السبت ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم محمد متبولي

دقات الرابعة

ثلاثون عاما، آلاف الكيلومترات تفصل بين القارتين حيث موطنه الأصلى وموطنه الحالى، وعشرات الأطباء حول العالم لم يستطيعوا أن يقدموا له الشفاء، يتحرك عقرب الثوان، تذوب مكعبات الثلج التى كونتها برودة عواصم اقامته، ترتفع درجة حرارة الماء لتقترب من الغليان، تتلون باللون الأحمر، تتدفق الدماء الساخنة عبر الشرايين حتى تصل إلى الرأس تماما مع وقوف عقارب الساعة عند الرابعة، حينها لا يفرق بين أن كان يجلس مع أحد معاونيه فى ادارة تلك الملايين التى جمعها عبر الدهر، أو احد كبار رجال الاعمال أو أحد قادة وزعماء العالم الذى أصبح جلوسه معهم أمرا طبيعيا، يشعر برعشة شديدة تجعله ينتفض من مقعده، يهرع نحو أقرب شرفة، ينظر نحو الشارع ويتذكر ما كأن كأنه الأمس.

يتابعها بعينيه تعبر الطريق متوجهة نحو منزلها، تلك الخطوات القليلة كانت كافية بالنسبة له ليمعن النظر فى وجهها، ذلك المزيج الصافى بين ملامح الريف والحضر، كما لو كان ملتقى بين ثقافتين أحدهما تضرب بجذورها فى الأرض والآخرى ترتفع حتى عنان السماء،يغذى ذلك الشعور لديه نظرة عينيها اللامعة التى تنضح بخليط من الذكاء والطموح، طريقتها فى السير، ملابسها، زينتها الخفيفة المنمقة غير المبهرجة، كلها كانت محل اعجابه، لا يتذكر من أحاديثها إلا القليل، لكن مايزال صوتها الهادئ الدافئ الرقيق يرن فى أذنيه، كيف كانت تتحدث عن نفسها وأحلامها، كان المستقبل يمثل دائما شغلها الشاغل.

يتذكر سبب افتراقهما، كانت أحلامها على أرض الوطن بينما كانت أحلامه خارج حدوده، ليغادر الوطن ومع الأيام تمحى كل الذكريات عدا وجهها وابتسامتها التى كانت تغمر قلبه بالسعادة، لتظل هى رابطه الوحيد بالوطن.

يسترجع عقله مرة آخرى، وبينما يستعد للعودة للمقعد، يقف مكانه مندهشا، يحاول التحقق مما يراه وأنه الحقيقة وليس تطورا مؤسفا لحالته المرضية، لحظات كما لو أنها بين اليقظة والحلم، نعم إنه وجهها الذى لا يمكن أن يخطأه، مهما تقدم بها السن واحتلت التجاعيد محل النضره، يندفع من مكتبه مهرولا على سلالم البناية فى لياقة عالية لم تكن لديه فى سن الشباب، هاجس واحد كان يشغله فى هذه الثوان المعدودة، لماذا تنازلت عن أحلامها وتركت الوطن، يقف كل منهما أمام الآخر، الكلمات تتحشرج، الصمت يسيطر حتى تكسره بابتسامتها المعتادة، ليدب فى قلبه الارتياح بعد أن تأكد أنه قد شفى من مرضه فالوطن بذكرياته قد اتاه بلا عودة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى