الجمعة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم سمية البوغافرية

الملك عربائيل

أشرقت الشمس تضيء وجوها سطرت ملامحها وشوم دهور من الرماد.. هتافات وتهاليل وزغاريد تهز الشوارع... اسم باني العهد الجديد يلعلع في السماء... والملك الهمام، أغلق عليه في مكتبه وآثار التعب والحنق بادية على محياه... أضناه العراك مع الثعابين... اليوم رفع العقوبة وأصدر حكمه بإعدام وزير ماليته... وقد أعدم سبعة ولاته وقطع أيدي اثني عشر وزرائه من قبل وما يزال رأس الثعبان ينفث سمومه ويستفزه بفحيحه فيشعل في كيانه شرارة الإصرار على بلوغ رأسه ودهسه...

انساب فاكس جديد انزلق من فوق كومة رسائل على سطح مكتبه وسقط أرضا بجانبه... فقطع عليه التفكير في الثعابين وأسلحة دحضها.. يعلم أنها رسالة جديدة من ضمن سلسلة رسائل ابن عمه المتهاطلة عليه في كل حين... نظر إليها بازدراء وفض جم سخطه والمرارة التي ملأت فاه على أبناء عمومته الذين أمسكوا بتلابيب الحكام السابقين وحجبوا الشمس على الشعوب دهورا من الزمن...أفيون الشعوب أينما حلوا عاثوا فسادا... سمومهم ما تزال تسري في شرايين المجتمع... تفجرت في ذهنه أسئلة طالما سد ينبوعها ويده تمتد لتلتقط الفاكس الأخير لابن عمه الشاب...لماذا يصر أكثر من إخوته على شق الجدار الذي بنيته بيني وبينهم؟؟.. ما الذي يشده إلى بلدي ؟؟ وكيف يدوس على كل الإغراءات التي تطوقه ليختار بلدي عن كل البلدان؟؟...

لم يهتد الملك إلى جواب يطمئنه عن ابن عمه الشاب الذي لا يعرف عنه غير سطوع نجمه في سماء العلم والمعرفة... سطعت لعينيه، بين سطور الرسالة ، الخدمات التي يعرضها عليه وحجم الإغراءات الخرافية التي يتلقاها من الجهات الأخرى لاستقطاب موسوعته العلمية فعكف يشرح جثة المدفون على ضوء أمل يبرق له في الأفق.

عقد مجلسا مع وزرائه ومستشاريه، فتحمس أكثرهم لاحتضان ابن عمهم وكادت أن تتفق كلمتهم على أنه مكسب للبلد والشعب وأنه قيمة ما ينبغي أن تهدر بسبب أخطاء وجرائم ارتكبها آباؤه، بينما تحفظ الآخرون قائلين بأنه سلاح ذو حدين لتستقر كلمتهم أخيرا على تأجيل الحسم في أمره حتى الوقوف على حقيقة نواياه.. انفض المجلس وعلى الوجوه اشراقة التطلع إلى غد أكثر إشراقا..

بعد أيام من وضعه تحت المجهر، استودع ابن العم في يد الملك الذي قام ورحب به بكلمات تتساقط من لسانه كالرصاص رغم الليونة التي يجهد نفسه أن يخلعها عليها... انحنى ابن عمه يقبل يد الملك ويقول بفرحة غامرة:
 أتمنى مولاي أن أكون في مستوى كرمكم وأن تفتحوا لي صدركم لنكمل بناء صرح جنة الوجود التي أرسيتم قواعدها...
سكت هنيهة فاستأنف يكسر الصمت المخيم في المجلس:
 صنعتم مولاي في ظرف وجيز ما عجز عليه السابقون دهورا من الزمن وتمكـــــــــــــ
 هم أيضا صنعوا ما لا أقدر عليه العمر كله... بنوا الأحصنة في اتجاه معاكس لاتجاهي... بلغوا الشمس وحجبوها على الشعوب
ابتلع ابن عمه رصاصة الملك وواصل حديثه معه كأنه لم يسمع منه شيئا:
ـ أعلم مولاي ما تكابدون من أجل تطهير أرضكم من الثعابين وسمومها.. الفساد مولاي سرطان إذا تمكن من الجسد عقم بوادر النماء السليم فيه وقلب الأرض على أهلها إلى جحيم... هو كالسوسة التي تنخر قلب الخشب فمهما حاولتم الترقيع أو اكتفيتم بالعلاج من الخارج يظل يفتك بالداخل...

طفت بذاكرته حكاية وزير ماليته الذي سطا على أرض أحد الرعايا ظلما وعدوانا و الوثائق المزورة الذي ضبطها في حوزته ليسطو على مال عام وكيف انتشل مؤخرا البلاد بمساعدة بعض رعاياه الأوفياء من مخالب مصاصي الدماء وحاجبي الضياء.. فزفر الملك حانقا يلفظ الغصة من حلقه ويقول كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع:
 لن يجدي مع عديمي الإنسانية والمستوزرين في الطمع والجشع غير بطر رؤوسهم وــــــــ
 لا، لا مولاي لا أوافقك على ــــــــ
حدجه الملك بنظرة شرسة جفت ريقه فالتم ابن عمه على نفسه واستدرك قائلا:
 سيدي الملك الهمام ما كان يعالج بالأمس بالسيف يعالج اليوم بالعلم...
 كيف للعلم أن يطهر نفسية المرضى من أوزار الطمع والجشع الذي أعمى أبصارهم وبصائرهم؟؟.. كيف للعلم أن يشفي عمي البصر والبصيرة...أمثال هؤلاء ينبغي أن يحقنوا بجينات الإنسانية حتى ..
 اجل أجل مولاي هذا ما سنعكف عليه...
جحظ الملك عينيه مستغربا فاستأنف ابن عمه الحديث بحماس:
 أمثالكم قلائل مولاي والاعتماد على الأسلوب التقليدي لتحقيق أهدافكم السامية أمر أتخيله مستحيلا في زمن دججت فيه كل الأسلحة لانتصار الشر على الخير... أملي أن تصبغوا علي ثقتكم وتقبلوا يدي الممدودة لكم لنعلي راية عهدكم ونثبت حكمكم وحكمتكم التي يتغنى بها الكل...
رسم الملك على شفتيه بسمة ماكرة وقطع كلام ابن عمه قائلا:
 أعلم أنك من نسل هاروت...وأنك شيطان السلاح وأنك مع إخوتك تنامون وتصحون على التخطيط لأنشطة الدمار ... وأما أن تمجد الخير وتسعى إلى نشره حولك فهذا ما أجهله...
فرت من ابن عمه ضحكة مقتضبة واستأنف كلامه:
 لن يقيك مولاي شرور الداخل ويحقق لكم مرادكم ويثبت في أعماقكم الراحة والطمأنينة على رعاياكم الأوفياء غير الرقائق...
 الرقائق ؟؟!!
 أجل مولاي، تقدر الرقائق على أن تعالج في لمح البصر ما عجزت عليه القوة طيلة تاريخ البشرية... حينما تزرعها في أجسام حاشيتكم ورجالكم ستتمكنون من متابعة أعمالهم وما يدور في خوالجهم في الوقت الذي تشاء... تكفي برمجة بسيطة على حاسوبكم وإطلالة خاطفة من حين لآخر.. سيطمئن قلبكم ويتحقق مرادكم... اعتبرها مولاي معطلات سوء النفس ومنشطات للوجدان... تقوم سلوك الإنسان وتعطل النزعات الشريرة في الذات.. ومفعولها في الحال.. وقد تغني جلالتكم على المحاكم وأجهزة الأمن والسجون والمصحات النفسية والمؤسسات التأهيلية... وعن نزيف الميزانية المخصصة لها...
استشعر الملك أن ابن عمه قد مد يده واجتث الكابوس الجاثم على صدره فتنفس بعمق وسأله والبشاشة تفرش وجهه:
 وهل هذه الرقائق العجيبة في متناول يدك؟؟
 أجل مولاي... برمجتها تخصصي
فأردف الملك كما المسحور:
 ورقائق العلم والمعرفة ألا ـــــــ
تلعثم لسان ابن عمه وانطفأ حماسه وهمهم:
 مولاي بالنسبة لرقائق العلم لم أحسم فيها بعد ولا أنصحكم بها في الوقت الراهن
 وعملية زرع الرقائق لا تشكل خطرا على الذات والجسد؟؟
 إطلاقا مولاي... وإذا شككتم في الأمر عطلنا مفعولها في الحال وعاد مواطنك طبيعيا كما كان في سابق عهده...
ضحك الملك وعانقه قائلا له بفرح جنوني:
 والله لأنت الشيطان بعينه... أملي كبير أن تجبر ما كسره آباؤك ويعود الود
 وستعيدهم إلى أرضهم مولاي؟؟؟..
 أرضهم؟؟؟ أية أرض نملكها لنعيث فيها فسادا؟؟ اعلم من اللحظة وخذ قرارك كما تشاء لا أهلك ولا أولادك ولا زوجك سأسمح لهم بدخول أرض بلدي وهذا عهد قطعته على نفسي مدى الحياة...
انكمش ابن عمه على نفسه مطرقا رأسه والحسرة تفتك بداخله على الكلمات التي انزلقت من فيه وكادت أن تهد كل ما بناه وقال في خنوع وخشوع:
 سمعا وطاعة مولاي
 سمعت ماذا؟ وأطعت ماذا؟؟
 سمعنا أمركم وأطعناه... وأنتم هنا أهلي وذوي محبتي

أمر الملك بإحضار وزير ماليته المحكوم عليه بالإعدام... قدم بين يديه مرتعشا مرتبكا ومضى مقفقفا ينزل على يديه يطلب منه العفو فإذا به يعرض عنه وجهه ويأمره بأن ينقاد وراء ابن عمه..

تعقب الملك خطوات وزيره وجاب دواخله من خلال حاسوبه فاطمأن قلبه وأذهلته النتيجة وكرر العملية مع العتيدين في الإجرام وأطلق سراحهم ثم زود كل المقربين من عرشه برقائق الإخلاص والوفاء والمهنيين برقائق انتعاش الضمير وأثبتت في بطاقاتهم الشخصية باسم ختم الأمان...

استشرت الطمأنينة في قلب الملك وعم البلاد الرخاء والغناء وتقرب ابن العم من الملك الذي عرض عليه الزواج من ابنته لكنه بلباقة رفض مصرحا له بأنه سيظل وفيا له ولزوجته ويسعده بأن يتزوج هموم بلاده وسعيد بإيجاد الحلول لها...

مع الأيام، احتد خوف الملك على مملكته وراعيته وعلى النعيم الذي أوجده على البسيطة بفضل حنكته ودهاء ابن عمه خربائيل... أضحى الأرق صديق ليله والوساوس على مآل بلده رفيقة نهاره فتسلل إليه خربائيل مقطبا يقول والدمع يترقرق في مقلتيه:
 أراكم مولاي تنطفئون في السر وتتحرقون في الصمت... أشعر أن مهمتي قد انتهت وعبقريتي شلت أمام جلل ما يخفيه علي جلالتكم...
طأطأ الملك رأسه منهارا حتى كادت أن تخذله الدموع ففض إليه بنزيف قلبه:
 كلما رفرفت أجنحة قلبي تفرح مع شعبي قصقصتها بالخوف على أن يفقد النعيم يوما... العيون حولنا تتربص بنا.. ما أن نغفل حتى تسطو... أخشى أن يعود الحال إلى ما كان عليه سابقا ويجرف الطوفان في رمشة العين ما بنيناه...
 كيف ليد الغدر أن تمتد إلى جنتكم مولاي وأنتم قد حصنتموها من الداخل والخارج وزمام الأمور كلها في يدكم... وبعد عمر طويل لن يجلس على عرشكم غيركم... أقصد ابنكم البار الذي زودناه برقائق من شخصكم الكريم... لا أرى مولاي سببا لهذا القلق الذي سلب منكم الحياة وسلبكم منا ولم نعد نراكم إلا وجلالتكم مهموما مغموما..
ضرب الملك كفا بكف حائرا ولم يجد ردا على لسانه... فقط ألسنة النيران تتأجج في داخله ولا يرى سبيلا لإسكاتها أو إطفائها فطمأنه ابن عمه خربائيل قائلا:
ـ لا تقلق مولاي، مع النانوتكنولوجيا لا خوف على الإنسان إلا من الخونة وعديمي الضمائر وخبيثي السرائر...
 لا حيلة لي من الانفلات من مخالب هذا القلق اللعين.. مهما قاومت وطمأنت نفسي بما أرى حولي وأجهدت نفسي لأعتق ذاتي من قبضته أجدني بين فكيه ليلي كنهاري...
 أنصحكم مولاي برقائق الحياة والمرح الذي انطفأ في نفسكم بسبب أوزار المسؤولية...
التفت الملك إلى ابن عمه وفي أديم عينيه ينبض بريق الحياة وسأله:
 الرقائق.. الرقائق.. ألا تملك دواء غير الرقائق
 كيف لنا أن نعدل عن الرقائق وهي سحر العصر أيها الملك الهمام
 أنا لا أستسيغ في آخر عمري أن أكون فأرا في مختبرك
 كلا مولاي أنا الفأر وأنا المخبر والمختبر وإن شاء الله بعد رضاكم واقتناعكم سأكون طبيبكم

زرع خربائيل رقائق المرح في جسده أمام الملك فانطلق يضحك ويملأ المكان قهقهة ومرحا وتندرا.. ذكر الملك بأيام شبابه.. فأذن له الملك بإشارة من رأسه بأن يزرعها في جسده.. ففعل ومكنه من سر تعطيل مفعولها إذا رغب عنها يوما.

انطلق الملك مرحا يضحك ويرقص ويغني... طاف في الحدائق والجنان حوله التي لم يزرها ولم تطأها قدمه من يوم تدشينها ثم ألقى بنفسه في المسبح... ومن يومه صار المرح هدفه ومسعاه في الحياة وحيث يوجد هب إليه أو استقطبه إليه ولو كان معلقا على قرن القمر... فصارت النساء نساءه والغناء غناءه والمملكة في يد ابن عمه خربائيل صاحب الرقائق... يحرك الذين حوله وحول الملك عن بعد كما يشاء... واستبدل مع الأيام رقائق انتعاش الضمير برقائق الخنوع وعبادة الشهوات والدنانير... فانهمر أبناء العمومة على البلاد كالجراد وملأوا القصور وما جاورها... والملك الهمام يرحب ويثني ويجازيهم على ما أغدقوا عليه من أسباب المرح...

الطائرات تحط واحدة تلو الأخرى بأبناء العمومة... المملكة تغرق والشعب يختنق ويهيج... بلغ الغليان أوجه في الشارع فاعترض الشعب طريق المطار مانعا أبناء عمومتهم من دخول المملكة... داهم خربائيل مجلس الملك الغارق في أصناف المرح مع شهرزاداته وأبناء عمومته في وليمة ترحيب بعودتهم، فأخبره بهيجان شعبه.. أشار عليه بإشارة من يده بأن يفعل ما يراه ثم عاد يسبح في نعيمه وهو في حالة من الانتشاء لا عهد له به من قبل...

تسلح خربائيل بأسلحته ودجج الشوارع في كل أنحاء البلاد بقوى حفظ الأمن والسلام لعائلته الكبيرة وأنشطتها./ .

نوفمبر، 2007


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى