الثلاثاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

قراءة في ديوان (قناديل الفرات)

للشاعـرصلاح الندى

مقدمة
قناديل الفرات ليست كقناديل البحر، الكائنات البحرية المعروفة بفتكها، وإنَّما هي قناديل من نوع آخر. هذا عنوان جميل وموح لقصيدة في الديوان، اختاره المؤلف عنواناً لديوانه، فالفرات هذا النهر العظيم الذي تغنَّى به كبارالشعراء عبرالتاريخ الذي يربط مدينتي ديرالزوروالرقة في سورية بالعرق، أوبعبارة أخرى الذي يربط سورية بالعراق، نشأت على ضفتيه حضارات قديمة، تعاقبت عليه، حتى العصرالعباسي الأول، عصر القوة، كان نهر الفرات قنديلها، يشع ضياؤه في الظلام الحالك، فقناديل الفرات، تعني حضارات الفرات.

لمحة موجزة عن حياة الشاعر
ولد مؤلف الديوان صلاح الندى في قرية (كباّر) التابعة لمحافظة الحسكة، العام 1956، ونال شهادة الثانوية العامة في مدينة ديرالزور، العام 1975، ثم الهندسة الزراعية في جامعة حلب، العام 1981، ويعمل حالياً مهندساً زراعياً في مديرية زراعة الحسكة، وصلاح الندى اسم معروف في محافظة الحسكة، شارك في المهرجانات الأدبية بسورية، منذ العام 1975، ونشرت قصائده الدوريات والصحف المحلية والعربية، يكتب شعراً منذ فجر شبابه باللغة الفصيحة، واللهجة العامية.

عرض وتعليق على قصائد الديوان
ديوانه متوسط الحجم، ورقه مصقول، وطباعته جيدة، طبعته منشورات دارالمعارف بحمص، العام 2001 يتألف من مئة وتسع وعشرين صفحة، ويضم بين دفتيه سبعاً وعشرين قصيدة، أهداني، وله الشكر، نسخة من ديوانه، كتب لي في سطر الإهداء ( أهديك هذه المحاولات الشعرية ) فعد ديوانه الأول محاولة شعرية، وهذا تواضع منه. قصائد الديوان مشبعة بهموم المؤلف الوطنية والقومية والتحررية وموضوعات قصائده متداخلة مع بعضها، يصعب الفصل بينها، وفي ديوانه قصائد وجدانية أيضاً، أقسمّ القصائد بحسب موضوعاتها متجاوزاً التداخل فيما بينها تسهيلاً للعرض ليس غير، وأشيربداية إلى قصائده الطويلة التي يتداخل فيها الموضوع الوطني بالقومي والتحرري، وأطولها قصيدة ( مواويل حزينة لميلاد جريحة ) تتِألف من ستة وعشرين مقطعاً و(أحلام العذارى) تتألف من ثمانية عشر مقطعاً و( قناديل الفرات) من سبعة مقاطع، وكل مقطع في القصائد السابقة يروي مشهداً من التحديات أوالآلام أوالآمال أوصمود الأمة بوجه أعدائها عبر تاريخها الطويل، ويتفاءل المؤلف في نهاية المطاف بانتصارالأمة على أعدائها.

يهدي قصيدته ( مواويل حزينة لميلاد جريحة) إلى أمته التي ضاعت بين سايكس بيكووبقية الصهاينة، ففي المقاطع الأولى يرسم المؤلف مشاهد تؤكد عمق ارتباطه ببلده وأمته، ودفاعه عنهما، وفي المقطع الثالث عشر، يحذرمن خطر تفرّق الشعوب العربية والإسلامية عن بعضها، ومن رهن مصائر بلدانها بيد أعداء العروبة والإسلام، وفي المقطع الرابع والمقطع السادس عشر، يرسم مشهدين، يشير فيهما إلى خبث المستعمر وخداعه، ودسائس الماسونية ومحاولات هؤلاء الأعداء السيطرة على عقل الإنسان العربي وخيرات وطنه وفي المقطع الخامس عشر مشهد يشيرإلى غزوالغرب الحضاري للعقل العربي والمسلم عن طريق فضائياته الإباحية العارية ومحاولة هذا الغزوحرف المجتمع العربي والمسلم عن هويته وأصالته، وفي هذا المقطع أيضاً كما في المقطع السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر مشاهد تدعوالأقليات في الوطن العربي إلى تمسّكها بالعيش المشترك مع إخوانها العرب في كل بلد عربي مراعاة للتاريخ وإلى دفاعها عن الوحدة الوطنية، وأن لا ترهن أنفسها ورقة رابحة بيد العدو الأجنبي الطامع ببلدها، ويبغي تفتيت البلد الواحد وإشعال الفتن بين أبنائه، وفي المقاطع العشرين والحادي والعشرين والثاني والعشرين يرسم مشاهد تحرّض فيها دول الخليج أمريكا والغرب على ضرب العراق، وتقديمها العون المادي والتسهيلات اللازمة، أرضه’ مياهها، موانئها لاحتلاله وتدميره، ويثور المؤلف في المقطع الثالث والعشرين والرابع والعشرين على المستغلين المستبدين والمخبرين وكتبة التقارير وشيوخ العشائر وأمراء النفط مبيّناً أنّ هؤلاء يفجرون، ويزنون، ويكذبون، فيدعوجماهير الشعب التي تعرضت إلى الاستبداد والاستغلال إلى الثورة على من استبد بهم، وسلبهم قوت يومهم مشيراً أنَّ أذيال شيوخ العشائر دنسة بدءاً من الشويخ وصعوداً إلى أمراء النفط والمخدرات التي تلتف بعباءاتهم الداعرات، وبنات الهوى، وصارت إماراتهم، والقول للمؤلف، كالمزابل تعوي عليها الكلاب، وتبرّأ من كل مديحه لهم في مرحلة سابقة’ وكان المؤلف مدح فيما مضى بعض شيوخ العشائر، فكان يشيد بسجاياهم ومآثرهم، ويثني على أمجاد آبائهم وأجدادهم المزعومة، وكنت حضرت بعض مجالس عزاء أقيمت في مدينة الحسكة، فرأيت الأستاذ صلاح الندى غير مرة يمدح الشيوخ الأحياء، ويرثي الراحلين بالشعر الشعبي، فعاتبته على نهجه هذا، ودعوته مخلصاً أن ينقذ نفسه من ظلمات العشائرية، وينشلها من مستنقعها الآسن، ويتخطى انغلاقها المتخلف، ويطور رؤيته إلى الأمام، لتتجاوز رموزمرحلة ما قبل الدولة، وترتاد آفاق الحداثة والبلد والأمة، وتواكب مسيرة التحضر والترقي، وهذه هي رسالة الشاعر الحقيقية لمن أدركها. وفي المقطع الخامس والعشرين بنفجر المؤلف غضباً على الصرب المتعصبين الذين اغتصبوا النساء المسلمات في البوسنة اغتصاباً جماعياً في معتقلاتهن الكبيرة، ثم انتحرن بعد ذلك، وفي المقطع السادس والعشرين يضيء نهاية نفق الأمة، وظلامها الحالك الذي يندحر ببزوغ فجر الحرية، ويبرز في هذا المشهد إصرار أبطال الأمة على بذل أرواحهم في سبيل تحريرها مقتدين في استشهادهم بالإمام الحسين، ويعرض المؤلف في المقطع الأول من قصيدة ( قناديل الفرات) مشهداً عن حالة النقاء والطهر في فجر الإسلام ممثلة بشخصية التابعي(أويس القرني) ويروي المقطع الثاني مشهد قمع أجهزة الأمن في الأنظمة الشمولية وأساليب تعذيبها المواطن العربي، ويكشف المقطع الثالث مشهد عداء الشعوبية ممثلة بشخصية (جعفر البرمكي) للعروبة والإسلام، والمشهد الرابع يعرض رفض شعب مصر ممثلاً بسيناء اتفاقية (كامب ديفيد) وهكذا.

قصائده الوطنية
تبدأ قصائده الوطنية بـ ( إهداء وتصدير)التي يستهل بها ديوانه، يوصي بها ابنه الوحيد(أحمد) أنّ يثور على الظلم، ويحمل من بعد أبيه راية مبادئه’ ليكون امتداداً له، ثم قصيدة ( كونتا كيني) وهواسم رجل أسود، رفض التخلي عن بني جلدته في مسلسل تلفزيوني رغم الإغراءات المعروضة عليه’ فجعل المؤلف اسمه عنواناً لقصيدة أهداها إلى أبناء الجولان الذين رفضوا الهوية الإسرائيلية تمسكاً بهويتهم السورية، ثم قصيدة (ليلى) يهديها المؤلف إلى الأنوثة الثائرة التي تحلم ببيت تسكنه، واتخذ من اسم (ليلى) رمزاً للمرأة العربية المناضلة التي تضحي بأنوثتها أوجمالها أوشبابها في سبيل الدفاع عن حرية الوطن وكرامته. أمّا قصائده القومية فقصيدة (ولادة)، رمز المرأة العربية المتحررة، رمز الحب والعشق، رمزالحضارة العربية في الأندلس.

مراثيه القومية
ويرثي في موضوعه القومي الشهيد صلاح خلف (أبا إياد) في قصيدة (فاتحة على قبرالشهيد) وغسان كنفاني في (بطاقة ثائر)والمهندس يحيى عيّاش في (مذكرات شهيد فلسطيني) وشهداء ( قانا) بلبنان في قصيدة (جراح الجنوب)، ويهدي قصيدته (قسم) إلى روح الشهيد الطفل (محمد الدرّة) مشيداً فيها ببطولة أطفال الحجارة، وقصيدة (صفحة من مذكرات طفل فلسطيني) يرثي فيها شهداء مجزرة (صبرا شاتيلا) ببيروت التي حدثت عام 1981.

قصائده التحررية
وأمّا قصائده التحررية فيهدي المؤلف قصيدة (مصباح الأمل) إلى (سيدي بلعباس) في الجزائر، وهي مدينة جزائرية، تحمل اسم (سيدي بلعباس) أحد الأولياء الصالحين، جرت فيها أحداث دامية بين أبناء البلد الواحد، بلد المجاهد عبد القادر الجزائري، وبلد مليون الشهيد، ويرسم المؤلف مشاهد متعددة في مقاطع القصيدة العشرة، ترصد الأحداث المأساوية التي عصفت بالجزائر بعد الانتخابات التي فازت بها ( جبهة الإنقاذ الإسلامية ) ولم تحترم فيها الحكومة الجزائرية إرادة الشعب، أوتقر بفوز الجبهة، فانقلبت على نتائجها مما أرغم جبهة الإنقاذ أن تشهر السلاح بوجهها، وتخوض معركة قاسية شرسة ضدها، حصدت أرواح عشرات الآلاف من أبناء الجزائر، واستمرت الحرب الأهلية في الجزائر فترة طويلة’ كانت عاراً على الجزائريين في هذا الزمن الرديء، زمن المزادات، زمن لجان الرشاوي .. شراء المناصب بالسرقات’ وخاطب المناضلة الجزائرية (جميلة بوجيرد) قائلاً :

تنصلت من عارنا يا (جميلة بوجيرد) الثائـــــرين
تنصلت من عار كل الحثالات من جوقة الكاذبين
مزقت أكفان ذلي .

ورأى أن اللصوص وأدعياء الثورة وجوقة الكاذبين سرقوا ثورة الجزائر، ودعا جميلة أن تمزق أكفان الموت بقوله:

مزّقي كفن الموت .. باعوا رفاتك
(جميلة ) مثلك (ليلى) على مشنقة الظلم
تنير طريق النضال
قومي انظري .. ما تجيب التوابيت .

وقد ظن المؤلف أن جميلة بوحيرد قد ماتت، وهذا خطأ وقع فيه’ فالمناضلة جميلة إلى وقت صدور ديوانه’ كانت حية’ تقيم بالعاصمة الفرنسية مع أفراد أسرتها’ ومعروف أنها اقترنت بمحاميها الفرنسي ( جاك فيرجيس ) بعد أن أشهر إسلامه’ وكان هذا المحامي قد أعجب بشجاعتها وصمودها في دفاعها عن استقلال شعبها، وتولى الدفاع عنها يوم حكمت فرنسا عليها بالإعدام عام 1957، لكنّ الضغط العالمي يومذاك أرغم فرنسا عن التخلي عن هذا القرار، وفي المشهد السابع من القصيدة يحذر المؤلف بقية مدن الجزائر من الوقوع في فخ المؤامرة التي تستهدف أمن الجزائر وسيادتها، فالمؤامرة، كما يرسمها المشهد الثامن، حيكت خيوطها في الغرب لتأتي امتداداً لمؤامرات سابقة على الأمة مثل سايكس بيكووسان ريموووعد بلفور المشؤوم’ تبغي الالتفاف على انتصارات العرب السابقة في معركة حطين وغيرها، والإساءة إلى رموز أبطال انتصارات الأمة، وأبطال صمودها مثل صلاح الدين الأيوبي ويوسف العظمة ومحاولاتها إطفاء أنوار مشاعلها، كي لايجد العرب رموزاً مضيئة في تأريخهم يهتدون بها، وهي تسعى إلى طمس معا لمها، كما يحذر المؤلف العرب من الانجرار إلى وسائل الإعلام المعادية، منها وسائل الإعلام في بعض الدول العربية التي تخدم أغراض الإعلام المعادي’ ويرى قناة الجزيرة واحدة منها، ويرفض زمن العولمة، فهوزمن الغدروالخيانات ويرى العولمة مخططاً صهيونياً’ يخدم مصالح إسرائيل وأمريكا في المقام الأول .وفي الموضوع التحرري أيضاً قصيدة (كلاب صاحب الجلالة) يعرّي فيها المؤلف أنظمة الاستبداد والفساد التي تطلق أيادي مخابراتها لقمع شعوبها’ وقصيدة (الإجهاض)، وهي ترمز إلى إحباطات الأمة في سعيها لبلوغ أهدافها وقصيدة (لغة الجراح)، يشيد فيها بأبطال الأمة الصامدين بوجه أعدائها أعداء الحرية والحياة وقصيدة (أنتم جبناء وأنا منكم)، يعني بها كل من يتعاون مع المستبد’ أويثني عليه، ويرضى بحياة الذل وقصيدة (انتماء) تعبّر عن عمق انتماء المؤلف لأمته التي رمز لها بالمرأة .

قصائده الوجدانية
أما قصائده الوجدانية، فهي التالية: قصيدة(زهرة الجرح) يهديها إلى ماجدة، تتألف من خمسة مقاطع صغيرة، تبرز حنان الأم الذي يحتاج إليه المؤلف نفسه، والأم أم المؤلف التي تبكي على كل راحل، يذكرها بموت فلذة كبدها(فوزي) أخي المؤلف الذي فجعت به في فجر شبابه. وفي قصيدته القصيرة (من أنا) يسأل روحه: من أنا؟ فيجيب قلمه : إنّه العاشق المعذب في حياته. ويهدي ابنته (ريما) وأخواتها قصيدة (حيرة) يعبر فيها عن حيرته، فلا يدري، أيصفوفكره لبناته’ فيفرغ لهن، ويغمرهن بعطفه الأبوي أم تصرفه عنهن معاناته اليومية وهمومه الوطنية والقومية ؟ امتزج في حياة المؤلف الهم الوطني بالهم القومي وبمعاناته اليومية من واقعه الأليم وحياته العاطفية’ وشكلت هذه الهموم الممتزجة لوحة حياته التي تتكرر كل يوم . ويخفق قلب المؤلف للحب حتى صار قلب من يحبها دفتر الحب، فصارهواها له دمعة خائفة في قصيدته القصيرة(رحيل)، ويفصح عن عشقه في قصيدة أخرى(طيف)، وأغلب الظن أن معشوقته كغيره ممن يكتبون الشعر ليست زوجه، فيفتنه جمالها وشفتاها وعيناها. ثم قصيدة(زهرة الذكرى)، يهديها إلى (مها) وأخواتها، و(مها) ليست فتاة محددة بشخصها، وإنما اسم لأي فتاة لا على التعيين، يكن لها المؤلف في قلبه مشاعرالحنان والتقدير، ربما تكون(مها) ابنة أخيه أوأخته’ أوطالبة أوأي فتاة أخرى يفيض قلبها بحب، تمنعها تقاليد مجتمعها من البوح به .وفي قصيدة (مؤتمر الفراشات) يتذكرالمؤلف ماضيه يوم كان يدرّس طالباته في الثانوية الزراعية، والتعليم فيها مختلط’ فتتجسد الطالبات الفتيات في مخيلته بصورة (شهرزاد) لكنّ معلمهن المهندس الزراعي ليس بالضرورة( شهريارهن) فربما تكون مشاعر حبه لهن أخوية صادقة أوأبوية راقية، ويبدوحظ طلابه عاثراً، فقد غابت صورتهم عن مخيلة أستاذهم. وآخر قصيدة يختم بها المؤلف ديوانه(قطرة من بحرقلبي) تندرج في الموضوع الوجداني، يهديها إلى الفتاة الرزان .... إلى الحلم النقي’ وبقايا الجرح النازف، تتألف القصيدة من ثلاثة مقاطع: في المقطع الأول رسم في مخيلته صورة امرأة يحلم بها، تتفهم قلقه اليومي وهمومه الوطنية والقومية’ تستجيب لهيجانه الدائم’ وتقف الى جانبه في ساحة المواجهة، وكان كلمّا لاح له الماء بعيداً، فاقترب منه’ وجده سراباً، واستمر يبحث عنها. وفي المقطع الثاني يريدها تضارع (فينوس) في الجمال و(عشــتار) في العطاء و(ليلى) في الحنان. وفي المقطع الثالث أنفق المؤلف عمره يبحث عن ظبية يشدولها ‘ ولووجدها ما سبقه إليها المجنون، وإذا وجدت المرأة أنَّ فيها من الصفات ما يحلم به المؤلف فإنها تستطيع أن تلقاه، وإن ضلت سبيلها إليه فستجده يرعى أغنامه في الحجاز كمعلمه قيس بن الملوّح مع أن اقتداءه بقيس لا يصح لأنَّ قيساً مَرَّ بتجربة حب قوية، لم يحتملها كيانه، فطغى قلبه على عقله، وانتهى به الحب إلى الجنون، كما يقول الرواة، والمؤلف محب عاشق لكنَّ تجربته فيهما ليست قوية بحيث تؤثر على كيانه وتنتهي به إلى ما انتهى إليه حال قيـس، يهرب من واقعه إلى البراري فيعيش مع الظباء والوحوش . وإن كان ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة’ وقد لمسناه في قصائده شاعر المواجــهة المدافع عن قضايا وطنه وأمته’ ولا يليق الهروب بمن هذا شأنه، وبمن أوصى وحيده أن يحمل من بعده راية مبادئه، وما كنت أتمنى أن يكون قيـس بن الملوّح العاشق المجنون الهارب من واقعه إلى البراري قدوة لصديقنا الشاعر:

فإذا ضللت عن الطريق الأقوم
عودي إلى أرض الحجاز
هناك تلقيني
بشعب في مراتع أغنمي
متلمساً درباً مشاه إلى الخلود معلمي

الأبعاد الأساسية في رؤية الشاعر

وللمؤلف رؤية فكرية وسياسية وثقافية تجلت في قصائد ديوانه، أسهمت في تحديدها عد ة أبعاد أساسية أزعم أنها أربعة: البعد الإسلامي والوطني والإنساني والقومي.

البعدالإسلامي

أمّا البعد الإسلامي فيشكل إطاراً لهذه الرؤية، وموجهاًً لها، ونزعة المؤلف الدينية بادية على قصائده، فهويستهل وصيته لوحيده (أحمد) بتزجية تحيته له من عمق آلام أمة الإسلام يقول في قصيدته (إهداء وتصدير):

ولدي الحبيب تحية لك من جراح أحمدية

ثم يدعوه في القصيدة نفسها أن يحمل راية عقيدته من بعده، ويتمسك بأخلاق العقيدة المحمدية’ فيقول :

فلتبق أخلاق العقيدة في طريقك أحمدية

وفي قصيدته(قسـم) يخاطب(حليمة) وربما يعني بها( حليمة السـعدية) مرضعة الرسول عليه السلام مقسماً بالله العظيم وبآياته المباركات أن لن يرهب السجّان أطفال الحجارة، وأنَّ أنوار محمد سوف تسطع لتضيء طريق النجاة للأمم الحزينة المغلوبة على أمرها، يقول:

قسماً بكل الحق
بالله العظيم بكل آيات عظيمة
لن يرهب السجّان
أطفال الحجارة (يا حليمة)
منها رضعنا جرعة الإيمان والإصرار
أزهرت البطولة
ومرابع محلت حباها الله خيراً
أصبحت مثل الخميلة
ومحمد في ليلة الميلاد وهاجاً
يضيء الدرب للأمم الحزينة

وترد إشارات تدينه في بعض قصائده، تتمثل ببعض كلمات أوآيات من الذكر الحكيم، مثال ذلك ما جاء في قصيدة(الإجهاض):

كان يرتل ... اقرأ باسم ربك ... والأنفال

وقوله في القصيدة نفسها :

من خواتيم يس. والقرآن الحكيم

وإشارته في قصيدة (أحلام العذارى) إلى مكة التي لمع فيها برق الوحي والهداية’ وانطلق منها نور الإسلام :

ومن مكة لمع البرق يطفئ شر الظلام

وضمّن سطريه الشعريين التاليين في قصيدة (ولادة):

وهزي بجذع نخيل هوانا
تساقط طهراً وعشقاً وشوقاً

وأسطره الشعرية التالية في قصيدة (مواويل حزينة لميلاد جريحة):

زرعتك في دير عمري ... راهبة كالنخيل
وحين كبرت بروحي
أهز حنانك، لم يشتعل، ولم يتساقط
رطباً جنياً

الآية القرآنية التالية رقم (25) من سورة مريم:(وهزّي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباًجنياً )

البعدالوطني

وأما البعد الوطني، فالمؤلف يدعوإلى وحدة وطنية متماسكة’ تمثل أطياف المجتمع بتلاوينها المتباينة ورؤاها المختلفة، ويدعوالأقليا ت إلى الاندماج في مجتمعات أوطانها كما في قصيدة(مواويل حزينة لميلاد جريحة)، ويدعوتعزيزاًلأواصرالوحدة الوطنية إلى توثيق عرى التآخي والتحا بب بين المسلمين والمسيحيين أبناء البلد الواحد القائم على الاحترام المتبادل بينهما عبر التأريخ، جاء ذلك في توظيفه الرمزالشفاف المستمد من تراثه’ وهويوصي ابنه في قصيدته ( إهداء وتصدير) أن يتمثل شخصية هارون الرشيد رمزالوحدة الإسلامية ومريم العذراء رمز الطهروالعفة والنقاء والمحبة في الديانة المسيحية. قال :

ولتبق يا ولدي كهارون كطهر المجدلية

ولم يهدأ بال المؤلف، وهويرى شعبه يتعرض للاستغلال والاضطهاد والاستبداد ولعصابات اللصوص والسماسرة والمرتزقة في وطن مستباح لهؤلاء، لا يراه سيدا حراً ما لم ينعم شعبه بالحرية والمساواة والعدل، ففضح جرائم المستغلين المترفين على أنقاض تعاسة شعبهم، الذين يسعدون بشقاء الفقراء، ويشبعون من جوع البائسين، قال في المقطع السابع عشرمن قصيدته

(مواويل حزينة لميلاد جريحة) :

وفؤادك فيه الثعابين تدرين منهم؟
وأنت مخدّرة بالفتات الرخيص
موائدهم من دموع اليتامى
ومن عرق الشعب والمتعبين

ويحرّض المؤلف كل فرد مضطهد من أبناء شعبه أن يثور على رموز الفساد وعلى كل من نهب اللقمة من فمه ليتحرر هذا الفرد من الاستغلال، ويحرّر بلده من الفساد، ويرى أنَّ تحريض شعبه على مستغليه الفاسدين والثورة عليهم هي رسالته في الحياة التي عاهد نفسه أن ينهض بها، وهذا هودوره الحقيقي في مجتمعه ووطنه0 قال في المقطع الثالث والعشرين من قصيدته (مواويل حزينة لميلاد جريحة):

حملت الرسالة في كل نبضي وقلت
لكل فقير .. حزين .. مهان .. بحقك قم وانتقم

كما حرّض المؤلف جماهير الشعب التي يرزح وطنها تحت نيرالاستعمار أن تقاوم الاحتلال’ لاسيما الصهيوني لتحريروطنها منه،


البعدالإنساني والبعدالقومي

فموقف المؤلف الى جانب الفقراء والمحتاجين والحزانى والمحرومين والمظلومين والمطرودين من أرضهم ووطنهم هوموقفه من الإنسان نفسه، يكشف نزعنه الإنسانية التي تشكل أحد أبعاد رؤيته الفكرية والثقافية والسياسية. وأمّا في البعد القومي’ فهويعتز بالعروبة، ويوصي ابنه (أحمد) أن يحافظ عليها :

ولتبق يا ولدي دماؤك يعربية

ويرى أنه مهما طال ظلام العروبة الذي تتخبط في دياجيره، فإنّه سيتمخض عن فجر جديد، لا ريب فيه، وهومتفاءل بمستقبل العروبة، قال في المقطع العاشرمن قصيدة(الإجهاض):

أرى في ظلام العروبة .. نوراً
تباشير فجر وحمل جديد

وفي البعد الإسلامي يرى أنَّ العرب والمسلمين أبناء أمة واحدة، يتألم لما يتعرض له المسلمون في بلادهم من كوارث ومصائب واحتلال وإهانات، وقد استعر قلبه غضباً على الصرب، وهم ينتهكون أعراض المسلمات في البوسنة، قال في المقطع الخامس والعشرين من قصيدة (مواويل حزينة لميلاد جريحة) :

تسير إلى موطن الشمس .. في كل يوم
صار خزياً تدوس عليه العساكر في الأناضول
وتغتصب العشق في مقلتيك
كلاب الشمال الحزين
كتلك الحوامل مضطهدات ببوسنة الجحيم
انتحرن على شاطئ من جماجمنا الراحلات إلى شاطئ
الموت في كل قصر مليء بكل السموم

وانفطر قلبه حزنا على ما حل بالجزائر، بلد البطولات من فتنة داخلية، عبّرت عنها قصيدته (مصـباح الأمل). لكنّ مفهوم الأمة العربية لم ينضج في وعيه منفصلاً عن مفهوم الأمة الإسلامية’ مفهومها غائم في رؤيته متداخل بالأمة الإسلامية’ فعندما ينادي بالتضامن، إذا لم يكن من سبيل إلى إنجاز الوحدة في الوقت الحاضر، فإنما يعني التضامن العربي الإسلامي رغم اعتزازه بعروبته’ وحين تطفح قصائده بهمومه وأوجاعه وآماله، فهوفي الحقيقة يعبّرعن ضمير ووجدان وآلام ملايين العرب والمسلمين الذين يقنعون برؤيته الفكرية والثقا فية والسياسية، التي أسهمت الثقافة العربية الإسلامية إسهاماً كبيراً في تكوينها، فإذن هوصاحب رسالة، ينبغي أن يدرك أبعادها جيداً.

دراســـــة فنية

اعتمد صلاح الندى في قصائد ديوانه شعرالتفعيلة رغم أنه يكتب شعراً عمودياً، فتحرر من سلطان القافية الواحدة، وجاءت مقاطع كل قصيدة متنوعة القوافي والأنغام، لا يشعر القارئ برتابة القافية الواحدة إلاَّ في بعض قصائد ديوانه القليلة التي عاد، فأسرنفسه فيها مثل قصيدة

(إهداء وتصدير) و(فاتحة على قبرالشهيد) و(قطرة من بحر قلبي).فموضوعات القصائد تعكس هموم المؤلف وأوجاعه وجراحه وغضبه وثورته التي تلونت بها قصائد ديوانه، وانتقى لها ألفاظاً دقيقة وعبارات موحية معبرة عنها، ولغة المؤلف لا تعرف مفردات الفرح أوالرفاه أوالسعادة، فعالمه ليس من هذا في شيء، لغته هي عالمه المتأجج المضطرب، تنزف مفرداتها وعباراتها بدماء الشهداء، وآلام المقهورين وغضب المظلومين وأنين الجائعين، وآمال المتفائلين بغدأفضل، لغة مفرداتها وعباراتها شواظ يلفظه بركان شعب يريد الحرية والمساواة والعدالة، وأمة تريد لملمة أوصالها الممزقة لتجدد ألق حضارتها المنصرمة، فلم تخرج مفردات معجمها عن عالمها المتماوج تآمراً وغضباً وحقداً وانتقاماً واستنهاضاً وثورة وجرحاً واستشهاداً وقبوراً وأملاً بالنصر والتحرير. هكذا كان عالم المؤلف الذي تجلى في قصائده وهكذا كانت عناوينها(فاتحة على قبر شهيد ... مذكرات شهيد فلسطيني ... بطاقة ثائر .. جراح الجنوب ... زهرة الجرح ... مواويل حزينة لميلاد جريحة ... لغة الجراح) فلفظ (الجراح) تكررّ في عناوين قصائده أربع مرات، وسكب المؤلف في عالم قصائده إبداعه الشعري الذي بدا في تدفق صوره الشعرية تدفقاً يأسر القارئ أويجذبه إليها، وجاءت صوره مكسوّة بألفاظ دقيقه جزلة معبّرة عن غرضه، وتراكيب مترابطة موحية أحسن المؤلف انتقاءها، يتغلغل في عروقها حماس متأجج ومشاعر عاطفية ثائرة متمردة صادقة، توقظ الغافل، وتنهض القاعد، وتسخر من الذليل، وتلعن المستسلم، وتؤثر في القلب والعقل والوجدان .وقد استخدم المؤلف صوره استخداماً عضوياً، فاعتمد عليها اعتماداً مباشراً في التعبير عن رؤاه تعبيراً غير مباشر، ونجد أنَّ كل مقطع في قصيدته مرتبط بالآخرومتآلف معه، فتشكل مقاطع القصيدة نسيجاً محكماً لها، أتقن حبكه. ويبدوأنَّ المهندس الزراعي صلاح الندى مهندس أيضاً في بناء القصيدة، فصاغها صياغة متقنة، وأضفى على هندستها جمالاًوروعة، ويلفتك وأنت تطالع ديوانه التصاقه بالتراث الذي أسهم في تكوين رؤيته، فهورئته التي يتنفس منها، يلفتك أيضاً الحزن الكربلائي الذي لوّن أغلب قصائده، وذكر مأساة كربلاء في عدد من قصائده مثل:(فاتحة على قبر الشهيد) و(زهرة الجرح) و(مواويل حزينة لميلاد جريحة )، فالأحزان التي تلوّن حياتنا اليوم هي عند الشاعر امتداد لأحزان كربلاء، وقد أجاد في توظيفه رموز تراثنا لخدمة قضايانا المصيرية الساخنة، وفي خدمة الأغراض الأخرى التي ذهب إليها، فتلك الرموزيراها قدوة بعد الرســول، ينبغي على الأمة أن تهتدي بها، فالتابعي (أويس القرني) مثله في الصفاء والنقاء، والفاروق مثله في العدل، والحسين مثله في التضحية والشهادة وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي مثله في القيادة الناجحة المنتصرة على العدوحتى إنّه ضمّن أول سطر شعري له في المقطع الأول من قصيدة (فاتحة على قبر الشهيد) عبارة خالد بن الوليد الشهيرة التي قالها وهوعلى فراش الموت:(لا نامت عيون الجبناء)، وهارون الرشيد مثله في عصر القوة وقيادة الأمة الواحدة ومريم العذراء مثله في العفة والطهارة والمجاهد عبد القادر الجزائري ويوسف العظمة مثله في البطولة والثورة على الاستعمار والشاعر أبوالعتاهية رمز الشاعر الملتزم قضايا مجتمعه أمام الحاكم ووظف الرموزالتراثية الأخرى في أغراض العاطفة والحب والوجدان التي تجلّت في بعض قصائد ديوانه مثل : ليلى’ قيس شهرزاد وأشار إلى الأساطير القديمة مثل فينوس وعشتار، فتلك الرموز السالفة الذكر تمثّل قيماً إيجابية يرى الشاعر أننا محتاجون إليها في حياتنا الراهنة، وقصائده فضلاً عن الرموز التراثية تطفح بالرموز اللغوية الشفافة المعبّرة الموحية’ استطاع أن يوظفها توظيفاً ملائماً، فأنت ترى المؤلف يظهر لك أحياناً بسطوره، ويقبع أحياناً أخرى خلفها، ولكنه، لا يغمض عليك، أويلتوي، فإذا ترويت قليلاً في قراءته عثرت عليه والتقطت رؤاه، وأنا لست في حاجة إلى شاهد على ما أقول، فأغلب قصائده تشهد على ذلك’ خذ المقطع الثالث من قصيدة (ولادة) حيث يقول:

أحبك ما كنت أعلم أنك
مثلي تذوبين حباً .. وقلبك
يا شمعة الأمنيات كقلبي الحزين
عجوز تعلمنا الحب ..
تلك العجوز النحيلة’ تعلم أنَّ النوارس
حين تهاجر من شاطئ العشق تبكي
وحين تعود تقبّل وجه البحار
تطير بكل قلوب الأحبة
تفتح للنورس الفحل .. حضن اشتهاء القلوب

أوخذ المقطع الثاني من قصيدة (جراح الجنوب) التي يهديها إلى شهداء(قانا) في لبنان، يقول:

أبحث عنك في تربة الأرض
في قريتي .. في خرير الجداول
ما كنت ألقاك .. أين اختبأت؟
حزيناً إلى الدير عدت .. أجرجر خطوي
اكتشفت فجأة .. كبرت كثيراً
تماماً كما النخلة المستفيضة شوقاً لماء الفرات
تمدّد بحر جمالك بيني وبين فؤادي
أضرب موجك بالبعد .. أطوي يديّ’ وأهوي إلى قاع
حبك’ أرجوك لا تغرقيني .

وانظر إلى القصيدة المتميزة(مواويل حزينة لميلاد جريحة) التي اختصرت بمقاطعها، مشاهدها، الستة والعشرين معاناة الأمة وتطلعاتها ماضياً وحاضرا، فهي كالقصائد السابقة، يندمج فيها المبنى بالمعنى، ولكنها تمتاز من غيرها أنهّا تتحدث عن موضوعات متعددة، السياسة والتاريخ والمجتمع والحب والعشق، فهي ترسم لوحة كلية متعدّدة الجوانب لواقع العرب والمسلمين، وهذا الاتجاه سمة من سمات الحداثة في شعر التفعيلة ولجه صلاح الندى، فأجاد فيه، وأثبت أنه شاعر موهوب حقاً .قال الشاعر في المقطع الثاني من قصيدته (مواويل حزينة لميلاد جريحة) على سـبيل المثال لا الحصر:

شربتك كأساً من الظلم
هدهدني الشوق .. يغتال عشقي الذي
نادمته المواويل حيناً
تجوبين أوردتي اللاهبات ولا أرتوي منك
يذبل زرع فؤادي يموت كموت الضمير
لدى الخائنين .

وفي موضوع آخررسم الشاعرفي المقطع الرابع مشهداً، يبرزفيه بتعبيرغير مباشرخداع المستعمرودسائس الماسونية ومحاولات غزوالعقل العربي للسيطرة على الوطن العربي واستغلاله :

النسيم يلوّن صوت المآذن بالخوف
والمستبد الخبيث اللعين
يرتل عهد الخداع المدوّن في كل عقل سقيم
يرتل أسفاره الباليات
فتأتي الأفاعي تمص الدماء
وترقص في محفل الموت – ماسون
يحضر في الكرنفال الرهيب

لكن الشاعرلا يظل يحافظ على تعبيره بالصورة تعبيراًغير مباشر، فنجده في بعض مقاطع قصيدته(مواويل حزينة لميلاد جريحة) يلجأ إلى المباشرة الصريحة، كما في المقطع العشرين، وهويرسم مشهداً للحصارالذي فرضه الغرب بقيادة أمريكا على شعب العراق، وتحريض بعض الدول العربيةأمريكا على غزوالعراق وتقديمها مياهها وموانئها وأراضيها لها، تنطلق منها لقصفه واحتلاله :

لن يطول حصارالتوابيت
نار عيون الطفولة تحرق كل ولايات
بوش الحقير
وحين تقوم الضحايا من الغازسوف تقول
الحقيقة :
من هوقاتلهم يا ترى؟
كل من أشعل النار في موقد الغرباء
وكل من سّهل الأمر، وأعطى الموانئ
للطائرات لقصف الإباء
كل من قال للغرب .. للشر نعم
من همج الزعماء .. من الدهماء
كل من قال: لا ننحني للسماء

وقصائده المشحونة بالوهج الشعري، لا تسير مقاطعها كلها على وتيرة واحدة من هذا االوهج، فهويخف ويتلاشى في بعضها وأحياناً يغيب عن القصيدة الواحدة حتى لا نرى في هذه المقاطع أوالقصيدة شعراً أوقريباً منه، وإنما ينحدر المقطع أوالقصيدة ذاتها إلى المباشرة الفجة، فيكون أقرب إلى النثر منه إلى الشعرلا ماء فيه، ولا رواء في مفرداته وعباراته وصوره. انظر إليه يقول في المقطع السابع من قصيدة(أحلام العذارى):

دقيقة عشق كان الله شاهدنا
والله ما مّس جسمك جسمي
سوى الشفتين .. وبعض اللمم
وكفك أمسك رمانة الصدر
صدري الجريح
فعدت معافى، وأنت غدوت الجريح

وأغلب مقاطع قصيدة (أحلام العذارى) وقصيدة (قطرة من بحرقلبي) مثال على ما أ زعم. وبلغ من صعود انفعال المؤلف إلى ذروة الهيجان أنه لم يتمالك أحياناً ضبط المفردات الشعرية الراقية في التعبيرعن انفعاله وغضبه وثورته في سياق حالاته النفسية المتماوجة، فانزلقت طائفة من المفردات في عدد من قصائده، وهوينعت فيها أعداء الوطن والأمة عن مسار اللباقة والشعر والذوق الأدبي الرفيع لتهوي إلى درك الألفاظ السوقية المبتذلة من سباب وشتائم، تذكرنا بمفردات معجم الشاعرالعراقي مظفر النواب، تمنيت لوأنّ المؤلف ترفع عن استخدامها مثل:(زناة الليل ... كلاب العهر ... كلاب الشمال ... كلاب المرافئ .. البغال ... الحمير ... الحقير .. داعر .. ساقط ... الساقطات .. عاهرة ... أولاد حرام ... النذالة)، وآخذ على صديقي الشاعر الذي يملك لغة شاعرية شفافة ومعبرة وموحية عدم اهتمامه بلغته وانتباهه إلى نحوها ‘ ومأخذي هذا هو من حرصي على تمكنه من لغته وحفزه على تطوير تجربته الشعرية. فقد ظهرت في الديوان أخطاء إملائية منها عدم انتباهه إلى همزة الوصل، ورسمه إياها همزة قطع مثل أمر الفعل الخماسي(انتفض) في قصيدة(إهداء وتصدير) وأمرالفعل الثلاثي في (اقرأ) و(ارحل) في قصيدة (الإجهاض) ومصدر الفعل الخماسي (الانتقام ) في قصيدة (ليلى)و( كالابتهال) في قصيدة (مواويل حزينة لميلاد جريحة) و(ابننا) في (مصباح الأمل) ورسمه ألفاً لــ ( ابن ) التي تحذف إذا وقعت بين إسمين علمين ثانيهما أب للأول في ( خالد بن الوليد ) الواردة في قصيدة (الإجهاض) ورسم ألف(لها) المنقلبة عن واوياء غير منقوطة في قصيدة ( قطرة من بحر قلبي) وأخطأ في كتابة حرف العلة في الفعل الناقص (يحلو)، فلم يعده إلى أصله الواوي’ وإنما أعاده إلى الياء المنقوطة في قوله:( وحلوالكلام ..... ليحلى الزمان!) من قصيدة (الإجهاض) وجمع لفظ (المساء) بإضافة ألف فوقها حرف مد ثم حرف التاء إليها(المساآت) بدلاً من إضافة علامة جمع المؤنث السالم الألف والتاء ( المساءات )، وجمع(زمان) على (زمانات)، واللغة لا تقر هذا الجمع، فجمع(زمان) في اللغة( أزمن) و(أزمان)و( أزمنة)، ولم يجمع اسم الموصول الذي ولي جمع المؤنث السالم جمع مؤنث سالماً ليكون مطابقاً له’ وأنّما أفرده في قوله من قصيدة

(قطرات من بحر قلبي):

ما هز عبث الصغيرات
التي في طيشهن غرابة وجنون

وكان عليه أن يقول :(الصغيرات اللاتي أواللائي) واستخدم كلمة(النواديس) في قصيدة

(مواويل حزينة لميلاد جريحة) بدلالة لهجة الريف السورية التي تعني ( المخبر) أو(الواشي)، ودلالتها في اللغة ليست كذلك، فهي تعني في اللغة الفصيحة كما يلي: ندسه بالرمح، طعنه به، وندسه بالكلمة: لذعه بها بصوت خفي’ وأخطأ في استخدام حرف الجر(الباء) في الضمير(ها) الوارد في السطر الشعري التالي من قصيدة ( قطرة من بحرقلبي):

ما كان يسبقني بها المجنون

والصحيح أن يستخدم حرف الجر(إلى) بدلاً من الباء لتصير(إليها) بدلاً من (بها) وجمع (غنم) وهي القطيع من المعز والضأنلا واحدة له من لفظه على (أغنم) في قوله من قصيدة ( قطرة من بحر دمي):

هناك تلقيني
بشعب في مراتع أغنمي

واللغة لا تقرهذا الجمع، وإنّما تجمع(غنم)على(أغنام) و(غُنوم) بضم الغين، ولم يؤنث العدد

(خمس) في السطر الشعري التالي ليخالف معدوده المذكر( ثعابين) من قصيدة (الإجهاض):

يومها أرسل الليل خمس ثعابين

ولم يثبت النون علامة رفع الفعل المضارع (تفهمين) في قوله (هل تفهميني؟) من قصيدة(ولادة) ولا في الفعل المضارع (تهجرين) في قوله:

بحثت عنك لماذا تهجريني

من قصيدة (صفحة من مذكرات طفل فلسطيني) ولا في الفعل المضارع (تلقين) في قوله: (هناك تلقيني) من قصيدة (قطرة من بحر قلبي)، ولم يحذفها من آخر الفعل المضارع (ترحلين) المجزوم بحرف الشرط الجازم ( إنِْ ) في قوله :

وهذا أوان اشتعال
قلوب المحبين إن ترحلين

ولم يعطف الفعل المضارع المعتل الآخر(يتعرّى) على فعل الشرط المجزوم (يمت) بحذف حرف العلة من آخره، أويعطف الفعل المضارع الأجوف (يذاب) على الفعل المضارع المجزوم قبله بحذف حرف العلة الأجوف في المقطع العاشر من قصيدة (كلاب صاحب الجلالة) حيث يقول:

إن يمت شعب لنا أويتعرى أويذاب

ولم ينصب( قيس) اسم كأنَّ في قوله:( كأنَّ قيسٌ ما أتى لرحابها)من قصيدة (قطرة من بحر قلبي) أوينصب( دليل) خبرالفعل المضارع الناقص(فليكن) في قوله :

فليكن جوع الملايين دليلٌ للولاء

أو(راسخ) خبر الفعل الماضي الناقص(ما دام ) في قوله من قصيدة(الإجهاض):

ما دام إيماننا راسخ’ فالمواسم تأتي تباعاً

أوينصب( سعيد ) خبر الفعل المضارع الناقص(يغدو) في قوله:

يغدوالزمان بذاك سعيد .. سعيد

وعدّى الفعل المضارع(تشتاق) بالضمير(ها) الغائبة ولم يعدّ ه بحرف الجر، فقال:( تشتاقها)،

ولم يقل:(تشتاق إليها) في قوله:

كل القصائد في الهوى تشتاقها

من قصيدة ( قطرة من بحر قلبي)، ولم ينصب( موطن) مفعول الفعل المتعدي(رأى) في قوله:

فإذا رأيت به لقلبك موطن، فترفقي

من قصيدة ( قطرة من بحر قلبي)، وجعل(الكذابين) نكرة غير مقصودة، والأصح أن يجعلهم نكرة مقصودة، فيقول:(يا كذابون) بدلاً من (يا كذابين) في قوله:

أمجاد قبيلتنا ضاعت بين السيقان
يا كذابين
لا شعر بدون دماء

من قصيدة(أنتم جبناء، وأنا منكم)، ولم يحذف النون من آخر(سنين) المضافة إلى كاف الخطاب في قوله من قصيدة (زهرة الذكرى):

هل أضعت سنينك المتأرجحات
على جبال العشق

ننتظر من الشاعر صلاح الندى أن يتخطى ثغرات تجربة ديوانه الأولى، والتجربة الأولى، عادة، لا تخلومن ثغرات، التجربة الأولى التي قدمته لنا شاعراً موهوباً، وأن يعّمق تجربته الشعرية،

ويغني ثقافته الأدبية، ويتمكن من لغته العربية ليواصل أداء رسالته على نحوأفضل، وهذا ما نأمل أن نراه في ديوانه القادم.

للشاعـرصلاح الندى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى