الأحد ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم وفاء الحمري

رحمة وفرانسواز

عندما انتقلت مع زوجها من لاقامتها الرائعة المطلة على بحرين (المتوسط والأطلسي) بموقع الجبل الكبير في أعلى منطقة بمدينة طنجة إلى ضاحية باريس، لم يؤثر فيها هذا الإنتقال سلبا...بل ظلت ملازمة لعملها اليومي...تغرس الشجيرات المثمرة والنباتات العشبية المنزلية...وتحدد أحواضا لخضرواتها المفضلة...

لم تفقد في إقامتها الجديدة إلا البحر الرائع والجو الدافئ والماعز.... نعم الماعز الذي كان يكفيها لحما طريا وحليبا وزبدة وجبنا ابيض لذيذا، تفننت رحمة في صنعه وتشكيله حتى أصبحت معروفة في المنطقة به وبصناعته....

ولتعوض ذلك بنت خما كبيرا بحديقة منزلها ربت فيه دجاجا كان لها فيه كفاية لحاجياتها اليومية من اللحم والبيض...

ظلت رحمة منعزلة عن العالم الخارجي لغياب مبادرات تبادل المعارف والزيارات من طرف جيرانها حتى كادت تصبح نكرة في ذاك الفضاء الممتد لولا هذا الحادث الذي قلب حياتها قلبا...
في ذلك اليوم...يوم الجمعة...وهو آخر أيام الأسبوع قبل يومي العطلة الاسبوعية... قصدت رحمة خم الدجاج ووقفت تتأمل دجاجاتها....وفي لحظة خاطفة انقضت على ديك سمين أمسكته من رجليه وهو يتركل ويصيح، حيث صادف هذا الموقف مرور جارة لها، فرنسية مسنة مع كلبها المدلل في الرحلة التفسيحية اليومية للترويح عنه....

لم تلحظ رحمة وقوف جارتها وراء سياج الحديقة وقصدت المطبخ لتاتي بسكين حادة اعتادت أن تذبح بها دجاجاتها كل يوم جمعة لاعداد أكلة (الطعام)....سمت الله مولية وجهها للقبلة ونزلت على رقبة الديك بكل حرفية وإحسان....وقف الديك مترنحا ثم سقط أرضا....همت رحمة بحمله إلى المطبخ فإذا بنباح الكلب يشق السكون....وصرخة مدوية (اوسكور...أوسكور).... استدارت رحمة لتجد جارتها العجوز مغشيا عليها....حطت الديك جانبا وجرت مسرعة لإانقاذ السيدة فرانسواز.... حركتها يمنة ويسرة وانكبت عليها تتسمع دقات قلبها...زفرت زفرة عميقة وهي تضرب صدرها بكفها وتحمد الله على أنها على قيد الحياة...جرت مسرعة إلى الهاتف تطلب النجدة....وصلت سيارة الإسعاف على وجه السرعة....حملوا العجوز داخلها وتبعتهم رحمة مصرة أن ترافق جارتها إالى المشفى حتى تطمئن عليها...
في الطريق سرح بها خيالها بعيدا حيث خالت نفسها والعجوزعادتا من المشفى في حالة ود وعطف و ربما أنها ستتقرب إليها بهذا الموقف الانساني النبيل لترسم معها لوحة رائعة من علاقة جيرة رغم اختلاف العرق والدين...وكم تمنت أن يحصل هذا مرارا دون جدوى... رغم محاولاتها المتكررة لمهاداتها بالأكلات المغربية الشهيرة أو عرض خدمات مجانية بحكم الجوار، أو اطلاق ابتسامات عريضة لم تواجه إلا بتكشيرات ناقمة ونظرات تحقير عميقة....

وها هو اليوم الذي وجدت فيه المرأة طريقا لإعادة محاولاتها التوددية السابقة....

بقيت رحمة ملازمة للعجوز حتى تخرج من غيبوبتها...تحرسها من وراء الزجاج.... تطلب من الله أن يمن عليها بالعافية لتعود لزوجها المريض وكلبها المدلل....

جلست رحمة على كرسي أمام قاعة الإنعاش....تأخذها سنات من النوم... وما تلبث تنتفض وتجري إلى نافذة القاعة لتطمئن على جارتها الغائية عن الوعي... في لحظة، تفتح العجوز عينيها فتجري الممرضة نحوها وتكبس على زر لتنشق الاض عن الطبيب الرئيس للمشفى....أمالت العجوز رأسها صوب النافذة لتتصلب نظراتها الفزعة على رحمة التي توسعت ابتسامتها حتى كادت تفتق شدقيها وهي تشير بكفها إلى العجوز هاشة مسرورة... انفتح فم العجوز لحظتها عن صرخة جمعت حولها كثير من الممرضات والأطباء والمسؤولين وهي تشير بيدين معرورقين إلى رحمة التي زمت شفتاها وجحظت عيناها وتبد بها الخوف والدهشة....ظلت العجوز تصرخ وتشير إلى رحمة...وهذه الأخيرة في حالة ذهول تام أخرجها منه استئذان رجلين لها بمرافقتهما حيث تبعتهما دون إحساس....أحضر زوج رحمة إلى مركز الشرطة ليخبر أن زوجته مقبوض عليها بجريمة الذبح وسفك الدماء داخل منزل الزوجية....انتقض الرجل مذعورا واتصل بمدارس الأولاد يسأل عنهم ويتفقدهم.... انفرجت أساريره قليلا ليستفسر المسؤول عن المذبوح....

عرّفوها بحقوقها القانونية وأطلق صراحها بكفالة مالية كبيرة جدا ريثما تقدم للمحاكمة....

انهارت رحمة انهيارا كليا تطلب نقلها استعجالا إلى المشفى....ارتفع ضغطها ونسبة السكري في دمها....وتطلب العلاج شهورا طويلة مع حجز ابنائها في مركزتأهيلي بعد اتهام الأم بعدم أهليتها لتحمل المسؤولية....

بقي الزوج وحيدا بعد أن ظن كل الظن أن لن يصيبه مكروه في بلد الحق والقانون خاصة بعد أن قضى على تلك الأرض نصف عمره يعمل بجد واخلاص.....

خاض الزوج معارك قانونية طويلة ليحصل في النهاية على براءة زوجته من تهمة الذبح والسفك على شرط عدم العود....
استانفت رحمة حياتها متوجسة من المجهول...حطمت خم الدجاج....ونظفت الحظيرة من كل كبد رطبة....أطلقت صراح دجاجاتها التي كادت تخرب بيتها....وآلت على نفسها أن تصبح نباتية....لا تأكل لحما ولا تسفك دما...

لم تكن المسكينة تعلم أن دم الدجاج غال إلى هذا الحد.... وتمنت بينها وبين نفسها لو سوت الحكومة بين الدماء الحيوانية والبشرية حتى لا يصحو أحدهم وهو يتضرع إلى المولى كي يحوله دجاجة أو خروفا أو كلبا...نعم كلبا...لان كلب السيدة فرانسواز خضع لعلاج نفسي مكثف كي لا تؤثر صدمة رؤيته لسيدته وهي مغمى عليها...كما أعطي وساما شرفيا لأن فسحته مع سيدته كانت السبب في الكشف على جريمة نكراء...

وما زالت السيدة رحمة تتوارى من القوم من سوء ما مر بها...وتتحسر كلما مرت تلك العجوز من أمام سياج حديقتها حيث تمطرها هذه الأخيرة بنظرات شزر وتهديد... وكم تمنت من كل قلبها أن تصبح حيوانا يصيح أو يموء او ينبح...

نعم ينبح....فغاية أمانيها أن تصبح كلبا مكتمل الحيوانية...خاصة عندما يمر بها به كلب السيدة فرانسواز وهو يختال ماشيا بتسريحة شعر كلبية مشهورة وحقوق قانونية مسطورة....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى