الأحد ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم رابعة حمو

رسالــة إلى الشاعـر معيـن بسيسو

في ذكرى يوبيله الفضـي

أخانا وأستاذنا الكبير.... معين بسيسو
ككل عام في 23/ كانون الثاني في ذكرى استشهادك، تطلّ علينا من اللاوقت واللامكان لتتفقد حال حبيبتك فلسطين، ومديينتك الصابرة غزة. أنت هناك في سفرك الطويل بصحبة منْ فجّروا الجسور ومن أشعلوا الثورة، ومن حفروا بأظافرهم درباً للعودة. ولكنْ زيارتك هذه المرة لن تكون كسابقاتها. فغزة لم تعدّ غزة التي تعرفها.

فقد تغير لون شاطئها ورمالها ورائحة هوائها. ومحمّد الدّرة الذي ذهب لشراء دراجة هوائية واختطفته رصاصات الحقد من حضن أبيه أمام مرأى العالم كلّه لم يعّد وحيداً في مقبرة الشهداء. وفارس عودة ذلك الفتى ابن العشر سنوات الذي أذهل العالم بوقوفه أمام الدبابة ورشقه الحجارة عليها أصبح له رفاق بعمره يتسلى معهم في علياء السماء. وإيمان حجو الرضيعة التي اخترقت رصاصات الغدر ظهرها وهي بحضن أمها ما عادت ترفرف وحيدة، فقد أصبح لها أشقاء كثر شكلوا سرباً من الأطفال الشهداء ينعمون بزرقة السماء ويلهون بمتعة الطيران.

وهدى غالية... أتذكرها تلك الطفلة التي خرجت لتتنزه على شاطئ غزة مع أبيها المسن لم تعد اليتيمة الثكلى بعد أن فقدت كلّ أهلها، فقد انضمت إليها آلاء السموني التي أبيد كل أفراد عائلتها -100 شخص-، بعد أن جُمعوا في بيت واحد وهدمت عليهم البناية. وأنور بعلوشة الذي استيقظ ليجد خمساً من بناته استشهدنّ وهنّ نيام بعد أن قبلهنّ قبلة الوداع الأخير ولا يدري أنها آخر ليلة يراهم بها وعليه في الصباح الباكر أن يجمع شنطهم المدرسية، وكراريسهم، وأخذيتهم الصغيرة وبيجاماتهنّ ويعلقهم على حبل الذكرى.

ولا تنسى أطفال مدرسة الفاخورة التي هوى عليهم الموت من السماء قاذفاً حمماً فسفورية وحرارية جعلت جلودهم تلتصق بساحة المدرسة كعلامة فارقة لها. وعشرات بل آلاف القصص لشهداء وجرحى يرقدوا بين الحياة والموت.

هذه غزة الآن... يا أستاذ معين... غزة التي تختلف في الزمان عن كل مدن العالم، تؤرّخ أيامها بأسماء الشهداء، وتسمي ساعاتها بأسماء أطفالها اليتامى. غزة المحاصرة بين بوابات العدو الرابضة خلف جدران اسمنتية تلتف كالأفعى على خصرتها، وأساطيل حربية تمشط أمواج بحرها، وطائرات تنتشر كالغربان تنفث الموت وتلقي بحمولتها على شعبك الأعزل.

غزة الآن تسطّر اسمها من ذهب على صفحات التاريخ لتضيئ عتمة ليل أبنائها المقهورين والمكلومين، وتفرش الحصائر لهم وتزرع الأرض خياماً للصمود.

غزة مدينتك يا أستاذنا الكبير معين... لم ولن تفزْ يوماً بجائزة أجمل المدن العربية، ولا أكثرها نظافة ولا أرقاها تنظيماً وعمراناً، ولكنها حملت تاريخ أمة آمنت بالمقاومة والنضال وحق الدفاع عن الكرامة العربية لأمة أصبحت كالنعام تدفن رأسها وجسدها مشرّع للاحتلال.

غزة أمٌ تمنح الحياة لأبنائها وتضمهم بحنان فوق الأرض وتحتها. وأطفالها غادروا ملاعب الطفولة وغدوا رجالاً يحملون همّ الحصار وفتح المعابر ويحفظوا أنواع الطائرات وأسماء القذائف التي تُلقى عليهم... فقط أسمعهم صوتاً ويخبروك نوع السلاح المستخدم. وشبابها مدرسة تُعلم فنون الإستشهاد وتفخيخ الأجساد، وصنع صواريخ فتيلها الكرامة والشرف حتى ولو انفجرت بالهواء كألعاب نارية. وشيوخها يربون الأحفاد معنى التجذر في الوطن. فهل رأيت من لاوقتك ولامكانك مدينة عربية تزغرد الأمهات حتى الهزيع الأخير برحيل فلذات الأكباد غيرها؟

هذه غزة الآن يا أستاذ معين...أصحبت أحجية وطلسماً وطقساً أسطوريا، وجزيرة منفية على ساحل المتوسط، وتحولت إلى طروادة فلسطينية، أبوابها السبعة موصودة كقصص الحكايات قبل النوم، العدو من ورائها والبحر من أمامها وفرعون وزبانيته من جنبها، وليس أمامها سوى الصمت والصبر والصمود.

هذه غزة ذاتها التي وَقفْت مدافعاً عنها منذ عام 1953 ضد التوطين في صحراء سيناء وكنت مع رفاقك لاعباً أساسياً في إحباط مؤامرة إلحاق غزة بالأردن، وأسقطتم مؤامرة تدويل القطاع، وتحملت السجون والمعتقلات والتعذيب في مصر وردّدت أبيات شعرك التي أصبحت هتافات الجموع في المظاهرات:

أبواب غزة وهي مغلقةٌ على الشعب الحزينْ
فيحرك الأحياء ناموا فوق أنقاض السنين
وكأنهم قبر تدقّ عليه أيدي النابشين
هذه هي الحسناء غزة في مآتمها تدور
ما بين الجوعى في الخيام وبين عطشى في القبور
ومعذب يقتات عن دمعة ويعتصر الجذور
صور من الإذلال فاغضب أيها الشعب الأسير
فسياطهم كتبت مصائرنا على تلك الظهور

نعم، هذه حسناؤك الآن يا أستاذ معين بسيسو... قد أضحت متسولة وهائمة على وجهها تعيش على مساعدات الأونروا من طحين وزيت وخيام للشقاء. وشاحنات المعونة على أبواب رفح محملة بالمساعدات مُنعت من الدخول من أبي الهول من باب أن الجريح والمشرد أفضل أن ينام خفيف بدون طعام. وطوابيرالأطباء والمتطوعين الشرفاء يوقعون أنهم مسؤولون عن أرواحهم ولا تتحمل حكومة أم الدنيا أي مسؤولية عن هذا الشرف، فهم لا يحتاجونه، وعندما وُزع على العالم كانوا مختبئين في الخزانة، وبحجة أن الدم الفلسطيني مقدس ويجب أن يبقى على أرض وطنه يموت عليها ويستقبل القنابل ويدفن تحت أنقاض بيته توفيراً لحفر القبور، وعليه أن يعاقب ويدفع ثمن مواقفه بالدفاع عن ما تبق من الكرامة العربية التي سقطت كورقة التوت وفضحت عورات الجميع من الحكام العرب، بل وحتى فضحت الواد سيد الشغال الهلفوت بهجت الأبصيري الذي أثبت بالدليل القاطع أنه فعلاً شاهد ماشفش حاجة في زمن الانبطاح والعري الذي غدت الأمة العربية فيه ظاهرة صوتية لم تتعد سرعة الصوت.

وأن شافيزـ رضي الله عنه ـ يرجع نسبه في شجرة عائلته الى عمر الفاروق الذي لم يرض بالظلم والخذلان فطرد شمشون القبيح من بلده، وأن ذاك (الطيب) حفيد محمد الفاتح أكثر مروءة وكرامة من الذين تصهينوا وفتحوا من أراضيهم نوافذاً للهجوم على مدينتك الصابرة تطبيقاً لفكرة برنامج: (في مصر... البيت بيتك)، بل وبذلوا جهودا جبارة لإفشال القمة اليتيمة التي عقدت بعد 17 يوما من القتل والتدمير وكأن الحرب تدور رحاها على كوكب الزهرة أو في جبال تورا بورا ولا تبعد عنهم سوى بضعة كيلو مترات. لأنهم يخشون قيام دولة إسلامية تهدد مصالح قاهرة المعزّ بأن ترسل جحافلاً من الجيش الإنكشاري الغزيّ لإعادة أم الدنيا إلى حضن العروبة بعد سنوات من اختطافها وتقزيمها، أما قيام دولة صهيونية على حدودهم فحلوا أهلاً ووطئوا وسهلاً. حتى خرج هامان ثقيل الظل منكتاً بنكتة سمجة قائلا: الريس لما شاف إنه خلاص مافيش أي تفاهم بين شمشون ودليلة، قال جيبو لي الست ده"، وكأن الست ده تقشر البصل وتقلي البطاطا وليست– إحدى عاهرات الموساد- وما أدراك ما الموساد.

هذه حال مدينتك يا أستاذ معين بسيسو ولا ندري كيف يكون الحال في الذكرى المقبلة لاستشهادك! قد تكون مدينتك غزة إحدى ولايات دولة فلسطين المستقلة المقامة على الجزء الجنوبي-الشرقي من غرب زحل، أو الجزء الشمالي- الغربي من درب التبانة.
ولكن أبشرك حتماً سيكون من سكان مدينة غزة الفضائية من يذكر قصيدتك الخالدة:

أ

نا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من الجراج
وانظر إلى شفتي أطبقتا على هوج الرياح
وانظر الى عينيّ أغمضتا على نور الصبّاح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
فاحمل سلاحك يا رفيقي واتجه نحو القنال
واقرع طبولك يستجب لك كل شعبك للقتال
وارعد بصوتك يا عبيد الأرض هبّوا للنضال
يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال
ولتحملوا البركان تقذفه لنا حمر الجبال
هذا هو اليوم الذي قد حددته لنا الحياة
للثورة الكبرى على الغيلان أعداء الحياة
فإذا سقطنا يا رفيقي في حجيم المعركة
فانظر تجد علماً يرفرف فوق نار المعركة
ما زال يحمله رفاقك يا رفيق المعركة

ملاحظة أخيرة:

ذكر لي شاهد عيان من أصدقائي المبعثرين كتبعثر الرز على الأرض أن الكلاب في مدينته القائمة على ساحل الاطلسي والتي شاركت بمظاهرات تأييد لغزة أصيبت باكتئاب مزمن وحالات اختناق وموت سريري، ذلك لأن المتظاهرين وضعوا صورة الريس على على جلد أحد زملائهم الكلاب، مما أصابهم باحباط ونحول وبرهم، ذلك لأنهم عُرّفوا منذ يوم خلق الله الارض في ستة أيام ولم يسترح إلا في اليوم السابع أنهم للوفاء رمزا وعنواناً وانهم لا يعضوا إلا كلَ من تسوَل له نفسه بالهجوم على أهلهم وبني جلدتهم، وأنهم لا يبيعوا وفائهم الكلبي ولا يحابوا أعدائهم.

في ذكرى يوبيله الفضـي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى