السبت ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
تراجيديا العِشْقِ والنَّفْي والاغترابْ
بقلم إبراهيم سعد الدين

قراءة نقدية في المجموعة القصصية (لَعْنَة المَنْفَى)

للكاتبة القاصّة زكيّة عَلاّلْ

حين يصيرُ المَنْفَى وطناً فتلك وجيعةٌ تعتصرُ القلبَ فيظلُّ ينزفُ ألماً واغتراباً ويقطرُ حنيناً للوطن الشارد. أمَّا حين يتحوَّلُ الوطن إلى منفى فهذه فجيعةٌ تخنقُ الرُّوحَ وتمتصُّ ماءَ الحياةِ من خلايا الجسدْ. كُلُّ براحِ الوطنِ بأرضه ومائه وسمائه يضيقُ ويصْغُرُ حتى يَستحيلَ زنزانةَ سِجنٍ رَطبةً مُظلمةً مسكونةً بأشباحِ الخوفِ وهواجسِ القلقِ ووحشةِ المجهولْ.

عن هذا الوَطنِ ـ المَنْفَى وهذا المَنْفى ـ الوَطَنْ، تُحَدّثنا زكيّة عَلاّلْ في مجموعتها القصصية الثانية (لَعْنة المَنفى). وللكتابة عند زكيّة عَلاّل طقوسٌ خاصّة أشبه بسكراتِ الوَجْدِ الصُّوفيّ، فيها ذلك التَّبَتُّلُ والتّوَحّد حَدَّ الانصهار والذّوبان في جَمْرِ التّجربة. وفيها ذلك الصَّفاء النورانيُّ والشّفافيةُ الكاشفة والحِسُّ المُرهفُ القادرُ على النّفاذِ إلى صميمِ الأشياءِ وسَبْرِ أغوارها. وفيها ذلك الخيالُ الجامحُ برؤاه وصوره وأحلامه التي تتلاشى فيها الخطوط الفاصلة بين الواقعِ والوهم، وبين الحقيقة المُجَرّدة والرَّمز المُشِعِّ بالمعنى والدّلالة. وفيها تلك اللّغة الصّافية الرقراقة بطاقاتها الثَّرّة، وقدْرَتها التّعبيريّة المُدهشة، وشاعريّتها التي ترقى أحياناً إلى مستوى التّرْتيلِ والإنشادْ. وفيها ذلك الانسيابُ العفويّ والتداعي الحُرّ في نسْجِ خيوط الحدثِ ونفْخِ روحِ الخلقِ والإبداع فيه حتى يستحيل كائناً نابضاً بدفءِ الحياة،ِ ناطقاً بجلالها وسِحْرها، حافظاً لسِرِّها الأبدي.

في أولى قصص المجموعة (هروب السَّجينة رقم 1) يتهجّدُ صوتُ الرَّاوي(ة) ـ عبرَ سَيْلٍ مُتدفّق من التداعياتِ ـ بغنائية عذبةٍ لكنها مُرّة المذاق مُترعةٌ بالشَّجنِ والأسى والعتبِ على وطَنٍ ظلّت أسيرةَ حُبّه مشدودةً بوثاقه مُلتصقةً بأرضه حتى ضاعت سنين عُمرها في جفائه وأكاذيبه وتُرَّهاته وأساطيره، وتبَدّدتْ أحلامُ طفولتها وصباها وأنوثتها الغَضَّة في ثراه. وها هي لحظة الفراق تلوحُ لتنعتقَ من أسْرهِ وتتَحرَّرَ من أغلاله وتعيشَ ما بقي لها من عُمرٍ بعيداً عن سطوته: "اليوم.. وبعد أن زحفَ الشَّيْب إلى رأسي، وشَاخَ الحُلمُ في صدري، أجلسُ وحيدةً إلاّ من وجعي، أشعرُ بالبرْدِ يقتلُ آخِرَ ما تبقّى من حُلمي الوَرديِّ، لهذا قَرَّرتُ أن أهربَ بما تبقّى في صَدري، ولن أعودَ إليك، سأسافرُ إلى آخرِ محطّاتِ الدُّنيا لكن لَنْ أعود إليْك.. لَنْ أعود.. لَنْ..".

لحظةُ فراقٍ مشحونةٌ بدراما العِشْق والضّياعِ، والانتماءِ والتشَتّت، ورثاء الذَّاتِ والعُمرِ المُهدرِ والأحلامِ التي ذوتْ وعصفت بها رياحُ الوطن العاتية، وبصيص الأمل الذي يُطلُّ على استحياءٍ من غيابةِ المجهول.

لكنّ بطلتنا تفيقُ من حُلمها على هرجِ الرُّكَّابِ ومرجهم، فالطائرةُ أصابها عطبٌ طارئ اضطرّها إلى العودة للمطار الأوّل: "المطار الأوّل..؟! تهاوَتْ أحلامُ الهروبِ على مقعد الطائرة، وأخْرَسَت الخَيْبةُ لساني، وعُدنا إلى المطار الأوّل.. إلى الصِّفر.. لأجدك تنتظرني كما تركتُكَ لحظةَ الوداعْ، فَتَحْتَ ذراعيْكَ واستقبلتني بابتسامةِ انتصار.. فأسرعتُ إليكَ ودفنتُ رأسي المُتعب في صَدْرِك".

هو الوطن ـ إذَنْ ـ ننبتُ من تُرابه ونؤول إليه، وما بينهما رحلة عُمرٍ تظلُّ أقدامنا مشدودة إليه من ضياعِ أوّلِ العُمرِ ومنتصفه إلى ضياعِ أواخر العمر. ومن عشقنا له وانكسار حُلمنا فيه تتولّدُ دراما العِشْق والغُربة والضّياع والتشتّت.

في قصة (لعنة المنفى) نُحِسُّ تهدُّجات الصَّوت النازف بالوجعِ والوحشةِ والاغتراب، ونعيش فاجعةَ افتقادِ الوطن وإشراقةَ الأملِ في البحث عن ملاذٍ آمن بعيداً عن أشباح الوطن ـ المنفى وكوابيسه. لكن هل يمكن أن ينمو الحُبُّ ويخضَرَّ ويفيءَ بظلاله في صَحراء مٌحرقةٍ وتُربَةٍ مروَيَّةٍ بدمِ الأبرياء..؟! هل يتَّسِعُ قلبُ المُحبِّ حقّاً ليصير وطناً بديلاً..؟!

"تَحَسَّسْتُ هذا الذي هَرَبْتُ إليه وسَمَّيْته وطناً، فإذا هو لُعبَةٌ مَحشوَّةٌ بقطن السخرية والعبث، أهداني إيّاها رجل، ومن فرط يأسي جعلتُ لها عَيْنَيْن ولساناً وشَفَتَيْن، وزَرعتُ فيها قلباً وقنوات دَم، وسَمَّيْتها وطناً، لكنّ وجه السماء تلبَّدَ، والغيمة تكاثرت وأتَتْ بمطرٍ يُشبه الطُّوفان، فتَبَلَّلت اللُّعبة، وانتهت أسطورة وطنٍ من ورقْ".

هكذا تنتهي تجربة الفرار من منفى الوطن إلى منفى آخر أكثر ضيقاً وأشدّ وحشة. فالوطن ليس هويَّةً نحملها أو أرضاً نَنْبُتُ منها أو تُراباً ننتمي إليه، ولا هو مجرَّد بشر تربطنا بهم صلة النَّسب والقُربى، لكنه تراثٌ وتاريخٌ ووجودٌ حيٌّ وكينونة مُتَخِلِّقة تعيش فينا مثلما نعيش فيها.

الوطن ـ بمفهومه الجغرافي والإنساني ـ هو الحاضرُ المُهَيْمنُ دوماً في معظم أقاصيص هذه المجموعة ـ أو كلها مع استثناءٍ نادر ـ وهو يتصَدّرُ واجهة المشهد حيناً ويتوارى في خلفية الصورة أحيانا، لكنه يبسط ظلّه ويفرض وجوده في كل الأحوال. وثيمةُ الوطن الشَّارد تتَواتَرُ ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في ثنايا الأحداث التي يغلبُ على أسلوب القَصِّ فيها صوتُ الرَّاوي(ة)، دلالةً على حميمية العلاقة بين البطل والتجربة، واتساقاً مع كون هذه التجربة تيّاراً متدفقاً في نهرٍ واحد يرفدُ كل أقاصيص المجموعة بمائه ويُخصبها بزبَدِه وطَمْيه مهما تنوّعت الأحداث واختلفت الشخوص. والراوي هنا هو بطلُ هذه الأحداث وناسجُ خيوطها، وهو بطلٌ تراجيديّ تكمنُ بذورُ مأساته في داخله، وينشأ الصراع من عشقه حَدّ الذوبان لوطنه وعجزه عن التواصل معه، ومن توهّج الحُلمِ لحظةً وانطفائه بغتة، ومن عظمِ الآمالِ وفداحة السقوط وألمِ الانكسارِ، ومن الإحساسِ بخشونة الواقع وجفائه والعجز عن تغييره.

لكن.. ما الذي يحولُ بيننا وبين تواصلنا الحميم مع هذا الوطن..؟! ما الذي يُنبتُ الشَّوكَ الذي يُدمي قلوبنا كُلّما همَمْنا بعناقهِ والامتزاجِ بثراه..؟! ما الذي يُحيلُ وجودنا فيه إلى كابوسٍ لا نَملكُ ـ طوْعاً أو كَرْهاً ـ الإفلاتَ من قبضته..؟!. ليسَ من مهامّ الفنّ أن يُفَسّرَ الأسبابَ ويتقصى العِلَل، حَسْبُه أن يضعَ يده على موطنِ الوجعِ ويُشَخّصَ الدّاءَ ويصوّرَ لنا أعراضه فيثيرُ أحاسيسنا ويُحَرّكُ سواكن النّفسِ ويستقرُّ بالوجدان. لكنّ زكيّة عَلاّل تذهبُ ـ في فَنّها القصصيّ ـ إلى مدىً أبعد من ذلك بكثير، وتنفذُ إلى أعماقٍ أبعد غوراً في تشريحِ المأساةِ واستِكْناهِ جوهرها، فهو فَنٌّ لا يَقنعُ بالخلقِ والإبداعِ والإمتاعِ والمؤانسة، بل يتجاوزه إلى حَملِ رسالةَ التنوير، بإدانةِ ما يستحقُّ الإدانة وتحريضِ الضمير الجمعيّ على تغييره إلى الأفضل والأجمل والأكثر إنسانيّةً والأوفر عَدلاً وأمناً وإشباعاً وطمأنينة. وهي تفعلُ ذلك بنعومةٍ وسلاسةٍ وتلقائيةٍ دون صخبٍ أو ضجيجٍ أو افتعال، فتصلُ رسالتها إلينا بليغةً نافذة للقلبِ والعقلِ والضمير.

في قصة (تفاصيل وجع على الإنترنت) تتجسّدُ تشوّهاتُ الواقع وتداعياته في مخيلة الرّاوي(ة) من خلال لحظة ينقطعُ فيها التيّارِ الكهربائيّ ويعمُّ الظلامُ فتنبعثُ أشباحُ الزمن القديم وذكرياته لتمتزج مع أحداث اللحظة الراهنة وتتشكّلُ سَيْلاً مُنهمراً من الأخيلة والرؤى والتهيؤات الغريبة والمُدهشة. لحظةٌ قد تطولُ أو تقصرُ لكنها تختزن تاريخاً كاملاً من الألمِ والمرارة وانكسارِ الحُلم، وتَسْتحضرُ الرّاوي (ة) من خلالها تفاصيل وجعٍ حبيسٍ يجدُ مُتنفسه أخيراً على شبكة النّت.

"سَحَبَتْني المرارةُ إلى بيتي حمامةً ضَيَّعتْ بَيَاضَها وسَلامها عند بوّابة الفِتْنةِ الكُبرى، فأفاقت على ألوانٍ شَتّى تتعاقَبُ على خارطة روحها.. ألجُ إلى الدّاخل يتقدَّمني جيشٌ من الرِّياحِ العاصفة العقيمة، وتحرسني من ورائي فِرقَةٌ من الخوف الذي احتواني منذ استيقظت الشوارعُ على طوفانِ الدَّمِ والدموعِ والجثث المُشوَّهة، ودخان أحلامٍ أحرقتها الحماقة".

هي ـ إذن ـ الفِتْنةُ الكبرى التي أشعلت فتيل العُنفِ والعنفِ المُضادّ بين أبناءِ الوطنِ الواحد، وسَوَّلتْ للأخِ قَتْلَ أخيه، وحَوّلتْ أمنَ الوطنِ وسكينته ساحةَ حَرْبٍ واقتتالٍ وجحيماً لا يُحْتَمَل. حتى الحُبّ يُصبحُ اغتراباً يفقدُ فيه المحبون دفء التواصل الإنساني وحميمية اللّقاء، لأن المشاعرَ تشوّهتْ ورومانسيّة الحبّ الجميلة لم يعد لها مكانٌ في عالمٍ تحجّرَ قلبه وماتت أحاسيسه وخلا من الجمال والبراءة. وحكايا الطفولة القديمة التي كانت تُدفئُ القلبَ وتبعثُ النشوة في الجسدِ وتُحَلّقُ بالروح في عوالم من سِحْرٍ وشفافيةٍ ونقاءٍ خالص ـ هي الأخرى أصابها البلى والرثاثة فلم تعد ملاذاً آمناً للقلوب المتعبة والأرواحِ الشريدة.

"اللحظة جسدي كله يرتعش.. أسناني تصطدمُ ببعضها البعض لتُحْدثَ صوتاً يُمزّقُ صمتَ الغرفة. حاولتُ أن أتزَمّل.. أن أتدثّرَ بكلّ الحكايا الدّافئة التي عبرَتْ حياتي... حاولتُ أن أتدثّرَ بحكاية الرجل الأسطورة الذي ظلَّ سنواتٍ ينحتُ في أروقةَ الروحِ قصةَ وفاءٍ في زمنٍ تُزهرُ فيه الخيانة... حاولتُ أن أتزَمّلَ بكل ارتعاشةِ صِدقٍٍ.. لكنْ عبَثاً.. فصوتُ العاصفةِ يُزمجرُ من الدّاخل.. من العُمق.. ليتوزّعَ في أحلام العُمرِ ويقتلعها، لِتَرْكنَ إلى يُتْمٍ لا دفء بعْدَه".

عاصِفَةٌ في الداخل وعاصفةٌ في الخارج. مثلما تنبعثُ ذكريات الماضي وتمتزجُ مع رؤى الحاضر في تداعيات العقل والجسد والروح حينَ ينطفئُ النور ويعمُّ الظلام، فإنّ هبوب العاصفةِ أيضاً يُتردّدُ صداه داخل الرّاوي(ة) فيستثيرُ مكامن الوجعِ ويولّدُ أحاسيسَ خوفٍ ورهبةٍ وفقدٍ للأحبةِ وخيالاتٍ تختلطُ بصور الواقع ـ في قصة (من وحْي العاصفة) وهي واحدة من فرائدِ عِقْدِ هذه المجموعة وأكثرها تَميّزاً على صعيدي الشكل والمضمون معاً. فالأم المفجوعة بفقدان ولدها تجوبُ الشوارعَ الغارقة في العنفِ والدّمِ تسأل: يا أهلَ المدينة.. من رأى منكم ولداً تائهاً يحملُ في يده خُبزاً ووردة..؟!. لكنها ترى قوائم التائهين مليئة عن آخرها بأسماءِ فلذات الأكبادِ والأزواجِ الذين ضاعوا وتسربوا من بين أحضان أهلِهم وأحبابهم. ووسط ذهولها تكتشف أن زوجها وأمها أيضاً في عداد المفقودين، وترى الشوارع والأرصفة مَلأَى بجثثِ القتلى من أحبائها وذويها، فتمضي تسألُ كُلَّ من تلقاه عن زوجها وأمّها لكن لا أحد يجيب، الكُلّ يُشيحُ بوجهه عنها ويفرُّ مذعوراً. إنه طوفان العنف والدّم الذي يجتاحُ الوطن بغير عقلٍ أو ضمير:

"وأنهضُ.. أجمعُ قوَّتي التي انفرطتْ منّي وتدحرَجَتْ، لتسوقني إلى جُثثٍ تتزاحمُ على الرصيف، اقتربتُ منها.. تفحصتها: هذا وجه زوجي وقد تمدَّدَ الفرحُ على ملامحه السّاكنةِ مهزوماً.. مقهوراً. هذه جثة ولدي التّائه متوسّداً خبزاً ووردة، وقد ماتت الابتسامة عند منعرج شفتيه لتتركَ مكاناً واسعاً للشحوبِ والموتِ البارد. وتلك ضفائر أمّي تتمدَّدُ في شموخٍ على جسدها السّاكن.. آهِ.. يا وجعي..

 يا أهل المدينة.. من لطّخَ يده بدمائهم..؟!
 يا أهل المدينة.. من أباح دمهم..؟!"

لكنها لا تسمع غير صدى صوتها يترددُ في الفراغ السحيق ولا تتلقّى غير الصفعات.. فقد نطقتْ كفراً وانطلق صوتها الملتاع بالصياح تمَرُّداً وإدانةً لواقعٍ مُفجع.

في هذه القصة ـ الكابوس أو الحلم المُفزع نعيشُ أجواء الخوفِ والرّعب والإحساس بفقدان كل ما هو غالٍ وعزيز في وطنٍ يشتعلُ بنار الغضب وحُمّى الحماقة.

قصة (لعنة القبر المفتوح) هي عزفٌ آخر منفرد على نفس الوتر. تبدأ القصَّة باستهلالية أشبه بمقَدِّمةٍ موسيقيّة لأغنيةٍ حزينة، تحملُ من الشَّجَنِ ما يُهيّءُ حواسَّنا ومدارِكَنا لتلقِّي دقائق الحَدثِ المُفْجِع أو تفاصيل المشهد الحَزين:

"السَّاعة: الثالثة بعد منتصف اللَّيْل بتوقيت الخراب الذي يسكنها أو تَسْكُنه لا فَرْق..

المكان: وطنٌ لا وَطَنَ فيه
الزمان: عَهْدٌ لا وَفاءَ فيه

العُقْدة: هي امرأة تَحضن قَبْرَها.. تماماً كما تَحْضن الطِّفلة دُمْيَتَها.. هي امرأةٌ ترفضها كُلُّ المدن.. كل الوجوه التي تتناثر على صَدْرِ الصباح، لهذا قَرَّرت أن تنصبَ خيمةً على جسدها وتلفَّ غيْمةً حوْلَ رأسها لتروي على مسامع الكون تفاصيل حبِّها..".

هو ما كان قبْراً من قَبْل.. كانَ شَمْساً مُتَربِّعةً في حنايا القلب تضيءُ ظُلمته وتُشيع الدِّفء في جنباته، كان قمراً عاشقاً يُسندُ رأسه إلى صدرها ويرحلُ معها إلى عالمٍ بلا أوجاع، كان وطناً هربَ إلى صَدرها ذات ليلةٍ عاصفةٍ أمطرتْ فيها المدينة جمراً ولهيباً. منذ ذلك الحين.. توحَّشَ القَمرُ وصارت له أنيابٌ وقواطع، وأبانت الشمس عن وجهها الآخر المُعتم الذي لا تُشرقُ به على الوجود، واستحال الوطن قبْراً فاغراً فاه لكُلّ ما تحصده نارُ الفِتْنة من أجساد أبنائه. تمضي المرأة مُسْتَغيثةً بالحاكم تارةً وبشيخ المدينة تارةً أخرى لكن لا حياةَ لمن تنادي، فلا أحد يُغيثُ ولا أحدَ بقادرٍ على إطفاء هذه النَّار وإغلاق فوهة هذا القَبر.

هذا عن الوطن ـ المنفى، فماذا عن المنفى ـ الوطن..؟!

في قصة (رحلة الغروب) تنتهي مسيرة رُبع قَرنٍ في الغُربة بانفراط عقد الأسرة وتشتت شملها، فالأب والأمُّ اللَّذان استبدَّ بهما الحنين إلى الأهل والوطن يعودان إليه وحيديْن بانكسارِ التّعب والشيخوخة وفجيعة فراقِهم لفلذات الكبد، والأبناء الذين تربَّوا في أحضانِ حضارة أخرى فقدوا انتماءهم لوطنهم وتقطَّعت الأسباب بينهم وبينه فما بقى من أرضه وتراثه وقيمه غير أطيافٍ باهتةٍ في المخيلة، وذكرياتٍ وحكاياتٍ قديمة لا تمتُّ لحاضرهم بصلة ولا تربطهم بوشيجة. إنقطع الحَبْلُ السُّريُّ الذي يصلهم برحم الوطن، وجرفهم تيَّارُ الغُربةِ إلى شواطئ أخرى بعيدة. يالها من نهايةٍ مُرَّةٍ وحزينة..!! وياله من قَدرٍ قاسٍ حين يتبَدَّدُ حصادُ العُمرِ في الشَّتاتِ وتذروه رياحُ الغُربة.

قصة (تفاصيل امرأة لا تموتْ) هي معزوفة أخرى على وتر المنفى ـ الوطَن، فالهربُ بعيداً والبحثُ اللاّهث عن وطنٍ آخر هو مَحْضُ خرافة مَحْكوم عليها بالفشلِ والإخفاق، لأنَّنا مسكونون بأوطاننا من النُّخاعِ إلى النُّخاع، موصولون بها من الميلادِ إلى الموت.. فأين المَفَرّ..؟!

"مارِسْ جنون الهروبِ كيفما شِئْت.. فَشَمسُ قلبك في يميني، وقَمَرُ عَيْنَيْك في يَساري، وروحك مُعَلَّقة على بَوَّابة قلبي.. فأيْنَ المَفَرّ..؟!

أنا الأرضُ.. والتُّربةُ أنا.. وحُلم الأفق.. وظِلُّك الذي يَطَْلَعُ من خيبتك الطويلة، لتتوسَّده حتى في قَبرك.. أنا الوطنُ.. والعُمقُ.. فأيْن المَفَرّ..؟!"

هكذا يتحَوَّلُ الوطن إلى منفى.. نَفِرُّ منه لنعود إليه.. نحلمُ بفراقه والانعتاق من أسْره وكوابيسه، فإذا ما فارقناه وحملتنا أقدارنا إلى أرضٍ أخرى بعيداً عنه تتوه خطانا وتَمَّحي هَوِيَّتنا وتتقطَّع جذورنا وتسوخ أقدامنا في رمال الغُربة وتتبَدَّد خرافة الحُلمِ بوطنٍ بديل.

قصة (الرسالة الأخيرة) تكاد تكون هي الاستثناء الوحيد بين قصص هذه المجموعة فهي قصة حُبٍّ بين ممرضة ومريضٍ على شفا الموت. دفقةٌ مليئة بالشجن والأحاسيس البريئة في مواجهةِ مصيرٍ محتوم، ونَبْضُ قَلْبَيْن يتشبَّثان بآخرِ قطرةِ حياةٍ وآخرِ خَيْطِ ضياءٍ أملاً في حدوث مُعجزة لا تَحْدث. مَعْرَكةٌ خاسرة مع الزَّمن، لكنها مُجَلَّلة بزهو الإرادة وقوّة المشاعر الإنسانية وشجاعة المواجهة. لقد رَحلَ الحبيبُ لكنّ الحُبَّ نفسه باقٍ ما بقيت الحياة.

ثَمّة ملمحان من ملامح الإبداع الفني ينبغي التوقف عندهما في ختام قراءتنا لهذه المجموعة القصصية. أوّلهما هو البناء الفني أو مِعمارُ القِصّةِ. وثانيهما: هو الرّمز الذي يشغلُ حَيِّزاً بالغ الأهمية في هذا العالم القصصي. وحديثنا عن البِنْيَة العضويّة للقصة القصيرة عند زكية علال ـ كما تتبدَّى لنا في هذه المجموعة ـ سوف يستدعي بالضرورة التطرُّق إلى الحديث عن أسلوب القصّ وطريقة السَّرد ولغة التعبير. في هذه المجموعة القصصية نجد أنفسنا بإزاءٍ شَكْلٍ قصصيٍّ متفَرِّد حقّاً، فهو يجمعُ ما بين السَّرْد النَّثْريِّ وجماليّاتِ الشِّعر، ويُزاوجُ بين التَّقرير والمُجاز، ويجْدِلُ ـ في ضَفيرةٍ واحدة ـ كل فنون التعبير والتصوير في تناغُمٍ واتّساق لا نشازَ فيه ولا شِقاقْ. القصَّة هنا ليسَتْ حدثاً يتطوّر ويبلغ ذروته حتى ينتهي بلحظة التنوير، كما نعهده في الشكل التقليدي للقصة القصيرة، وإنما هو جنينٌ يتخلّقُ ـ شيئاً فشيئاً ـ بين مُخَيّلة المُبدع والمُتلقّي، ولوحةٌ تتشَكّلُ رُوَيْداً ـ باللون والإيقاعِ والصورة ـ في وعينا حتى يكتملَ المشهدُ وجوداً حيّاً نابضاً بدفء الحياة وسِرّها وسِحْرها الأخّاذ. هكذا يكتسبُ هذا العالمُ القصصيُّ ملامحه المتميزة ويُحْدثُ تأثيره اللَّحظيَّ على حواسِّنا، ثُمَّ يترسّبُ قطراتٍ مُتكاثفةٍ من ماءِ الحياةِ في وجداننا. في هذا العالمِ تَشْغَلُ الصُّورة واللُّغةُ مكانةً مُتَميِّزة ليسَ كأداةٍ تعبيريّة فحَسْب وإنَّما كلبنةٍ من لبنات البناء القصصي أو التشكيل الفنّي للقصة. ولأنه عالمٌ مُتَخَلِّقٌ ما بين اليقظةِ والحُلْم، والواقِعِ والخيال ـ فإنَّ رؤاه تشِفُّ ولغته ترقُّ وتَعْذُبُ فتُخَفِّفُ من نبرةِ الوجعِ ونزيفِ الجراح، وصوره ورموزه تتوهَّجُ وتضيءُ ما يسودُ أجواءه من غماماتِ حُزنٍ، فيتبدَّى لنا هذا العالمُ شفيفاً في حُزنه، صافياً في نشيج أنينه، نبيلاً في مُكابدته البطوليّة لجفاء الواقع وقُبْحه. والرَّمز هنا ليسَ حِلْيَةً يتزيَّنُ بها النَّصُّ ولا هو قِناعٌ يتَخَفَّى وراءه المَعْنى والدِّلالة، ولا هو مُعادلٌ موضوعيٌّ ظاهرٌ للعيان، بل هو جزءٌ لا يَتَجَزَّأ من نسيج العمل الفَنِّي يذوبُ ويتلاشى في ثناياه ويُشِعُّ داخله فيُضيء جوهره ويُغني مضمونه ويثري إيحاءاته ودلالاته. لنتأمّل معاً هذه الاستهلاليّة التي تنثالُ على مُخَيِّلتنا صُوراً ورموزاً عميقة المعنى والمغزى والدلالة في قصة (هروب المجنون رقم 3):

"لا شَمْسَ.. لا مَطر.. لا قَوْسَ قُزَح.. ولا عِطْر الأمل. كُلّ الأشياء الصغيرة التي كانت تنْحتُ على مرايا وجهكَ ملامح الفَرَحِ السُّندسيّ تُسَافِرُ من حياتك.. سَفَرْ.. سَفَرْ.... إنّكَ تعيشُ آخرَ تفاصيل الفاجعة: لا أحدَ سافرَ في عُمْقِ عَيْنَيَّ وحاولَ أن يَفهَمَ سِرَّ هذا الحُزنَ القاتل الذي يسكنهما، ويُقيمُ في مِحْرابهما طقوساً غَجريَّة، كُلُّهم عبروا حدودَ كآبتي، منحوني حُبّاً بلون الفناء، ثُمَّ رحلوا...".

وفي قصة (تفاصيل امرأة لا تموتْ) يتشَكّلُ العِشْقُ والوطنُ والمُحَبُّ والحبيبُ والمُسْتَبِدُّ والخيانة والحُلْمُ والخَيْبَة والانكسار والإخفاقُ في صُورٍ تتكاثفُ لتستحيل مشاهد ما أغناها بالمعنى وما أشَدّ وقعها على حواسّنا ومداركنا:

"مارِسْ معي كُلَّ طقوسِ الهروبِ والموتِ المُؤَجَّلْ، ستكتَشفُ بعد عبثٍ وجنونٍ أني سيجارتك التي لا تَنطَفئ.. سيجارةٌ تظلُّ تشتعلُ بين أناملكَ فتحرقُ شفتيك ولسانك، ثُمَّ تنزلُ إلى صَدرك لتأتي على كُلِّ حقولِ السَّراب التي كانت قبراً لكُلّ النساءِ اللَّواتي سَبَقْنَ عهدي..."

"العصافير التي كانت تُغَرِّدُ على أفنانِ القلب، سقطتْ مذبوحَةً هذا الصَّباح.. ذَبَحَ صوتها هذا النُّواحُ العابرُ لكُلِّ القارَّات.. كُلُّ شيءٍ تَغيَّرإلاّ نا.. مازالت الصَّدمة تنْحتني.. مرَّةً فراشةً لا تَقبَل التَّلوين.. ومَرَّةً حمامةً مُتَمرِّدةً على ناصعِ بياضها.. كُلُّ شيءٍ تَغَيَّر.. إلاَّ عَرْش الملك.. مازال بريقه يُعجَنُ من قمح الغبْنِ وشَعير الموتْ"

التعبيريّة ـ بمدلولها الاصطلاحيِّ في الفَنِّ والأدب ـ هي العِقْدُ الذي تنتظم هذه المجموعة القصصية في خَيْطه. فهي قصصٌ مُرَكَّبةٌ في غيرِ تعقيد، مُكَثَّفةٌ في غير تجريد، نَزَّاعةٌ إلى تجسيم صورة الواقع وإعادة صياغة مفرداته وتفاصيله بريشة القلبِ ومِداد العَقْل ونور البصيرة وشفافية الرُّوح، وبحساسيةٍ أدبيّةٍ مُدهشة، وبِصِدْقٍ إنسانيٍّ وحميميّةٍ مُفْرطيْنِ في تجسيدِهما لآلامِ الوطنِ وأوجاعِ الذَّاتْ، وبتشكيلٍ فَنِّيٍّ هو الأقْدَرُ على التَّأثيرْ، وبلغةٍ هي الأقدر على التَّعبير، فيجيءُ حصادُ هذا كُلُّه إبداعاً قصصيّاً عميق الأثرِ في نفوسنا وأحاسيسنا ومخايلنا، شأن كُلّ التَّجارب الإبداعية الخصبة والأصيلة.

في ختام تقديمه لهذه المجموعة القصصية يقول النَّاقدُ الجزائريُّ المعروف أحْسَن تليلاني: "إنّ الكاتبة زكيَّة عَلاّل هي سَيِّدة الحَكْي.. شَهرزاد هذا الوقت، تُعيدُ للحياةِ ـ المأسورة في منافي شهريار ـ ألقَها وبهاءها سِحْرها".

وقَد صَدقْ.

للكاتبة القاصّة زكيّة عَلاّلْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى