الجمعة ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
الغـــرباء(3)
بقلم ناصر الريماوي

مـوت لـم يكـتمل

كان يستفيق من غمامة التبغ الثقيلة حين تخلص من عناد الطاولة على أرضية المقهى وهو يحاول جذب عنقه بنصل سكين لتنام الريح فوق رأسه المصاب بتأرجح مزمن على هذه الأرض الخبيثة، لعلها تطلق أشلاءه المعصوبة بقماش الخيزران من عبودية الجسد الموقوت، أو يحرره الموت طوعاً.

طالعني بمظهره المألوف، لحيه كثة متصلة بشعر كثيف تسللتْ إلى فوق أذنيه، تفشّتْ فوق صدغيه النافرين مثل كومة أسلاك مهملة، تحرّى بلهفة عن قدحين من قرفة مطحونة، عاملني كنادل لأيام طويلة... وليس كصاحب مقهى.

  إذا قد تكذبُ النُذُرْ، او تختلط الإشارات...همسَ ليد القش المفككة تحت ساعده المنخورة بوشم أزرق..
  كيف لم يحررني الموت من هذا العذاب؟ أضاف غاضباً بصوته الاجش، كمن يحدث نفسه بصوت مسموع، لكن أحدا لم يلتفت.

بلل لحيته المهتاجة برشفة كبيرة من قدح القرفة، قدح آخر أمام كرسيه المقابل فوق الطاولة ذاتها بأنتظار أحد لا يأتي، كاد يقتله الفراغ الموشى بهالة الصفاء المستديرة حول رأسه الثقيل، حين بدا المكان مختلفاً، بلا تبغ ولا أعمدة دخانية تتصاعد في حلقات منهكة، ولم يكن ليحتمل صدمة اخرى، إذا ما تبين أيضاً أن الطاولة وكرسي القش على حالهما لم يتبدلا، وأنه لم يفارق مبضع الوقت حين كان يُجهز على ساحة الانتظار المواجهة للمقهى بحجة البقاء لوقت أطول، وبالسرعة ذاتها سوف يعمد لإحياء الفراغ من جديد، ولمرتين في تحدٍ للغياب... لكنه لم يعُد... غادر المقهى لمرةٍ أخيرة بعد تلك الامسية، تأملتهُ من مكاني حتى تجرعتهُ عتمة حالكة بعد ساحة انتظار الحافلات، بينما كان على حاله... يحدثُ نفسه.

غبطة طاعنة، يردها زمن التعافي، سرعان ما تجف مع ترجل آخر راكب يدّعي الوصول لمحطة السفر الأخيرة، في كل يوم يأتيه الصباح بنذور موسمية، يرش لها طحين الإنتظار مع بزوغ الشمس حول ذيول خيمته الغارقة في وحل الطريق، يبتسم لمرة واحدة، قبل ان يدوسهُ النهار برفقة الوجوه المختلة في تفرّس جديد، ثم يعود مع الأمسية، بعد ان تكسر الشمس أعمدة الظلال خلف منصة الوصول، يدركها بعد عناء، ليشرع في اصطياد وجوه جديدة، تفاجئه الملامح، حين تمنحه الوقوف لفترة وجيزة، تعيد بعدها ترتيب أسماله المقهورة على مسمع منه، ثم تمضي، تورم في ظاهر اليد بلون الوشم، عقب كل زيارة، كان مريباً يقوده إصرار خفي، إلى حد إثارة الحنق، فالطرقْ المتواصل على ذلك الباب كان يزداد ضرواة بمرور الوقت، والكل ينتظر على مضض، يقترب منه أحدهم بانضباط وهو يكظم غيظا لا يحتمل: ليس هناك من احد، الا تفهم يا هذا...؟!! يلتفت وراءه يحملق بإمعان، ملامح منقبضة لوجوه ظللتها بقع سوداء، تسعى وراءه، ينظر لقبضتة المنتفخة باضطراب، ثم يهرول صائحاً: سوف أقبض أرواحكم يوماً ما، أنتم وصبيتكم، فقط انتظروني.

يترنح وهو يلعن الطريق الى خارج البلدة، يركل كل ما يصادفه من حجارة وعبوات فارغة، يتبعه الصبية، يشيعونه في هتاف لاذع، يلوذ بالأزقة، وأعمدة الدكاكين، يترنح على مقربة من عربات الفستق الساخن والحمص المسلوق، يشتم ابخرة دسمة لا تقاوم يميل بأنفه ليعب في شغف بعض ما تبقى مع فلول شمس النهار، ينهرهُ الجميع بقسوة، لطول لحيته، يمرغها بقاع القدْرْ في غير مبالاة، حين يشتم أو يسطو على بضع حبات يجترها بصعوبة تعلق في حلقه... فيشرقْ، يقذفها من فمه بلعنه مصاحبة، او يستشيط غضباً فيستدير نحو الصبية صائحاً: سآخذكم معي إلى هناك، حين اعود... انتظروني. يتفرق البعض على صدى خواره الاجوف، يرجمه البعض بكتل الصفيح الفارغة والحجارة، يعتدل ثم يتابع مهرولاً في تعثر، وهو يخفي رأسه الكبير خلف معطفه الممزق.

يلقي بجثته، على اول كرسي يتداعى، ينغرز القش في بضعة أماكن تخلّتْ عن جسده المبتور منذ زمن، يسمو فوق إحتمال لا يوصف لألم بات معتاداً، يتراخى في احتدام اغنية شعبية لا يصغي لها أحد، بعد هذه الساعة، يبدأ الليل بنفض غبار النهار عن ساحة الإنتظار الرحبة لتغدو شبه خالية إلا من بعض العابرين على عجل نحو مدخل البلدة، وحين يطبق بظلمةٍ ثقيلة تعربد الأصداء ثكلى على هوس الصمت الزاحف، فتصحو وساوس الطين كمارد يشق طريقه بين روائح الدخان المثقلة برائحة القرفة وعبق الزعفران الممزوج بقهوة المساء، ليغرق المقهى بأجواء نائية، موحشة.

يخرج خلسة من جدار الطين المقابل، يطوي على امتداده صوراً لم تكن لتعني احداً غيري، صدى هتاف الصبية يصطادني هناك، يرسم أشكالا عفوية على ذات الجدار، شواهد حجرية تعلو فوق الأرض بقليل،تطل من بين جذوع متناثرة نحيلة لشجر باسق: "عُد من حيث اتيتْ... أرقد بسلام بين الأموات...الى الطين... الى القبر"...

يعبر خلسة، يجتاز المسافة الى كرسيه الخالي أمامي، يرميني بنظرة عاتبة، وهو يقول: لقد ذهبتَ إلى هناك، اليس كذلك...؟

  نعم...
  وانتَ تعلم مسبقاً بانها غير موجودة... لماذا؟
  لكنها لم تاتِ ولم تكن بينهم...، بقيت هناك انتظر حتى ترجّل آخر
طيف قادم
حمتله إلينا حافلة النهار!!! لكن لمَ؟
  ربما أختلطت عليك الإشارات أو أن النُذُرْ لم تصدق لهذا اليوم...
  إذاً قد تكذب النُذُرْ، أو تختلط الإشارات...
  مالذي تعنيه؟؟ ارتد قليلا وهو يعيد قدح القرفة الى الطاولة
  كيف لم يحررني الموت من هذا العذاب؟! صرختُ في وجهه، تلفّتُ حولي لكن احداً لم يكترث، تداركتُ الامر فتابعت بهدوء... أنت صديقي الوحيد، قلت لي ذلك، وانا اطعتك، لكنني لم اتحرر، الصبية وتلك الوجوه المالوفة المظلّله ببقع الليل تثير حنقي، عليهم أن ينالوا عقاباً أكبر على فعلتهم، ألم تعدني بذلك...؟
  لا عليك، لم يبقَ سوى القليل... ويكتمل موتك، أما الآن فأتبعني...

عيون متقدة ترشح غضباً أسوداً، تذرعتْ بالرائحة المنتنة، اوقفني احدهم عند اول الزقاق، قبل ليلة واحدة، الرائحة تفوح بقوة مع الليل...

  مصدرها غامض لكنه قريب، ألا تتفق معي في هذا؟؟ قالها في لطف مصطنع
  مصدرها السماء....، رددت في سخرية.

لم يعجبه ردي فاكملت طريقي، لكنه كان معهم بعد ليلة واحدة، كلهم تذرعوا بتلك الرائحة، ظلّلتْ وجوههم بقعٌ مظلمة كانت تدل عليهم، ملطخة بقذارة سوداء... عبروا عنوة سمعتُ وقع أقدامهم وهي تدك حصون السكينة بعد مساء صاخب، أخذتْ تدنو في ضغينة لم أعرف مصدرها نحو حجرة نومنا الوادعة، طرق شديد لأيدي آثمة لم تقوَ على إقتحام بوابتها الصلدة، دفعت بمصراع النافذة الأعزل، تحلقوا في جنون حول سريرنا الجاثم وسط اللعنة، لم يفلح توسلي أمامهم بعتق الجسد العرائسي المسجى، كان بياضاً مستلباً يزكم العين، ذراع قوية رمتني إلى خارج الحجرة، نحو فِناء البيت، تلقفتني وجوه اكثر قسوة مدبوغة بحقد لا يوصف، تناقلتني على كفوف أحذية لا ترحم حتى أول الزقاق، كنت أستعطف أكبرهم في توسل بأن لا يمسّوا حرمة الجسد، سرى بينهم صراخ مؤلم تناقلوه كعدوى تسلل من حجرتنا حتى أول الزقاق، أيادٍ تكمم افواه أصحابها توحي بصدمة هائلة وفزع كبير، إنها ميته... ميته، ومنذ أسابيع على اقل تقدير!!!

غادرنا قبل ان يغلق النادل مقهاه، أشار صديقي للساحة الخالية، إستأذن مرة للصمت واخرى لهدأة الليل، فنهضتْ من احشائها قبور قديمة وشواهد بارزة مستدقة، قال في لهجة آمرة إبحث عن رمل رطب بينها...!! ولنمض معاً، في يوم ما كنتُ أختارُ بدايتي من هنا، فماذا عنكَ أنتْ؟ لجمني صوت حفيف خيمتي، قيدني لوهلة، لكن وجهها النابض على قمة الجسد المسجى في حجرتنا القديمة كان يشدني لرمل لم يجف، ومن غير تفكير كنت اقول لكل شيء من حولنا: وانا سامضي معك. نزع الغطاء تحت شاهد قديم، ثم قال: الآن يكتمل موتك...! أنظر لن تكذب النُذُرُ بعد اليوم.

  وانتْ ؟؟
  ليس لي مكان بينكما... فقط لا تعـُدْ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى