السبت ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
"حِيزيَة، عاشقة من رَذاذ الواحات"(*)

-سحرُ المكان وألَقُ الفكر-

بقلم: الدكتور عبد القادر سلاّمي

*كلمة لا بدَّ منها:
"لا أحد يعرفُ شيئاً عن المعنى الذي تمنحه القراءة للأثر الأدبي، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما، لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه شهوة، ينتصبُ فيما وراء سنن اللغة.فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبي، وتقيم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناه نشتهي الأثر(س)، ونرغبَ في أن نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّ كلام آخر غير كلامه هو ذاتُه: إنّ التعليق الوحيد الذي يمكن أن ينتجه قارئ محض وسيبقى كذلك، هو المعارضة. وعليه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أيٍّ من الحدود أو الإسقاطات الأخرى فمعناه تغيُّر الشَّهْوة"،( رولان بارث: النقد والحقيقة، ص36 )(*) وعلينا تَبِعَةُ ما نقرأ.

1-البناء الشعري:

افتتح الشاعر عزّ الدّين المناصرة قصيدة" حيزية......" بالفعل" أحسدُ"، وهي كلمة يكثر دورانها إذ تردّدت أكثر من أربعين مرَّة في هذه القصيدة التي ترامت عبر ثلاثة عشر صفحة، وانقسمت إلى ثمانية مقاطع تتراوح بين الطّول والقصر.

" أحسُدُ"، والحسدُ ها هنا هو أقربُ إلى الغبْطة منه إلى زوال النّعمة، فـ:

-ربّما قيل إنيِّ أغارُ وفي القلب منّي حَسَد ٌ(1)
............
أحسُدُ الوَاحَة الدَّمَويَةَ هذا المسَاءْ
أحسُدُ الأصدقاءْ
أحسدُ المتفرِّج والطَّاولات العِتَاق والإماءْ(

2)

فالشّاعر عاش في أحضان هذا الوطن الحبيب(الجزائر) فوجد في كنفه السَّنَد النفسي والدفيء السَّخي. أحبّ الجزائر فعشقها ومدحها فغازلها، وهام في حبها فانبهر بها وأجاد مدحها فانبهرت به، فغبط هذا الإنسان الجزائري "لا يكادُ يشبهه أحدٌ في تضحياته وتفانيه، فأراد أن يجعل من هذا الفضاء منبراً يوجهُ من عليه رسالة ًمشفَّرة إلى أبناء فلسطين علَّهم يقتفُون آثارهم، فلم يجد سبيلاً للتعبير عن ذلك سوى توظيف الكلمة المفتاحية" أحسُدُ" التي تمثّل قَدْراً ( وقَدَراً) مشتركاً من قاموس العرب والعربية.

ولئن كانت القصيدة في عمومها تبدو غزلية، إلاَّ روح الغزل فيه أبعد ما يكون فهذا الموقف، فمعجمها الشعري ممثّلاً في الحقل الدّلاليّ(الحربيّ والسياسي أو الحرب والسياسة)يؤيد هذا المذهب. فمن أهمّ مفرداته الدالّة: (العاصفة، الخيل، الدّماء، الرَّمل، الدّود، المقبرة، الدَّمعة النَّافرة، الحطب، الرَّماد، النَّار...، وغيرها، وهي بذلك تمثّلُ المعجم اللغوي الذي يتحرّك الشاعر في جنباته، ليتناول ما يؤدّي مقاصده في اختياره الإرادي وغير الإرادي لتلك الألفاظ، ومقدار صلتها بمقتضيات الموضوع الذي يطرق، وحسن توظيفها في الدلالات والمواقع والعلاقات المعبّرة عمّا في النَّفس، من المرامي والأبعاد والإشارات ودقائق المعرفة، بما يكفل الفصاحة والصّحة والنّجاح في التعبير والدقّة في العطاء.(3)

ويختتم الشاعر قصيدته الملحمَة، بالكلمة ذاتها( أحسُدُ)، وكأني به يصرُّ على ضرورة الحَدْو والتفاني من باب الإقرار بأنه"حبُّ ليس له بديل"

إنّني أحسدُ الغابة الماطرة
أحسُدُ النّسر في جَرْجَرَة
أحسدُ التّمر في بسكِرَة
أحسدُ الرَّمل والدُّود والعُشب في المقبرة(4)

2- في فضاء النص:

يبدأ الشاعر قصيدته بمشهد الصّحراء(الواحة الدّموية)، والصّحراء قرينة الخوف والهلع في الشعر العربي القديم، لذا مال بها العربي نحو المفازة من حيث جعل منها رَبْعاً ومنزلاً. فما من حديث عن الصّحراء إلاَّ وكان مجسِّداً لصلابة صُخُور الصُّوان ولهَب الشَّمس فوق رؤوس الخلائق وزفير الرّياح وعويل الوحوش الشّوارد والفضاء المفتوح على كل مارد وعلى ما يتربّص بك الدّوائر، ويلحق بالنّاس الأذى في أيّ حين كالغّول(*) وإنْ لمْ يَرهُ أحد(5)،ممّا يُضفي على مشهد الصّحراء رهبة في النُّفوس.

أمّا(المسَاء)وهو زمن القصيدة،( ولعلّه زمن الكتابة أيضا)فمدلول نفسي.فهو بداية اللّيل، واللّيلُ قرينُ السُّرى وبث ّالآهات، زمن الحلْم السَّرمديّ، ومناجاة الأنواء(*). فالزّمن" إحساسٌ وشُعُور أكثر منه ساعات تعدُّ وتحسب، وحين يكون هذا الزّمن ليلاً كثيف الظّلمةوقد تصرَّمت أوائله يغدو قريناً وموئلاً للهموم والمواجع والأشواق"(6) مصداقاً لقول النَّابغة الذُبياني(ت50هـ):

*وليس الذي يرعى النُّجوم بآيِب*(7)

وحيزية في مخيلة الشاعر هي الجزائر برمَّتها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى أقاصي الجنوب فمن سطيف إلى تلمسان مروراً بالجزائر العاصمة وجيجل والقُلْ إلى بسكرة وأولاد جلاّل وصولا إلى الطسيلي.

...و(سطيف): حقول الشعير الأعلى
ينابيعها
... أحسدُ التمر في(بِسْكِرَةْ )
... حفلة في تلمسان أنت
... أرجوانة علقت ليلة المجزرة
... بجناحٍ على الثلج في جَرْجَرَةْ
... أو كأنك جئت إلى غابة
... بين (جيجلَ) و(القلِّ)
...النقوش التي حفرت في الطسيلي رأتني(8)

والشاعر في كل هذا الدّوران و السّعي عبر الزمان والمكان يمكر بنا، وهو مَكْرٌ يُرادُ به الوَصْل.فلئن قلنا آنفا: إنّ حيزية هي رمز لهذه الأرض الطيبة ( الجزائر) فقد آن لنا أن نعيد النّظر في هذا الرّمز ( حيزية/ الجزائر)، فهل نخطئ إن قلنا: إنّ حيزية هي رمز ومعادل شعري لميسون وللقضية الفلسطينية، بل لقضية الأمة العربية الإسلامية؟!

* ثم ما رأيك في هذا الجريح الذي علق من جناحه على الثّلج في أعالي جبال جرجرة ؟! ألا يحيلنا المشهد الشعري هذا على جبال الأرز بلبنان حين امتزج بياض الثلج بحمرة الدّماء القانية في مجزرة السّفاح شارون؟!-قبَّح الله سعيه- بل ما رأيك في رمز الطسيلي الذي يوظّفه الشاعر في هذه القصيدة؟ و ما دخل حيزية و ابن قيطون بهذه الأطلال البائدة؟!

إنَّ الشّاعر عزّ الدّين المناصرة، على ما يبدو،في رحلة البحث عن هويته المفقودة عن أطلنطيس أحلامه العالقة في مخالب العدوان بل راح يبحث عن رمز متجدذِّر لفلسطين فراح يتّخد من الطاسيلي مُعادلا موضوعيا لرمز مُوغِلٍ في ذاته (إنّها الدّولة الكنعانية):

- ربّما قيل إنّي أغار وفي القلب منيّ حَسَدْ
أيُشْبِهني أحدٌ: كنت غازلتُها في الطريقْ
ونَدَهْتُ عموم البَلَدْ
إلى ساحَةٍ وشَلَفْتُ مناديلها،
وهُمْ يَنْظُرُونْ
النُّقوشُ التي حفرت في (الطَسَيلي) رأتني
رأتني جموعُ الرّعاة
أُمَصْمِصُها قطعةً قطعةً، ورأتني الشيّاهْ(9)

فالشاعر مُغرَم مُولَعٌ بماضي البشرية المشترك وعنفوانه وشموخه ( نقوش الطسيلي / الدولة الكنعانية) فراح يبحث عنها ويثبت لها تاريخها ( الدولة الفلسطينية) على مرآى ومسمعٍ من الرّعاة اليَهُود و الشيّاه الأعراب، وهذه الدولة الكنعانية هي خيط القضية الذي يربط الشاعر بهذا التراب. وهي جذور هذه الشجرة المباركة التي نمت وارتوت من دماء الشهداء، وهي أرشيف القضية الفلسطينية وإكسيرها، و يبقى الصّراع بين ( الكنعنة والهيكل المزعوم) قائماً إلى حين، مادامت:

-القتيلة زيتونة(10)

نعم القتيلة زيتونة وليست حيزية أو مَيْسُون، ومن تكون هذه الزيّتونة إن لم تكن وطنه وقبلة العرب فلسطين؟‍.

3- التناصّ الشعري:

لئن عرَّف (جيرار جينيت) التناصَّ على أنَّه" الحضور الفعّال لنصّ داخل نص آخر" (11)، فإنَّ الأدب في رأي (رولان بارث)"ليس إلاّ َنصّا واحداً ، فهو إنْ صَحَّ التعبير تضمين بغير تنصيص"(12)، الأمر الذي لايعدم الفائدة المرجوّة من التّضمين أو الاقتباس من حيث دلَّ الأوَّلُ في دلالته البلاغية على" أنْ يضمَّنَ الشّاعر شعرَه والبنّارُ نثرَه كلاماً لغيره، قصد الاستعانة على تأكيد المعنى المقصود، ولو لم يذكر ذلك التَّضْمين لكان المعنى تامّاً"(13)، ودلَّ الثاني على تضمين الكلام شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث النَّبويّ الشريف، لا على أنَّه منه (14) ومعنى ذلك" أنْ يأخذَ الشَّاعرُ أو النَّاثرُ آيةً أو حديثاً أو حكمةً أو مثَلاً أو شطراً أو بيتاً من شعر غيره بلفظه ومعناه"(15) وهو ضربٌ من التَّضمين كما ترى.

وتأسيساً على ما سبق فإنَّ الشاعر الشاعر عز الدّين المناصرة لا يريد لنفسه أن يكون شاعراً منفرداً واقفا في العراء يرفع ،دون أنيس،عقيرته من فرط الجراح المُثْخِنَة ، بل نراه ينشطر إلى أجزاء يحمل كلّ جزء منها مأساة شاعر عبر صحراء النّفس. فهو فارس نتمثّله في شخص أبي فراس الحمداني(ت 357هـ) حينما كان يغبط المتنبي(ت 354هـ) في قربه من سيف الدّولة:

-وابن قيطونَ أحسده عاشقاً طاف في زرعها(16)

ثم إنَّ (الرّقمتينّ) في قوله:

أحسُدُ الرَّقْمَتَيْنْ

تحيلاننا إلى رقمتي زهير بن أبي سلمى(ت13هـ):

ودَارٌ لهَا بالرَّقْمَتَيْن ِ(*) كأنَّها مَرَاجيعُ(*) وَشْمٍ في نَوَاشِر(*)ِ مِعْصَمِ(17)

ونتمثّله امرئ القيس من إنكار أن يقدر على ما أتاه أحدٌ أو يستَطيعَه حين قال على لسان"النِّرْجسَة":(18)

أيُشبهُني أحدٌ في صفاء الدموعْ
أيُشبهُني أحدٌ في الكتابة أو في الحنيْن
أيُشبهُني أحدٌ في التّجاعيد والهَمِّ فوق الجبينْ
أيُشبهُني أحدٌ في النّدى مثل رمّانةٍ طازجةْ
في دماء الوَريدْ
أيشبهني شعراءُ التّماثيلْ،
أشعارهم من قديدْ

وإنْ كانَ في قول امرىء القيس:

أَيَقْتُلُنِي والمَشْرَفيُّ(*) مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ؟ ! (19)

تكذيب منه لإنسان تهدّدهُ بالقتل، وإنكارٌ أن يقدر على النَّيْل منه.(20)

ثم لنا أنْ تخيّل الشاعر عزّ الدين المناصرة صقر قريش عبد الرّحمن الداخل(138-172هـ) حينما نجا من المجزرة وفرّ مُلملما أجزانه من المشرق حين وصل إلى المغرب وأعاد مجد أجداده هناك. ثمَّ ألا تتلاقى القضيّتان؟ ألا تتشابه المحْنتان ؟! ولك أن تصغي إليه حين يصور عن طريق الزّمن هذه الحالة:

_نخلةٌ في أعالي الجبال تطلّ على العاصمة.(21)

ألا تذكّرنا هذه النّخلة بنخلة عبد الرّحمن الدّاخل التّي أثارت أشجاانه برصافة الأندلس؟!

تبدَّت لنا وسط الرّصافة نخلةٌ تَنَاءت بأرضِ الغَرْب عن بَلَدِ النَّخْلِ

فقلت شَبيهيْن في التَقَرُّبِ والنَّوى وطــُول التَّنائي عن بني وأهْلـي

نَشَئَتْ بِأَرْضٍ أرْضٌ فيها غريبَةٌ فمِثْلُك في الإقصاء والتَّنائي مِثْلي(22)

فالشّاعر إذن يحاول تقمّص شخصية شعراء عدّة لإثراء تجربته ولجعل النّص أكثر يموج بحركية كحركة الموج الهادر الّذي يلاطم الصخور العاتية.

هذا ولم تكن القصيدة من السياق اللغوي خلاء، وذلك باعتمادها على النسق القرآني في الدّلالة والتركيب ، من نحو استعمالها: (وابنَ السَّبيلْ)(23) و(... السدْرَةَ المنْتَهى)(24) من منطلق المرجعية الحضارية في بعدها الرّوحي والإنساني.

4- البنية الأسلوبية:

لئن تكشّف مفهوم الأسلوب في المباحث العربية على يد عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) إذ نراه يضع له تعريفا متصلا بالنَّظم ليرى فيه ضَرْباً من النَّظم والطريقة فيه.(25)ولما جاء حازم القرطاجنّي (ت 684هـ) وسع مفهوم الأسلوب ليشمل النتاج الأدبي كله بما فيه من عناصر داخلة في الصياغة أو في أغراض الشعر خاصة حيث يقول: "ولما كانت الأغراض الشعرية يوقع في واحدة منها الجملة الكبيرة من المعاني والمقاصد، وكانت لتلك المعاني جهات فيها توجد، ومسائل تقتنى، وكانت للنفس بالاستمرار على تلك الجهات، والنقلة من بعضها إلى بعض، وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيئة تسمى الأسلوب".(26)

وقد قف ابن خلدون(ت808هـ) عند تعريف الأسلوب فذكر أنه:"المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي تفرغ فيه، ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، أي النَّحو، ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض، وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلِّيةَ باعتبار انطباقها على تركيب خاص... فإنّ لكلِّ فنٍّ من الكلام أساليبَ تختصُّ فيه وتُوجد فيه على أنحاء مختلفة ".(27)

وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا أهم محاولة استهدفت تحديد مفهوم الأسلوب دراسة أحمد الشايب الذي وقف فيها عند الأسلوب محددا المقصود منه، وأنواعه وعناصره ومقوماته، وقد وضع له جملة من التعريفات أبرزها أنه الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني، أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار.(28)

أمَّا علماء اللغة الغربيين فقد وضعوا تعريفات عدة للأسلوب أظهرها ما ذكره بالي(Bali )من أنه "يتمثل في مجموعة من عناصر اللغة المؤثرة عاطفيا في المستمع.(29) وما ذكره (أمادو ألونس)و من أنه "الطريقة التي يتكون بها العمل الأدبي في جملته وعناصره التفصيلية، وهي التي تحدد أنماط المتعة الجمالية الناجمة عنها".(30) أما (رولان بارت) فقد رأى أن الأسلوب هو لغة تتميز بالاكتفاء الذاتي وتغرس جذورها في أسطورية المؤلف.(31)

والجدير بالذكر هنا صلاح فضل عدّ تعريف ابن خلدون أدقّ تحديد للأسلوب،على تأخّره، فقال:" ومن الواضح أنّ هذا المفهوم التركيبي الدقيق للأسلوب إنّما اصطلاحي لا لغوي وسبق بقرون دخول الأسلوب في المصطلح النّقدي الأوروبي.فقد استُخدم منذ أوائل القرن التّاسع عشر في معجم"Grimm" ووَرَد لأوّل مرّة في اللغة الإنجليزية كمصطلح عام1846م طبقاً لقاموس"أوكسفورد"ودخل القاموس لأوّل مرّة كمصطلح عام1872م".(32)

والمساءلة التالية ترمي إلى الوقوف على بعض سمات الأساليب التي سلكها الشّاعر عزّ الدين المناصرة في أدائه اللغوي الذي يعكس جانباً من التعامل الحياتي في نهار النّاس ولياليهم ،وآخر ينمُّ عن تجربة شعورية فريدة ليست بالطلب المباشر استفهاماً وأمراً ونهياً ودعاءً واستجداءً، بل هي تصوير لما في النّفس وأحوال لها لايكونان دائما رغبة توجّه نحو الآخرين لتحقيقها.

أ-الذكر ودلالته:

يستند هذا القسم إلى تحليل يدور حول ركنيْ الجملة، وهو المسند إليه( المبتدأ) كنوع من الإضاءة للمنهج المفيد من الأعمال والتوجُّه الجديد، وسنخص الرّكن الآخر وهو المسند بقسم تالٍ، وفي كل منهما نرى لمحات تعبيرية قد تكتسبها أجزاءٌ أخرى في الجمل والعبارات، وذلك بحسب ما تعكسه في جانب من الجوانب ذات الفاعلية في التجربة الشعورية المصوّرة في الأبيات أو القطع الشعرية.(33)

إنّ للذّكر في شعر عزّ الدّين المناصرة بشكل عام وفي قصيدة"حيزية..." بوجه خاص قيمة حضورية يعكسها

إلحاح الشَّاعر على أمرٍ أو لفت انتباهٍ مُشيحٍ وشغل من نعرضُ أمامهم الحديث به، فهو يبغي الولُوج في عالم الآخرين أي أنَّهُم ظاهرون في عمله وبينة خطابه الشّعري، من حيث يحاول الاستئناس بالآخرين وإشراكهم في إحساسه، مبرّراً في الوقت نفسه أسباب تعلّقهً.فعزّ الدّين المناصرَة يتوجّه إلى "الواحات"التي تترامى في دلال عبر المَدى غير آبهة بما يُلقى إليها من زنابق تعلّق على أهداب عرشها علّها تنعم بنظرة عجلى تثلج القَلب وآخذت من العقل كلّ مأخذ:

... جمرَةُ البَدْو أنت، فمن أيْنَ جئت،

... حَفْلَةٌ في تلمسانَ، أنتِ(34)

ب- الحذف ودلالته:

إنّ الحذف ها هنا إنّما يجري على المسند إليه : المبتدأ لا الأفعال، وهو المقصود عند الإطلاق، ذلك أنَّ الفاعل يستتر وعندها يُستبدل ويحلُّ محلَّه نائب الفاعل.

ونطالع في قصيدة" حيزية...." رنَّةً تتناغم مع إيقاع سابق عليها، ذلك أنَّنا نجد المسند( الخبر) قد تلا كلاماً وحديثاً دون أن يذكر مبتدؤه، وإن كان يكثر مثل هذا في القصائد الغزلية والمقدمات الطَّللية، وشعر الفخر والتمدُّح. (35)فإذا أردنا أن نعقد بين جزئيات الظاهرة بدلالة تتصل بالنّفس ورديتها للأخرين متلقّين للحديث، فإنّ الشّاعر عزّ الدّين المناصرة يترآى لنا متأمّلاً واحات الجزائر شاردا بذكرها في العراء، بل يكاد صدى صوتها يبلغه فيغدو وهي والفضاء المكاني سواء، ويهيم ظانّأً أنَّ الآخرين يعيشون هيامه، فيقطع الجمل دون ذكر المسند إليه( المبتدأ)، لآنَّه يتجلّى عنده مستأثراً بقلبه، في نحو قوله:

-مُوجزٌ وهيفٌ أسايْ
...مُوَشَّحَةٌ بأغاني مساء الخميسْ
مُوجزٌ وهيفٌ أسايْ
قطْعةٌ من سمايْ
أرْجُوانَةٌ عَلقتْ ليلَةَ المَجْزَرَةْ
بجَنَاح على الثَّلْج في جَرْجَرِةْ(36)

ج- دلالة الموصولية:

إنَّ إدراك القيمة التعبيرية لاسم الموصول يرتبط بتحليل بنية" التركيب الوصلي)فلا يفهم اللفظ بمعزل عن تكوين الجملة وعلاقاتها التصوّرية. وهناك نمط يتكرّر في المواضع المختلفة من القصيد، ونقصد: الاسم الموصول وجملة الصّلة. ولو جرَّبْنا استبدالَ هذا الاسم بغيره من المعارف في مقطع بعينه لظهرت الإمكانات اللغوية للدلالة المفهمة منه بشكل مختلف عن الذي أُريدَ له. إلاَّ أنّنا نجد إطاراً آخر يحيط بالأسلوب الموصولي، خاصّة لو اتّخذنا شطر عزّ الدّين المناصرة:

أحسدُ الواحَةَ الدَّمَويةَ هذا المَسَاءْ
....الأكُفَّ التي صَفَّقَتْ راعفة
....أحسُدُ المُصْحَفَ الصَّدَفيَّ الذي لامَسَتْهُ أصابِعُها
( سيّدي) خالدا): عَرَباً وخياماً ونَخْلاً،هوىً
أحسُدُ الأشْقيَاءْ
....أحسُدُ التَّمْرَ في ( بِسْكِرَةْ)
الجَفافَ الذي جَفَّ حُزْناً عليها،(37)

ففي (التركيب الوصلي) نجد عزُّ الدّين المناصرة يتحرَّكُ بين نقطَتَيْن ، فينشطُ بهذه الحركة الارتدادية التّصوير والتصوُّر ويُركَّزُ الانتباهُ، وينفذ المعنى والمفهوم والانفعال إلى غَوْر النَّفس.فـ " التي"و" الذي" كلمتان لا تُفصحُ عن مضمونهما إذْ تُحاطان بهالةٍ لا تستبين معها ماهية صاحب الاسم، فيُحاول القارئُ رفع الإبهام أو الغُموض في بعض الأحيان ليبلُغَ القَصْد، فيجد جمل الصِّلة(...التي صَفَّقَتْ راعِفَة)و(...الذي لاَمَسَتْهُ أصابعُها) و(...الذي جَفَّ حُزْناً عليها )لتعطيَ الإيضاح متجاوزة بذلك دلالتها الإعرابية من حيث عدَمُ محلِيَتها من الإعراب، ليكون وراء هذا الأسلوب من الاستخدام غاية تعبيرية يقع به المعنى موقعاً لا يبلُغه في الأنْماط الأحادية الأطراف (38). فعزّ الدّين المناصرة حاول أن يختزل مدى بل هالةً من الإيحاءات المترامية الأطراف أو أوصاف مقصود تسدُّ الأفُق من حيث التعدُّدُ والاحتمال.فـ" الأكفّ" صفّقت غَضْبَى أو المُكدَّةَ وليس رغبة في التصفيق أثارت شُجون شاعرنا فهي ليست كالأكفّ المُدرَّة للرضا، لذا فإنّها تحمل مواصفات أكبر من أن تحصى خِلْقاً وخُلُقا، وقد فرضت احترامها عليه عن جدارَة، وكأنّي بها أخذتْ موثقاً من الله –تعالى- بأنْ لا تستكين وتلينْ في وجه كلّ غاصبٍ يحاول أنْ يسلُبها العِرض والأرْض.

د- الإشارة ودلالتها:

نستمدّ إضاءة القيمة التعبيرية لاسم الإشارة في التركيب الشعري لقصيدة"حيزية..." من مفهومه لدى اللغويين، فهو عندهم:" ما دلَّ على مُسَمى، ولإشارة إليه.". فالأصل في التعامل الاجتماعي أن تُسافرَ اللغة بين النّاس ناقلَةً آراءهم وأفكارهم ورغباتهم وحاجاتهم ورباطةً هذا كلِّه بالأشياء المادّية التي يتقلّبُون بينها، وهي أمام أنظارهم أو بعيدةً يرونها يعين الخيال والتصوّر.وتغلب على لغة الشعر وأسلوبه في كثير من الأحيان الإشارة، فهي تمنح الموقف حيوية أكبر وتشدُّ إلى موضوع الحديث وتقطع الاحتمال، فيترك من يُشغَلُ بشؤونه، أو يتشاغلُ، ما بين يديه أوما هو سابحٌ فيه من أفكارٍ وتطلُّعات ليتابع محدِّثَه. والشّاعر صاحبُ الحاجة و المتلقي طالب الإقناع. ثمَّ إنّ الشّاعر الساعي إلى التأثير الفنّي، من نحو شاعرنا عزّ الدّين المناصرة، يرغبُ في أن يستحوذ على اهتمام الآخرين ساعةَ يتحدَّث، فيلجأُ إلى الاستعانة ببعض أسماء الإشارة؛ لأنَّها كما رأينا في المفهوم اللغوي تحديد مسمى وكذلك توجيه الكلام إليه. (39)

وقد قطف الشّاعر عزّ الدّين المناصرة ثمرَة هذا الأسلوب من التّعبير، فكان يستعين على تركيز الانتباه على زاوية في شعره(حيزية....)عن تجربة أو جزْء من تجربة شعورية بالإشارة، فمحور الموقف أو من يمثّلُ منعطفاً فيه تصل إليه إيماءةٌ صوتية بالرّمز اللغوي. فإذا ما عُدْنا إلى صورة السَّبْك الشّعري لديه، نجد الظّاهرة ماثلة متحقّقة في حركات الشّاعر ملتفتاً إلى جمهور أو قراء له أو أصدقاء:

- لوْ رأيتمْ مع الفَجْر غامضةً تنتظرْ
ما الذي يجعلُ الفارس المنتظر
لا يقاتل عن مَوعدٍ، قربَ ذاكَ الحَجَرْ (40)

هـ-دلالة المعرّف بألْ:

تتحوّلُ الأسماء في حالات لها من التنكير إلى التعريف بفضل إضافة"ألْ" المعرّفة إلى أوّل الاسم، لذا فإنَّهُ يتبادرُ إلى الذِهْن علاقة مباشرة بين هذه الكلمة المخصِّصَة وحالة سابقة عليها في موضع من الشّعر، وتسمّى"ألْ" ها هنا بالعهدية أي المتعلّقة بأمْر وَرَد قبلُ وعُهدَ، فتظهر القيمة التعبيرية في جعل الكلام موثَّق الأطراف على نحو مخصًوص مباشر مع في تكرار الكلمة مرَّتيْن من تأثير مؤكّد، ولكنَّ اتِّسَاع المَدى في الاستعمال اللغوي والتكيُّف المكتسَب بالتَّجارب الكثيرة يُتيحُ أن يكونَ المعهود صريحاً أو كنائياً أو مفهوماً دون ذكره الصّريح.(41)

ونستعرض شاهداً على هذا القسم لا تغدو معه" ألْ" دالَّةً على الجنس والماهية ولا على المعهود الصّريح وإنّما بنيتْ على عهد ذهني، "فالقتيلة التي قُتلَت في النص مرَّتين هي"فِلسطين "الشّهيدة، أرض السَّلام، وهي القِبْلَةُ عليها السَّلام:

القتيلَةُ زَيْتُونَةٌ،
أمْ رمَاحُ المَقابر قد غُرستْ في السُّؤالْ
القتيلَةُ رَمْلٌ على البَحْر،
أمْ ذَهَبُ الأضْرحَة
ليس نسمعُ غير صدى النّائحَةْْ
أو كأنّي رأيْتكِ من قبلُ يا رغبَةً جامحَةْ(42)

*عودٌ على بدء:

يبدو الشاعر عزّ الدّين المناصرة في شعره كصقر يحاول الوقوف والصّمود في وجه النّوائب والعواصف رغم كسوره وجراحاته الغائرة، مشتّتاً تشتُّت ذاته وانشطارها.

كما إنَّ لتنقّلاته وأسفاره( أو في رحلاته ومنافيه)عبر عواصم الدول العربية والغربية أثرٌ في شاعريته، فهو لا يسكُن مكاناُ أو يستقرُّ بآخر في الفضاء الشعري الواحد أو القصيدة الواحدة، بل نراه كالنَّورس الجريح في حله وترحاله تواكبه في ذلك حركية زمانية موازية تغوص في أعماق واقع الأمة المرير يصافح بها أمجاد جدّه كنعان، وكأنّي بالشّاعر يستمد منه قوّة استمراره ووجوده وجودَ فلسطين السَليبة،فمطلق التصريح بهذا الوعي الذاتي عنده خطوةً نحو تجاوز هذا الوضع.

بقلم: الدكتور عبد القادر سلاّمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى