الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤

في معنى الحداث

فرحان بلبل ـ مسرحي سوري

جميع امور الحياة منذ قديم الزمان كانت تتدرج تحت واحدة من تسميتين: قديم وجديد. وما الجديد الا الحديث. والقديم هو (مجموعة من القواعد والاعراف التي اصبح لها تأثيرها بعدما فرضت وجودها بفعل قوتها وبفعل تقادم الزمن عليها). والجديد او الحديث هو مجموعة من القواعد والاعراف التي تخالف هذا القديم القوي وتحاول ان تحل محله). وتكون النتيجة ان الحديث ينفي القديم بعد ان يتضمنه ليصبح ـ بعد مرور بعض الوقت ـ قديماً يأتي حديثاً طارئاً ليقوم معه بالفعل ذاته. واذا بالبشرية كلها ـ بعد تطاول الازمان وامتداد الدهور ـ تتشكل حياتها في جميع نواحيها من قديم يتجدد ومن حديث يمتد في جذوره الى القديم. والمتمعن في هذه التركيبة العجيبة يخرج بالقول المشهور: لا جديد تحت الشمس.

وهذا التجديد للقديم قد يسير بهدوء فكأنه التوالد للجديد من رحم القديم. وقد يتخذ شكل هبات عنيفة تظن معها ان البشر يخوضون ثورة في مجال ما من مجالات الحياة. الم يكن القطار والكهرباء انقلاباً ثورياً عنيفاً في العلم مع انهما تراكم للخبرات السابقة وولادة طبيعية لتطور البحث العلمي؟ ألم تكن الرومانسية ـ مثلا ـ ثورة على الكلاسيكية مع انها في حقيقتها استمرار لاصول الفن والادب القديمين بعد اضافة بعض القواعد والتخلص من بعضها بحيث بدت الرومانسية نفياً للكلاسيكية بعد ان تضمنتها؟ أم يقف انصار الرومانسية في عرض مسرحية (هرناني) وكأنهم يقومون بثورة في الادب والسياسة حتى تضاربوا مع انصار بقايا الكلاسيكية؟ الم يصل الهجوم على اصحاب الشعر الحديث في الوطن العربي الى حد اتهامهم بالمروق من الدين والوطنية وبأنهم عملاء الاستعمار والصهيونية مع ان الشعر الحديث في حقيقته ليس الا تطويراً وتعديلاً للشعر القديم في الصورة والوزن؟

في الهزيع الاخير من القرن العشرين استمرت هذه العملية في استيلاء الجديد من عناصر القديم. لكنها اطلق عليها مصطلح (الحداثة) بديلاً من مصطلح الحديث او الجديد، ثم اصبح هذا اللفظ دلالة على تمرد انساني عام في مختلف شؤون الحياة المادية والروحية. وما هي في حقيقتها الا استمرار للعملية القديمة في ظهور قواعد وأعراف جديدة تتضمن قديم الحياة وتضيف اليها اشياء بعد ان تسقط منها اشياء. فلماذا تخلت البشرية في فعلها العادي المتعارف هذا عن مصطلح الحديث او الجديد واتجهت الى مصطلح (الحداثة)؟

كل ما جرى ان هذه العملية القديمة جرت بطريقة تبدو الدنيا معها وكأنها تثور على ماضيها لتتخلص منه بشكل مطلق، بل تسخر من هذا الماضي في كثير من التحدي والغضب. فكان مقدسات البشرية في الطعام والشراب والجنس والدين واللباس والتفكير والفن يقابلها سكان الارض بالرفض الحازم الجازم ليضعوا محلها اشكالاً جديدة صفتها الاولى انها ليست لها قداسة من ناحية، ولا تحترم القديم من ناحية ثانية مع ان هذا القديم يشكل النسيج الخفي لكل ما قدمته الحداثة في مختلف مناحي الحياة من مسألة الطعام والشراب الى ارقى اشكال الادب والفن. ذلك ان البشرية مهما حاولت ان تخرج عن سنن الكون فلن تستطيع. ولذلك لن تكون الحداثة رغم كل تمرداتها الا صورة قديمة للتجديد الذي لا بد ان يأتي من قلب القديم. لكن هذه العملية المعاصرة التي سميت (الحداثة) كان لا بد ان تعلن ثورتها وتمردها بهذا الشكل الصاعق لأن الحياة نفسها قدمت لها اسباب هذا الاعلان.

واعتقد ان التطور الهائل الذي حدث في ظل العولمة من ثورة في الاتصالات ومن اشتباك بلدان الارض مع بعضها البعض اشتباكاً مباشراً في كثير من اشكال الحياة اليومية والعامة، جعل الفروق بين تصرفات الناس تقل بل جعلها تتطابق رغم اختلاف الشعوب وعاداتها. فأشكال عرض الغناء واحدة عن طريق الفيديو كليب الذي يكاد يكون ذا اسلوب واحد بايقاعات متشابهة رغم انتماء الغناء الى امم وشعوب ذات موسيقات مختلفة. والفرق الرياضية يتحزب لها انصار ويتحزب عليها انصار من مختلف دول العالم حتى تظن انها ليست فرقا اجنبية بل هي فرق وطنية. والاطعمة تنتقل بذاتها من بلد الي بلد، ومثلها انواع السجائر وما يتبعها من انواع المنشطات والمهدئات. والادوية تنتقل بشكل مشروع او غير مشروع. فان لم يكن ذلك الانتقال بالدواء المصنع الجاهز ـ او غيره من المصنوعات ـ للاستعمال فبالتراخيص التي تمنح للمعامل في هذا البلد او ذاك. وانماط اللباس وما تفرضه من سلوك فردي تنتقل من بلد الى بلد بسرعة البرق. وكلها تقوم على تنافر الالوان في انسجام جديد لم تعرف البشرية مثله من قبل. وهكذا تتحول الارض كلها الى قرية صغيرة لا بمعنى ان افرادها يعرفون ما يجري في الحي المجاور فحسب، بل بمعنى ان اسلوب الحياة فيها يكاد يكون واحداً او يطمح سكانها الى ان يكون واحداً. واذا ظل لكل شعب ـ رغم كل هذه الرغبة الجارفة في التوحد ـ عاداته وطرائقه في الحياة، فقد نتج عن ذلك كله ان انماط تفكير الاجيال الشابة في التمرد على سلطة الاسرة والدولة متقاربة بل تكاد تتطابق، فأينما ذهبت في انحاء المعمورة تجد النقمة على الحكومات وتقاليد الاسرة قد اخذا حداً من العف والحدة والصراحة لم يكن يصل من قبل الى هذه الدرجة فيما سلف من تاريخ البشر.

ان كل شعب من الشعوب لا يزال له همومه في اسلوب ادارة شؤونه. وله تراثه الماضي الذي يحكم تصرفات حاضره. وله مشاكله الوطنية والقومية التي تؤدي به الى الخلاف مع شعب آخر او الى التصالح معه. وتبدو الشعوب كلها منقسمة الى قسمين واحد منها غني وواحد منها فقير. والغني منها يحاول ان يزداد غناه على حساب الفقير. والفقير منها يحاول ان يسترد ماله المنهوب لكي يحسن اوضاع معيشته. فبدت الكرة الارضية وكأنها تعيش كلها حالة حرب لا تعرف كيف تدير معها امورها وان عرفت كيف تتألم منها. والحكومات كلها حائرة في كيفية ضبط شعوبها اما باسم الديموقراطية التي كثيرا ما تبدو زائفة حتى في اعرق الدول التي تدعي الديموقراطية، واما باسم الديكتاتورية التي تدعي ان الامن القومي يدعوها الى قبضة حديدية لا تدري اهي لفرض السيطرة ام للحفاظ على حياة مواطنيها. والشعوب كلها تضيق بحكوماتها كائنا ما كانت ادعاءاتها. ورغم هذا العداء الذي يقسم شعوب الارض الى قسمين متنافرين، فان افراد هذه الشعوب يسعون الى تقليد بعضهم بعضا في شؤون الحياة وفي التصرفات اليومية. ومع ان هذا التقليد ينصرف من الشعوب الفقيرة الى الشعوب الغنية ـ وتحديدا الى النمط الاميركي اولا والى النمط الأوروبي ثانيا ـ فان ذلك يؤكد ان سلوكا ما اخذ يصبح عالميا يفرض نفسه رغم انف المفكرين ورجال الربية والاباء. ولا سبيل الى رد انتشار هذا النمط المتقارب بين افراد الشعوب الا اذا الغت البشرية ما وصلت اليه من وسائل الاتصال الحديثة. وهذا شيء مستحيل.
لكن المقلدين الذين يحق لهم ان يشمخوا بأنوفهم بانهم سادة الارض والحضارة لم ينجوا من ان يصبحوا في بعض مناحي الحياة مقلدين. فوسائل الاتصال التي حملت ثقافتهم وافلامهم ومسلسلاتهم التلفزيونية وبرامجهم الى انحاء الارض كما حملت فلسفتهم وافكارهم، حملت اليهم ايضا انماطا من العيش والتفكير والسلوك قد تكون اعرق حضارة من اساليب حياتهم. وهكذا يتحول الغازي الى مغزو، وتكون النتيجة تأكيدا لانتشار وحدة متقاربة في التصرفات والتفكير.

ان هذه الرغبة الجارفة الى التقارب في التفكير والتصرفات من ناحية والشعور الداخلي بالتمرد الذي يعم سكان الارض من ناحية هما اللذان يكونان الجذر النفسي والفكري للحداثة التي تعني رفض قديم موروثاتها بغضب. وتقديم جديدها بغضب. ومن هنا جاءت لفظة (الحداثة) التي هي شيء مغاير للحديث او الحديث او الجديد مع انها في محصلة الامر تندرج تحت معنى الحديث او الجديد. وكان ان اصبحت هذه الكلمة مصطلحا لا في الحياة فحسب، بل في النتاج الفكري والادبي والفني.

ـ معنى الحداثة في المسرح

لقد كان المسرح واحدا من ميادين هذه العملية العنيفة في التخلي عن مصطلح الحديث او الجديد الى مصطلح (الحداثة). وشأن المسرح في هذا المجال كشأن مختلف مناحي الحياة والفن والادب.
ولكي نضع يدنا على مفهوم الحداثة في المسرح وكيف اصبح هذا المصطلح بالغ الدقة فيه نذكر ان المسرح كان دائما ميدانا للتجديد. فلا يكاد مذهب ادبي او فني فيه يستقر حينا من الزمن حتى يعصف به التغيير الذي كان تجديدا فيقلب الكثير مما ارسى ذلك المذهب من قواعد. الم تعصف الواقعية بأركان الرومانسية التي عصفت من قبل بالكلاسيكية؟ الم تعصف مرحلة شكسبير بكل ما ورثه المسرح عن قواعد اليونان وفن الشعر الارسطي؟

لكن ذلك كان يتم في مسافات زمنية متباعدة قد تصل الى عدة قرون. فما ابعد المسافة بين المسرح اليوناني ومسرح الكنيسة ثم ما تلاه من تطور بطيء حتى تسارع التغيير في القرن السادس عشر والذي يليه في فرنسا وانكلترا. والمسافة بين الكلاسيكية الفرنسية وبين رومانسيتها لا تقل عن قرن.

اما منذ نهاية القرن التاسع عشر وأول العشرين فقد تلاحقت التغيرات في تسارع كان يزداد باطراد كلما مضينا في زمن القرن العشرين. واذا بهذا القرن العجيب يحفل بتمردات وثورات في المسرح ليس هذا البحث مجال ذكرها خاصة وانها كانت كثيرة قد يصعب احصاؤها. فلا يكاد ستانسلافسكي ينتهي من وضع منهجه حتى يكون قد ثاروا عليه ونقضوا بعض قواعده. ويأتي تلاميذ هؤلاء فينقضون بعض ما تعلموه من نقض للاستاذ الاول. ولا يكاد ابسن وأقرانه يوصلون كتابة النصوص الى الحبكة التقنة التي كانت الشكل الخير للدراما. حتى ينقضها تلاميذ بعدة اساليب لم يكن مسرح اللامعقول الا واحدا صغيرا منها. ثم يتوالى الثائرون والمتمردون في العرض المسرحي وفي الكتابة الدرامية. وكل هذه التمردات كانت تشكل تجديدا وتحديثا في المسرح طبق آفاق الارض ولم يقتصر على بلد او بعض البلدان. وبدأ التجديد في المسرح في العالم ـ منذ بداية القرن العشرين ـ يصبح عالميا. فلا يقتصر منهج ستانسلافسكي وتلاميذه على روسيا. ولا يقتصر المنهج الملحمي على المانيا بلد المنشأ. ثم يشيع مذهب العبث في اركان الدنيا. ثم وصل الامر الى حد الانتقال السريع. فلا يكاد عرض مسرحي في ما يقدم (جديدا) في مناحي الاداء المسرحي حتى تتخاطفه بقية البلدان بمجرد تقديمه فيها. وقد تكلفت افلام الفيديو وعروض التلفزيون والمهرجانات بهذا الانتقال السريع لكل جديد في العرض المسرحي.

ولكن كل هذه الاساليب او المدارس او المناهج او اية تسمية ارادت اطلاقها على مجموع التمردات في القرن العشرين حافظت على اركان العرض المسرحي التقليدية وهي:

ـ نص مسرحي يستند الى اركان بناء الدراما بعد ان يضعها في اشكال جديدة قد تغاير الاشكال السابقة.
ـ عرض مسرحي يقوم على ابراز النص المسرحي ويستند الى ممثل يتقن اداء (الدور المسرحي) في اشكال وأساليب جديدة قد تغاير الاساليب والاشكال السابقة.
ـ جمهور يتلقى تجديد المسرح نصا وعرضا في كل الاشكال التي ينتهيان اليها.
وكان ذلك كله يعنى ان العملية المسرحية تتجدد. وان المسرح يصبح باستمرار حديثا. وان المسرح يتابع ما كان يجري عليه من التجدد منذ نشأته قبل اكثر من قرنين.

لكن المسرح في العقد الأخير من القرن العشرين دخل منطقة جديدة لم يعرفها من قبل في تاريخه الطويل وهي أنه دمر اركانه الثلاثة السابقة (النص ـ عرض النص ـ ممثل الدور المسرحي). وأقام علاقة جديدة مع ركنه وهو الجمهور. فنتج عن ذلك كله المسرح التجريبي الحديث بعناصره الجديدة التي سيأتي بيانها بعد قليل.

ولا شك في أن المسرح التجريبي الحديث هذا وقد ورث جميع التجديدات التي سبقته في القرن العشرين. لكنه وضعها بطريقة بدا معها أنه ليس جديداً أو (حديثاً) في التطور المسرحي يتضمن ما سبقه وينفيه في آن واحد. بل كأن انقلاباً على تاريخ المسرح، وتلك هي (الحداثة) في المسرح. وكان في الوقت نفسه تعبيراً عن ذروة عصر ثورة الاتصالات في ظل العولمة كما كان تعبيراً عن يأس وعزلة الانسان في العالم.
فالقرن العشرون كان عصر الثورات الاجتماعية في العالم. وكان الفن فيه نشيداً للدفاع عن كرامة الانسان وطموحه نحو العدالة التي تتمثل في المجتمع الاشتراكي اوما يشبهه من مجتمع الكفاية. وانتهى هذا القرن الى فشل كل الثورات وإلى انتصار رأس المال العالمي بشراسة لم يعرفها في تاريخه المظلم. وشعرت البشرية بعجزها أمام شراسته وقسوته.

فحطمت في المسرح كل قواعدها السابقة لتتبنى مسرحاً معبراً عن يأسها. وكان المسرح التجريبي هو المعبر الأول عن هذا اليأس الصاعق.
هذا الكلام له دليل قاهر لا يمكن لأحد ان يماري فيه وهو أن المسرح التجريبي في جميع أنحاء العالم ولد دفعة واحدة. وقد وصل اليه كل شعب وحده دون النقل عن شعب آخر.

واذا بعناصر المسرح التجريبي الحديث هذا الذي تحتشد عروضه في مهرجان القاهرة قد ولدت مكتملة في كل بلد. ثم أخذ كل بلد يتبادل التأثير والتأثر مع البلد الآخر في ذلك اللقاء السنوي في القاهرة. والملاحظة الهامة في هذا التبادل انه لم يطور المسرح التجريبي ولم يغير اركانه. لأن هذا لنوع المسرحي الذي هو قمة الحداثة هو في الوقت نفسه قمة العجز عن تخطي هذه الحداثة. فكأنه النوع الوحيد في تاريخ المسرح العاجز عن استيلاد انواع جديدة منه كما كان الشأن في بقية المدارس والمذاهب التي سبقته. وهذا يعني انه ولد كاملاً دفعة واحدة. وسوف يموت كله دفعة واحدة. وسبب ذلك انه حداثة العجز البشري عن الحلم بالمستقبل، وليس جديد البحث عن آفاق جديدة في أحلام البشرية التي كانت دافعاً لتطوير الحضارة وملأتها بالمثل الرفيعة.

علاقة العرب بالمسرح التجريبي

اما علاقة العرب بالمسرح التجريبي فهي علاقة فريدة لم تشبه ما سبقها من تأثر المسرح العربي بغيره، واعتقد انه لن يكون لها فيما بعد شبيه بها.

فالمسرح العربي منذ ولادته كان يركض لاهثاً وراء المسرح الغربي منذ عصوره القديمة حتى ما قبل العقد الأخير من القرن العشرين. ولا داعي لتفصيل هذه النقطة لأن كتب النقد الأدبي العربي مليئة بكيفية تعلم العرب لفن المسرح ونقلهم لا لقواعده فحسب، بل ولمختلف مدارسه واتجاهاته، وكثيراً ما كانت المدرسة المسرحية الغربية تعيش عند العرب بعد أن تنتهي موجتها وتأثيرها في الغرب. ألم ينقل جورج ابيض اسلوب الممثل سوليفان الفرنسي الكلاسيكي المفخم في حين كان هذا الاسلوب يترك المسرح الفرنسي لتحل محله اساليب جديدة في التمثيل؟ الم يتأخر نقل المنهج الملحمي البريختي عند العرب حتى سبعينات القرن العشرين في حين استوى هذا المنهج قوياً في الغرب منذ اواسط خمسينات ذلك القرن؟ وهكذا يمكنك ان تعد عشرات الاتجاهات المسرحية التي نقلها العرب عن الغرب بعد مدة تطول أو تقصر.

ولا يظن أحد أنني ارى في ذلك ضيراً على المسرح العربي او انتقاصاً منه. على العكس. انني ارى في ذلك قوة له لأن اصحابه يدركون تماماً حاجة بلادهم الى هذا الفن. ويأخذون منه ما هو ضروري لهم. ثم يضعونه بالطريقة التي تناسبهم.

وسوف يظل العرب زمناً طويلاً ينهلون من المسرح العربي لأن الغرب هو اليوم موطن الحضارة التي تنهل منها الشعوب من ناحية، ولأنهم ما زالو يستكملون ادوات مسرحهم من الغرب بدءاً من عمارة المسرح حتى تجهيزاته التقنية من ناحية ثانية.

اما المسرح التجريبي الذي ولد عندهم مع بداية عقد تسعينيات القرن العشرين، فقد ولد عندهم في اللحظة نفسها التي ولد فيها هذ ا المسرح في العالم. فكانوا فيه مجددين غير مقلدين. ثم أخذوا يتبادلون التأثر والتأثير مع غيرهم من أصحاب المسرح التجريبي في العالم. ولكن... هل سيكتمل عندهم هذا النوع المسرحي كما اكتمل عند غيرهم؟

الجواب: لا. وعدم اكتماله هو الذي يحدد موقع المسرح العربي المعاصر اليوم من العالم، كما يحدد آفاقه التي سيجد نفسه يسير فيها، ويحدد له مفهوم (الحداثة) في المسرح العالم. وهو الذي سيجعله يتخلى عن هذه الحداثة ليعود إلى (الحديث) أو الجديد.
وعدم هذا الاكتمال للمسرح التجريبي العربي ليس لأنه ضيف أو مختلف عن تطورات المسرح في العالم، بل لأنه قوي اخذ يتحول من فن يحاول العرب استكمال ادواتهم فيه، الى فن صاروا قادرين على ابراز اكتماله عندهم.

اننا نحن العرب، مع استثناءات قليلة جداً لا يعتد بها ـ لن نستطيع تحقيق عناصر المسرح التجريبي، واذا حولنا تحقيقها فسوف نسعى وراء وهم مسرحي كاذب. وهذا السعي سيفقدنا الكثير من قدرتنا الذاتية في المسرح. وهكذا سنظل ندور طويلاً في حقل فارغ قبل أن نعود الى سواء السبيل في شأن مسرحنا. واذا فاز العرب بالجوائز في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي فيجب الا نغتر بهذه الجوائز التي فازوا بها. فليس فوزهم بها دليلا على اكتمال المسرح التجريبي عندهم. ولو طبقت عناصر المسرح التجريبي عليها بشكل فعلي لما نالت العروض العربية اية جائزة باستثناء بعض عروض المسرح التونسي التي اكتملت فيها عناصر هذا المسرح، وبعض العروض المتفرقة هنا وهناك.

ولكي نوضح المقصود من هذا الحكم حتى لا يبدو جائرا لا بد من ايجاز عناصر هذا المسرح الذي يطمح اليه العرب، وكيف يترك آثاره عليهم مع انهم اليوم يجدونه النوع الذي يواكب العصر.

قدمت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدت على هامش مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في دورته السادسة عشرة.

فرحان بلبل ـ مسرحي سوري

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى