها الـ(...)!! على الأقلّ، يفترض بك أن تحييني، كما يجب بعد غياب عقد من الزمن.. بدل أن تعاملني، كما لو كنت متسولا !"!.

استشاط وكتم أنفاس غيظه، "على قلق كأن الريح تحتـ (ه)" بلغة المتنبي،
ينتظر أن ينتهي أحدهم من اجتماعاته الإدارية القصيرة، عبّر عن رغبته في الانصراف، وعدم تحمّله البقاء في المؤسسة، فطلب منه أن يترك له نسخة من الكتاب، ويكتب رقم هاتفه...

اندهش من كلام من تخيّل أنه مثقف بحكم دراسته للشريعة الإسلامية بأنه لم يعد لديه الوقت لقراءة قصص، وتتبع مسار شخوص وأحداث و.. و.. و..

 هذه قصص قصيرة وليست رواية...

 مضى زمن القراءة، كبرنا وانشغلنا بمشاغل الدنيا، المصاريف، الأسعار، الدخول المدرسي، رمضان، و.. و..و..

" بائع الجرائد أجابك بأن لا وقت لديه للقراءة وكتاب أحد المفكرين - منذ سنة- لازال مغلّفا... ياه! كم أكره من يتشدّقون بكلامٍ لا معنى له، مثلا، أحد الموظفين في تلك الإدراة التابعة لوزارة التربية والتعليم سألني عن معنى "مجموعة قصصية" وزميله الآخر سألني إن كانت قصص أطفال.. فقلت في سري: "لا، بل رسوم متحركة. يا للغباء!! ربّما عينتم -هنا- خطأ... ربّما!! فلم نلوم الآخرين على عزوفهم عن القراءة... ؟؟".

للتوّ، فكّر في موضوعه المجهض عن المهرجانات الصيفية، الغناء، الرقص وثقافة هزّ البطون، في حين لا تجد معارض الكتاب من يطأ أعتابها الشريفة أو يفكر في انتشال مجلّة ثقافية من سباتها المزمن، وهي تنتظر حتفها الأخير في ظلمة السراديب كمرتجعات. كأيّ شيء مستغنى عنه، تستخدم في ما بعد لأغراض أخرى.

الفكرة مطروقة لهذا تغاضى عنها، ومزق المسودة...

فكّر في الكتاب الذي استنزف كل مدخراته، في الرواية المشرقيّة المقرّرة على التلاميذ- والتي سيقرأونها رغمًا عنهم- وثمنها الخرافيّ وعدد الطبعات التي لم يحلم بها أيّ كاتب عربي من قبل.. في حين تصفرّ أغلفة الكتب وأوراقها خلف واجهات مكتبات كئيبة...

كل هذه الهواجس تدفعه دفعًا إلى البحث عن أيّ تعيسٍ سيّء الحظ يفجّر في وجهه غيظ وتعب يومه..

اخترق صدره الهواء الرطب داخل مقر الجريدة.

مازح السكرتيرة:

 لحسن الحظ أنّي لم أجدك عصرًا..

كان يفكر وهو في طريقه إلى الجريدة أن يقول لها: " هاتِ النسخة، لا أريد أن يكتب عنها أحد ولا بيعها.. اغربوا عن وجهي جميعا.. !!".

 قلت لكَ صباحًا: تعامل ببرود مع كل شيء.. صحتك أغلى من كل شيء.

انشغل مع صاحب الجريدة في حديث عن مشاكل الطباعة، ونفقات التنقل وأشياء أخرى، وعده بأن يطّلع رئيس التحرير على الكتاب، ولن يكتب عنه أيّ شيء قبل الاطلاع عليه.

داعب دواخله بعض الأمل، وأحس ببعض الحيوية.

مساء، تناول هاتفه الجوّال:

  أهلا، مساء الخير. كيف الحال؟

جاءه الصوت متثائبا:

 كم الساعة الآن؟!
 لم انتبه إلى أنها تجاوزت منتصف الليل.. لكنها ليالي رمضان، والمبدعون يحبّون السهر والكتابة ليلا...
 لا أعتقد بأنّ الوقت مناسب للعمل. هذا وقت راحتي..!!
أغلق الهاتف،وغرق في صمتٍ جريحٍ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى