الجمعة ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الهلسة

طفـل الطيـران

كان عليك أن تطير!

جربت ذلك مراراً وأنت صغير.. كنت تركض بسرعة ثم ترفرف بيديك وتقفز إلى الأعلى..

لم تكن تثنيك عن عزمك ضحكات أمك التي لم تر فيما تفعله سوى عبث طفلي؛ ولا اكتشافك بأنك تختلف عن الطيور "قليلاً" لأنك بلا أجنحة مثلها!

وذات مرة تعرضت قدمك لرضوض شديدة –بل كادت تنكسر- حينما صعدت إلى سطح دار واندفعت قافزاً في الفضاء على طريقة "عباس بن فرناس"!

لم فعلت ما فعلت؟ لم تكن تعرف الجواب حينها.. كانت ثمة رغبة قوية في داخلك بأن تجرب شيئاً آخر...

شيء مبهم خفي.. يخرجك من "عالم الحارة" الصغير الذي مللته...

وكان لا بد لك من الطيران...

في المدرسة الابتدائية تعرفت بعالم القصص والروايات التي كنت تتبادلها مع عدد من زملائك... ثم اكتشفت "مكتبة أمانة العاصمة" في عمان، التي داومت على ارتيادها بعدما وجدت في كتبها ومجلاتها ما تبحث عنه روحك من خيال مُحلِّق...

وحينما تعود بذاكرتك إلى تلك الأيام البعيدة، فإنك تتذكر بود ما تركته في وجدانك من آثار، قصص "ألف ليلة وليلة" وشخصياتها: (السندباد، علاء الدين، علي بابا)، و"السير الشعبية": (سيف بن ذي يزن، عنترة، الظاهر بيبرس)، والقصص المترجم مثل "روبن هود" و"رحلات جلفر" وبالطبع الكتاب الخالد: "كليلة ودمنة".

وستظل مديناً لها بما منحتك من "خيال" سيقودك فيما بعد –حينما كبرت- إلى البحث عن "عالم آخر" غير الذي تراه ماثلاً في الواقع الكائن أمامك.

عالم ستسعى للتعرف على سبل توليده من الواقع القائم الذي ظللت على علاقة اشتباك معه، محتفظاً بالرغبة في تجاوزه واقتراح بديله.

لكن هذا الإدراك "العملي" –على أهميته- ترك في نفسك حسرة باقية كالجرح القديم...

فالذي جعلك تخفق بيديك لتطير وأنت طفل، لم يكن حاجاتك العملية، بل شوقك الخالص للمعرفة والتجريب كغاية مشتهاة لذاتها...

مبعث "حسرتك" هذه ليس شخصياً كما قد يتراءى.. بل يعود لمعرفتك بما تفعله التقاليد والتفضيلات الاجتماعية والنظم التعليمية من قمع لهذه الغاية، أو الرغبة المنزهة عن الحاجات النفعية الاستعمالية المباشرة. وهو ما يكلف مجتمعاتنا ويحرمها من الكثير، لأنه يحصر الدوافع والرغبات والمحاولات في حدود "الممكن" و"المتاح" و"القائم" فقط، حسب نظرية "العصفور الذي في اليد خير من العشرة على الشجرة" و"إللي بتعرفه أحسن من إللي بتتعرف عليه"!

لكن ما يميز الإنسان –كنوع- عن بقية الكائنات الحية، هو هذا الشغف المتقد البهي للمعرفة وللتغيير ولارتياد آفاق جديدة...

ورغم سقوطه وعثراته الكثيرة، لم يزل الطفل -الذي كبر- يجرب الطيران!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى