الأربعاء ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

جمر لا ينطفئ

فرش باقات الغرام فراشا أخضر يوم تعرّف إليها، ويوم بادلته الحب، غطـَّاها بعباءات حنان لا ينضب، وبدا مثل بلبل يشدو متنقلاً بين أوراق الشجر.

مدن ملونة شيّدها لها، ومع براءة أطفال وحفنة أحلام خضراء، ظل يلتقي بها بحب وشوق وأشياء أخرى لا تعرف الحزن أبداً، والآن وبعد ألف وتسعين اشتياقا، صار الحزن أليفه، يكتبه كل حين، ويطلق الصيحات الهدارة.

البارحة ، كان يمارس عشقه بمهارة، ويغني لأيامه القادمة، واليوم، عاد من زيارة الطبيب بوجه موميائي الملامح، وتطير منه الغربان إلى أفق لا حدود له.

أنهكته الهواجس والقلاقل، ومع الظلام الذي يسـكنه، أخذ يسير في دروب تأخذه إلى الحــزن، والحزن إلى القلق، والقلق إلى متاهة لا يعرف فيها الليل من النهار.

ولأنه ما عرف معها غير الحب والوفاء، لم يخبرها عن حقيقة مرضه، وإنما أخذها إلى مؤتمر للجفاء، وهناك تمنى أن تلتقي مع من يقدر أن يكللها بتيجان من حب وأقحوان.
 لم تعد تحبني.. لو كنت تريدني لجئت من أوسع الأبواب تطلب يدي. قالت بصوت يشتكي ويبكي حين قال:
 أتمنى أن تكون كل أيامك جميلة مع غيري.

رأت بللاً في عينيه، لكنها لم تر الموت وهو يحوم حوله ويرسم صوره على وجهه وأطرافه وخاصرته اليمنى التي كان يمسك بها بين فترة وأخرى.

دخلت منتجع الذات للحظات ثم تساءلت:
 هل أنت مريض؟

لم تكن تدري ـ ومن أين لها أن تدري ـ أن عمره يتفتت دون أن تتاح له الابتسامة أو الراحة.
 لا لست مريضاً. قالها بصوت أشبه إلى الحشرجة ، ثم أشاح بوجهه عنها ووقف عند أبراج الصمت.

شاهدت على وجهه غيمة داكنة، وكأن لم يبق أمامه ثمة عمر يفرح لأجله فعادت تقول:
 أرجوك اخبرني ماذا بك؟.. هل سمعت عني شيئاً؟

ماذا يقول للطهارة، للصفاء، للطيبة، للحنان، ولعناقيد العنب المغمسة بالعسل؟ فهو مبشر بالموت القريب، متعب من الألم، وليس متعبا من حبها.

بعد إلحاح شديد منها، ردَّ بخجل تاريخي:
 لا شيء.. كل ما في الأمر أنني لا أريد الزواج الآن.
 سأنتظرك إلى آخر العمر إن أردت.

أخفض رأسه ودخل في مناجاة وبوح ذاتي:" ماذا أقول لك يا عمري الذي لم أتهنأ به؟ جسدي يسكنه مرض عضال ، وجسدك يضج بالعنفوان والصحة فكيف نلتقي؟ آه أيتها الأجمل والأحلى.. الجمر يلتهب بين أضلعي وليس بمقدوري أن أطفئه".

اقتربت منه فأمسك بيدها، قبـَّل أناملها، لمس خديها، زرع نظرات الحسرة في عينيها الواسعتين وعنقها العاجي الطويل ، وفجأة ابتعد عنها، أدار لها ظهره، أخفض رأسه، وقال وكأنه يريد أن يدّمر كل مدن الحب التي شيدها:

 ابتعدي عني فأنا لست لك.

أدهشتها كلماته، تغيّرت ملامحها تماماً، تيبست الكلمات في حنجرتها، دعـاها العذاب وربما الندم إلى هرب، والهرب إلى بؤس، والبؤس إلى حيرة، والحيرة إلى سرداب تكفكف فيه دموعها، ولكن قبل ذلك كان عليها أن ترش سؤالاً على صمته الذي امتهنه بعد الحب:

 أجبني بصــراحة.. هل تحب غيري؟ قل الحقيقة ولا تخجل.

الحقيقة.. يا لها من زنزانة مليئة بالجليد ومسكونة بوحوش كاسرة.

أوصلها صمته إلى حزن عمي ، شعرت بأن نفسها تحولت إلى أرض مزروعة بأشجار سوداء وحبلى بالمرارة، للمرة الأخيرة سألته عن السبب في الجفاء الذي بات يتقنه، لكنه فتح أمامها أبواب اللامبالاة، فنهضت وغادرت المكان دون أن تطبع قبلة على روحه كما كانت تفعل من قبل، وحين ابتعدت قليلا استطاع الخروج من صمته التأملي واللحاق بها، أمسك بيدها رغما عنها ومع صرخات الوجع قال:

 والله العظيم لا أحب غيرك، وفي الأيام القادمة ستعرفين مدى حبي لك، ولكنني لست جديراً بك فسامحيني.

داهمتها موجة غضب، سحبت يدها بعنف وأخذت تعدو وهي تكتم رعشة الجسد، وكان الألم ينغرس في قلبها حتى وصل إلى عمق عمقها، أما هو فلم يستطع التحمل، ألقى بجسده في أشداق الهاوية، وظلت صور البؤس والعذاب مرسومة على شفتيه وعينيه وتسريحة شعره.

bassamtaan@yahoo.com


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى