السبت ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم وفاء الحمري

قطرة من دم فاطمة

فوجئ أهل البيت من النشاط غير العادي الذي صاحبها هذا اليوم من أيام الله.... كأنها فكت من عقال وأطلقت من محبس....جهزت الطعام والحلوى...لبست أجمل ما عندها. أو قل أقدم ما عندها. قفطانا مخمليا خاطته لها المرحومة والدتها قبيل وفاتها.... وقفت أمام المرآة.

أفزعتها صفرة علت وجنتيها فراحت تقرصهما بكل مل أوتيت من قوة.... تنتظر الفرج...تنتظر دما يسري فيهما ويمنحهما بعضا من الحيوية... بعضا من الحياة... لكن هذه الصفرة أبت ان تبرح مكانها... تقرص مرة أخرى... تحدق في المرآة... تنتظر... تتفحص... تعيد الكرة ثانية وثالثة ورابعة... تفقد أعصابها... تلطم وجهها بكلتا يديها... تزفر... تتنهد... تقرب وجهها للمرآة... تستعطفها ربما لتحن... لتمن.... تمن عليها بقدر من دم يسري... يجري... يعيد الحياة لعروق عجاف... تذكرت أيام كان يهجم عليها دون استئذان... يهتك سترها... يغرقها في بحر االخجل... يم الإحراج... كانت تتمنى لو انشقت الأرض عن علقة عطشى تمتص آخر قطرة من دمها فتجف دورة دمها كما تجف الأرض في القرن الإفريقي.... واليوم ها هي تستعطفها... تطلبها حثيثا دون جدوى... خذلتها الملعونة للمرة الثانية. المرة الأولى يوم الخبر الصاعقة داخل عيادة طبيبة النساء ذات جفاف وهذه المرة يوم حضور الخاطبة لبيت فاطمة... سمعت طرقا بالباب كانت منتظرة له.... أسقطت فاطمة آنية الزجاج التي كانت تحملها لحظتها... تعجبت لنفسها كيف ترتبك لزيارة خاصة لبيتها وهي التي زوجت أخواتها الخمس ولم تبق سوى سلوى ذات الأربعة عشر ربيعا التي احتظنتها فاطمة منذ ولادتها بعد وفاة الوالدة إبان نفاسها... كانت تعتبرها ابنتها التي لم ينجبها رحمها وطفلتها المدللة المحبوبة.

لملمت شظايا الزجاج بخفة وكومته جانبا وأسرعت تفتح الباب وسلوى تجري وراءها وتتعلق بتلابيب قفطانها الاخضر فرحة لفرح فاطمة الذي لم يزرها لسنين طويلة...انفرج الباب عن سيدة في الخمسين من عمرها تسبقها ابتسامة عريضة...عانقت فاطمة بحرارة وانكفأت على سلوى تقبلها... تقلبها... تجس جسدها الغض... تتلمس شعرها الأشقر المتموج... دلف الجميع الى الداخل بطلب من فاطمة التي تكاد تفقد توازنها خجلا وحياء... لجم الظرف فم فاطمة ولم تستطع أن تنبس بشئ غير كلمة أهلا وسهلا تكررها كأنها لا تعرف من كلمات الترحيب سواها... لاحظت الضيفة المرجوة حالة الإرتباك فحاوت مداراته عبر الإفراج عن رأس الخيط الذي كان يشدها إلى هذه الأسرة... أنا خديجة اخت هشام ألم تعرفيني ؟ ثم نظرت الى فاطمة نظرة استفهام واستكشاف لقدرة فاطمة على تذكر هذين الإسمين. وحين لم تلحظ أي بادرة للتذكر أردفت مستحثة الذكرى البعيدة. كم لعبنا أنا وانت وأخي هشام عندما كانت والدتي الحاجة السعدية الطنجاوية تصحبنا لزيارتكم.

أتذكرين يوم شرخ لك أخي هشام أذنك بضربة عصا وقامت اليها تقلب اذنها وتوقفت فجاة. هاهو ذا اثر الجرح اتذكرين؟... وما زالت الزائرة خديجة تذكر فاطمة بالماضي البعيد والأحداث الماضية حتى ارتاحت هذه الأخيرة لها ولحديثها الشيق فاعتدلت في جلستها... أخرجت نفسا عميقا كاد قبل لحظات يخنقها... تحسست شعرها وعدلت قفطانها ومررت كفيها على صفحة وجهها وقرصت في غفلة من الضيفة وجنتيها حين التقطت أذناها في لحظة من الزمن الخدول جملة (جئتك خاطبة سلوى لاخي هشام) أحست نارا تتلظى داخل جسدها تحسست صهدها يشوي وجنتيها شيا.... جرت مسرعة لا تدري أي وجهة توليها فإذا بها أمام المرآة النحاسية الضخمة تتفحص صورة لا تعرف صاحبتها...تتأمل وجها محمرا محتقنا بدا لها بعد لحظة ذهول انه يشبه وجهها...فقدت توازنها بعد فقدها وعيها وسقطت على وجهها فوق شظايا الزجاج المكسور الذي كومته قبل لحظات....شج جبينها... سال دمها... لم يخذلها هذه المرة تدفق غزيرا.. لون وجهها بالأحمر القاني.... ضمخ جسدها الراكد... قبضت فاطمة ليلة الامل... ليلة الرجاء... ليلة لم يكن صبحها بالقريب أبدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى