الأربعاء ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم حميد طولست

أبا علال حارس الحي

قليلون جدا هم أولائك الذين يمنعهم الحياء وعزة النفس(رغم فقرهم المدقع ومرضهم العضال وعجزهم الحقيقي) عن مد اليد للآخرين، فيكتفون بالقليل حتى يحسبهم الناس من الأغنياء كما جاء في سورة البقرة الآية 273 (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا).

وفي مقابل هؤلاء المتعففين، هناك الكثير الكثير ممن أفقدهم الجشع الإحساس بالكرامة، وأمات الطمع فيهم الهمة وعزة النفس، فأصابهم الصغار وسكنتهم المسكنة، فكانت إيديهم هي السفلى، يسألون الناس بإلحاح ذبابي مزعج حتى يعطوا، وإلا غمغموا وأغلضوا القول ساخطين، كما جاء في قول الله عز وعلا (وإذ يلمزوك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها هم يسخطون).

ظاهرة مشينة مستفزة للمشاعر، تحاصرنا في أبشع صورها وأسوء سلبياتها، منظمة متطورة عما كانت عليه في السابق، لما أصبحت تعتمد من مخططات وإستراتيجيات محكمة، وراءها مهنيون أكفاء يتقنون إستخدام العاهات والملابس وكل إكسسورات التأثير في الناس لجني الأموال الطائلة بالنصب والاحتيال، فأينما وجهت وجهك ترعبك كثرة عددهم وهم يؤتثون كل مكان، وينفرك قبح شكلهم وهم يتظاهرون بالفقر والإملاق، وتقززك دمامة مشاهدهم وهم يتمارضون ويتمسكنون.

تصادفهم في طريقك إلى عملك وقد وضع أحدهم على عينيه نظارة سوداء (ليبدو كفيفا) يعتمد على كتف فتاة جميلة في مقتبل العمر، يتناوبان في طلب الصدقة. أو تستوقفك إمرأة وهي تحمل بيدها مجموعة من الصور الإشعاعية وعلبة فارغة من أدوية الربو، والأدهى من هذا وذاك، الرجل الذي يتجول وهو يحمل كيس دم مشدود إلى ساعده بأنابيب بلاستيكية، وكأنه خرج توا من غرفة العمليات.

أما منظر إستغلال الأطفال والرضع في عملية إستمالة المارة وإستجداء عطفهم وأريحيتهم، بل النصب عليهم والتلاعب بمشاعرهم، فحدث ولا حرج، فقد فاقت كل التصورات والإحتمالات، فتجد من تجر وراءها أطفالا في عمر الزهور لا تجمع بينهم علامة أوسمة من سمات الأخوة، وتصادفك أخرى وقد إختفت وراء لباس أفغاني إسودَ من الأوساخ وقد حملت فوق ظهرها رضيعا لايكف عن الصياح المزعج.

مناظر مؤذية ومؤلمة، تدمي القلب وتقذي العين، لكنها لا ترقى لما عشته مرة مع نمودج منهم؛ إذ رن جرس بيتي صباح يوم من أيام الشتاء البارد، فسارعت بفتح الباب، فإذا بي أمام فتاة فارعة الطول قد لَُفت في تياب بيضاء وعلا وجهها حزن لم يستطع إخفاء جمالها الأخاذ، شرعت أتفرس هيئتها صامتا وهي تلطم الخدين تحسفا؛ ركبتني هستيريا موجعة من علامات الاستفهام، وتشابكت الرؤى التعجب بدواخلي فأسرتني الدهشة ولم أقو على الكلام، إستجمعت قواي فسالتها(من أنت وما بك)، أضاف جوابها هلعا إلى هلعي وهي تطلسم بكلمات بللها لعاب النحيب، فهمت منها بمشقة أنها إبنت علال حارس الدرب وقد توفي ليلتها ولم يترك شيئا، وهي تحاول جمع بعض المال لشراء الكفن وباقي نفقات الدفن. تأثرت للأمر وغمرني إحساس بالشفقة وزاد من شرودي ودوختي إختيارها الوقت الضيق وإتقانها دور الضحية المفجوعة للتو، إلى جانب عبارات الإطراء التي وصفتني بها حتى أصابني الغرور، فمكنتها من كل ما كان معي من أوراق نقدية وأنا أتأسف على قلتها لأنها لم تتجاوز الخمس مئةدرهم . أقفلت الباب وحكيت القصة لزوجي وأبنائي الذين تأثروا بدورهم بالغ الأثر لمصاب عائلة (أبا علال) كما يناديه ساكنة الحي .

مر الصباح وأنا لا أتوقف عن حكاية هذا الحدث المؤثرلمعارفي وزملائي رابطا بينه وبين إفتقار الكثيرين إلى ضمانات تقيهم شرور النوائب. إنتهى اليوم بخيره وشره بنقاشاته وسجالاته، وأنا في طريق العودة شغلتني فكرة إستخلاف (أبا علال) رحمة الله عليه وكم هو صعب أن نجد حارسا بمواصفاته، ركنت السيارة دون أن أنتبه للذي ألقى علية التحية المسائية المعهودة، دخلت المنزل فلاحظت في نظرات زوجتي وأبنائي غمزات ولمزات ماكرة الشيء الذي أثار شكوكي فتساءلت (مالكم آشكاين عاود ثاني) ردت زوجتي مبتسمة في وجهي ابتسامه خبيثة، (ماكاين والوا، وآش ما تلاقيتيش أبا علال وأنت داخل) أجبت بحدة الله يستر (علاه انا كنت فالمقاب) . قهقه الجميع وافهموني أنني كنت ضحية نصب وإحتيال ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى