الاثنين ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

معقول يكون هو؟

وقفت سيارة أنيقة بجوار رصيف قديم، وربما الرصيف الوحيد، يتشعب من دوّار صغير في وسط المخيم.. ومن السيارة نزل رجل طويل بشرته قمحية فيها سمرة طيبة، وكان منظره أنيقا.. وباين على شكله أنه رجل في غاية الاحترام وابن ناس طيبين، لابسا بذلة رمادية محبوكة على جسده وتزيد طوله الفارع، وتقلل رفعه الذي يبدو للوهلة الأولى أنه ممكن بيسر إدخاله في خرم إبرة.. وتكاد تخنقه ربطة عنق حمراء يتوسطها دبوس ذهبي لامع.. هذا وكانت سخونة الجو تسلق أجسادا تلهث منها الأفواه، وتتكتم في لهاثها الأنفاس، وتحمر للفحها الجفون. لمّا نزّل الرجل من السيارة رمى بصره إلى اليمين، ثم سحبه وألقاه ثانية إلى اليسار، ثم أعاده وثبته قرب طرف الدوار في الجهة المقابلة، عند أول الشارع الذي نهايته توصل إلى وسط السوق.

مشى الرجل عدة خطوات وئيدات فيها تردد، ترددها يقول أنه غريب عن الحي، مشاها على مهله في قلق وهو يتلفت لفتات حيرانة فيها ذهول، كأنه تائه عن مكان معروف.. لحظتها هبت الّسنة الناس الذين ينتشرون في الدوار بكلمات حانقة راحت تندفع من قلوبهم المعتصرة بالوجع، وعبارات غاضبة مكهربة كلها غليان، وعلت حناجرهم بهتافات راحت تنتشر كالرياح في شوارع الحارة، وتسري لعلعتها كأمواج متدفقة تتقوّس مع تقوّس الشارع، وكانت الآذان تلتقطها بغضب مستعر.

ما إن تبتعد الأصوات ويقل علوها حتى يسمعها أناس آخرون جدد، فيعلّونها مرة أخرى ويقوونها بأفواههم الملتهبة، لتواصل اندفاعها شاقة الهواء مسرعة إلى شوارع الحارات المجاورة وأزقتها المزدحمة، وهناك كانت تستحيل إلى زعق وصراخ ساخط صاخب مدو تفرقع به أفواههم المقهورة. كل الذين كانوا في الدوار يشعرون بالضيق، وبالحزن أيضا مغمورون..

 انه هو.. عرفته من طوله وربطة عنقه.. آه لو امسكه، سأتف في وجهه.
 أنا عرفته من قرعته الباهتة.. آه لو يقع تحت يدي.
 أكيد هو.. رقبته طويلة كرقبة الزرافة.. والله لأنهشه بأسناني.
 لا بد أنه هو.. نفس العينين.. والأنف الكبير المفلطح.. تفو عليه.
 مجرم.. قاتل.. ابن العاهرة... لو أطول رقبته...

هجم الناس على الرجل في وقت واحد كصخرة كبيرة يجرفها السيل إلى أسفل.. فجرى قدّامهم الرجل هاربا في ذعر مشدوه، ولا يعرف لماذا هو هارب، ولا يعرف من الذين يطاردونه.. فجروا كلهم وراءه يلاحقونه، وبقوا خلفه من شارع إلى شارع، ومن زقاق إلى زقاق، إلى أن مسكوه، وأوقعوه.. ثم انهالوا على جسده بالضرب حتى ورمّوه، وبهدلوه.. كانوا يخبطونه بأيديهم وأرجلهم، وضربوه بالعصي، ثم بالحجارة رجموه.. وخلعوا بذلته وقميصه عن جسده ولم ينسوا خلع بنطلونه وسحبه عن ساقيه.. ثم بصقوا في وجهه آلاف بل ملايين البصقات التي صنعت بركة غرق في وسطها الرجل، بعدها رشوا على قرعته التراب، فتعفر.
إلى درجة أن العجوز أم إبراهيم، بائعة البيض البلدي، التي لها رجل في القبر ورجل بالكاد برّه.. كانت جالسة كما اعتادت أن تجلس كل يوم ويدها المرتعشة تستميت على سلتها المليئة بالبيض.. اشتعلت هي أيضا فجأة بالنشاط، ودبت فيها قوة ألهبتها بالصراخ، وصارت تهرول مثل فتاة عمرها عشرين.. حملت العجوز سلتها وهجمت هي الأخرى مع الهاجمين.. ولم تستطع إلا بعد جهد ممض أن تملص، لتندس بين الأجساد الرجالية، القوية المتلاصقة الملتفة بإحكام حول الرجل المكوّم على الأرض، الملطوع بها لطعا، وصار صعبا معرفة وجهه من قفاه. راحت أم إبراهيم بغل تقذف البيض على عورة الرجل المغطاة بالتراب ظنا منها أنها صلعته، لأن نظرها ضعيف، وأفرغت كل ما في السلة، لتفرغ كل ما في قلبها من حنق عارم، لكن غضبها كان يزيد. فاختلط على جسد الرجل البيض المكسور مع التراب والعرق والبصاق والدم، فكّون كل هذا خليطا غريبا عجيبا غطى جسد الرجل المنهوك، فبدا كأنه مغموس في كومة كبيرة من مسحوق البقسماط.. وقبل أن ينشف البيض على بدنه ويستوي من شدة الحر، أمسكت أم إبراهيم بشبشبها الغليظ، وراحت تضرب كافة أرجاء جسده الدامي، وأخذت لسوء بصرها تركز ضرباتها على ساقه معتقدة أنها ذراعه، فتمزق وتقطع شبشبها الجديد الذي اشترته قبل سنتين، لكنها واصلت الضرب بالنعل حتى تفسخ هو الآخر، بعدها راح فمها يطلق على الرجل البصاق، بعض البصاق كان يصل إلى وجه الرجل وجسده، وبعضه الآخر كان يتناثر رذاذا حارا في وجوه المحيطين.. واضطرت أم إبراهيم بعد كل هذا أن تعود لبيتها بفردة شبشب واحدة ألقتها في قاع السلة، ومشت حافية.. وقد أنهّد حيلها من التعب وتنهنه صدرها باللهاث لكثرة ما ضربت وبصقت ولعنت.. وصوتها كان لا يزال يتقلقل متعتعا وتتكسر حروفه المبعثرة على شفتيها الناشفتين الغاضبتين..

 قتل ابني.. قتل حفيدي.. شردني.. خرب بيتي.. الله يخرب بيته..

حتى الحاج أبو احمد الرجل الوقور الرزين، الذي حج إلى بيت الله، ووضع يده على شباك النبي قبل ثلاثين عاما.. وهو بائع الفول المدمس، بل يعتبر المؤسس الأول لهذه المهنة في المخيم، ترك الحاج المحل والزبائن، تركهم وهجم هو الآخر يحمل بيده مغرفة الفول الحديدية الكبيرة، وبيده الأخرى يحمل صحنا لأحد الزبائن كان للهفته قد نسيه في يده.. لكن الزبائن على الفور لحقوا به ليشاركوه الهجوم على الرجل، وبيد كل منهم صحنه الفارغ.. وكانوا يهتفون ويهللون ويشيرون بأصابعهم إشارات النصر المبين.. واخذوا يهتفوا الله اكبر.

وأبو على بائع الكعك، ترك هو أيضا عربته اليدوية بما عليها وهجم.. بعد أن عثر بصعوبة لأنه أحوّل وأعمش على صينية قديمة فيها ثقوب، استصلحها والتقطها من حاوية الزبالة، التي يقف قربها.

وفيروز بائعة السمك التي يقول عنها الناس عينها مدّورة تندب فيها رصاصة، رغم أنها صماء وعانس.. بالكاد لحقت نفسها هي الأخرى قبل فوات الأوان، وهجمت تحمل ماسورة مياه قديمة.. رغم أنها الوحيدة في المخيم التي لا تعرف ما هو الموضوع من أصله.. لكنها عرفت بعد أن تثنت الماسورة لكثرة ما ضربت وخبطت بها على جسد الرجل، لغاية ما فلتت منها وضاعت في بحر الزحمة.. ثم حدقت إلى الجموع المهاجمة بفرح غامر يتقافز من عينيها الواسعتين، وهي تصلي على النبي وتتبع صلواتها بتكبيرات متتابعات ملعلعات.. ثم راحت لبهجتها تضع كفها أسفل انفها وتفرقع زغاريد لها رنات.

ولم ينس بائع الخضار أن يهجم هو أيضا وقد وصله الدور في الهجوم، حاملا بيد رطل الحديد، وباليد الأخرى بقايا ميزان قديم خربان.

والحمار المربوط منذ الصباح قرب باب الصيدلية لا أحد يعرف له صاحب، صار يعنطز هو أيضا وينهق ويرفس محاولا الانفلات ليهجم.. والشجرة التي لا أحد يعرف منذ متى هي مزروعة قرب عمود النور، صارت تهتز هائجة في محاولتها لاقتلاع نفسها من جذورها لأنها تريد هي الأخرى الهجوم.. والمباني.. والحجارة.. والرمال.. والبحر.. والسماء.. وأعمدة النور.. والإسفلت.. وقطط الشوارع.. كل شيء كان يريد الهجوم على الرجل.

وصلت سيارات الشرطة إلى المكان.. وباشرت على الفور إبعاد الجموع المشتعلة بالغضب، إبعادها عن الرجل، الرجل الذي همدت قدرته ليس فقط على التألم والحركة.. إنما أيضا فقد قدرته على الأنين، وظل مكوّما في غيبوبته وملطوعا لا يحس بشيء مما يجري حوله.. رغم ذلك ظل الناس مستنفرين.. إلا أن الشرطة أبعدتهم عن الرجل بقوة الهراوات وخراطيم المياه، وعيارات نارية في الهواء راحوا يطلقونها من حين إلى حين.. واستمرت الشرطة في محاولتها إقناع الناس بأنهم مخطئون.. وبأن الرجل الذي هجموا عليه وضربوه مسكين، مثل بقية كل المساكين على هذه الأرض.. وأنه بريء.. ومظلوم.

لكن الناس لم تقتنع بهذا الكلام وأخذت بعنفوان تهتف ضد الرجل..

 قاتل.. مجرم.. فاشي.. دموي.. همجي.. لا يعرف الله ولا يتقيه.

وجاء مهاجمون جدد.. جاءوا من الحارات البعيدة.. رجال ونساء وأطفال وشيوخ.. بعض النسوة جلبن شواكيش ثقيلة.. وبعضهن حملن مناشير حديدية لها أسنان من الجهتين، وبعض ثالث منهن حملن في أيديهن بلطة.. وأخريات حملن سكاكين المطبخ ومفاتيح علب اللحمة.

وتنوع ما يحمله الرجال ما بين فؤوس وجنازير.. وغسالات معدومات الصلاحية..

وأرجل خشبية فكوها من طاولات قديمة لم يعد لها نفع.. وجذوع أشجار ناشفة.

وصلت سيارة الإسعاف.. قبل أن يتسن للقادمين الجدد الالتحام مع زملائهم السابقين.. حملت سيارة الإسعاف على الفور الرجل إلى المستشفى.. وهناك تفاجأ المسعفون بوجود الكثير من الناس المهاجمين كانوا قد سبقوهم إلى بوابة المستشفى الكبيرة.. وحاول بعض المرضى في المستشفى وبعض الممرضين والأطباء الهجوم على الرجل، لكنهم فشلوا.

ومن جديد حال رجال الشرطة بين الناس وبين الرجل.

تم إدخال الرجل إلى غرفة الإنعاش.

اختار الناس فريقا منهم لينوب عنهم في الحديث والتفاهم مع إدارة المستشفي ورجال الشرطة.

وتم التحقق من شخصية الرجل، ليس فقط من بطاقته الشخصية، ولكن أيضا من بعض الفحوصات.

وبالفعل تأكد الجميع منه، وعرفوه. وعرفوا كلهم أنهم مخطئون، وعرفوا أن الله خلق من الشبه أربعين، أحمرت وجوههم وصارت أحمر من عرف الديك، وهي تطلق كلمات الاعتذار، والأسف غير المفيد لصحة الرجل وجروحه وغيبوبته.

وأمر مدير المستشفى بوضع يافطة على باب غرفة الإنعاش مكتوب عليها بالخط العريض: الذي يرقد هنا ليس رئيس وزراء دولة العدو الصهيوني، إنما يشبهه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى