السبت ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم عزيز العرباوي

من قال إنها شفافة فقد كذب

كنت أقدر أن أعضاء المكتب كلهم سيكونون هناك، يقومون بتجهيز مكتب التصويت على الشكل الذي شرحته لهم البارحة. كنت أعلم علم اليقين أن اليوم سيمر على ما يرام. لن يكون هناك أي اعتراض يذكر من طرف هؤلاء الشيوخ الثلاثة، والذين لم تكن لي يد في اختيارهم لمساعدتي. إنها رغبة السلطة المحترمة وتقديراتها الجيدة.

استقبلني أحد الأعضاء، والأصغر سنا، كما جاء في مذكرة السلطة. مثلما استقبل ممثلي الأحزاب السياسية المتنافسة، وقد توافدوا على ذلك المكتب في ذلك اليوم، كي يراقبوا عملية التصويت. لم يعد يجمعني بهم سوى الصمت والنظرات المتبادلة. لقد جاءوا من شتى الأنحاء والحواضر، يحملون وجوها صارمة وقلوبا مليئة بالرغبة في الاعتراض وإبداء الملاحظات تلو الأخرى.

كانت الساعة تقترب من الثامنة صباحا، موعد افتتاح عملية التصويت، لم يسمح لي الوقت، ولا جدية الأشخاص المتواجدين بنفس المكان، بالتعرف على كل واحد منهم على حدة. ولكني وباللقطة الخاطفة أخذت قرارات التعيين من كل واحد منهم، وقارنتها مع النسخ المتواجدة معي. تمكنت من معرفة توجهات كل شخص بينهم، والحزب السياسي الذي يمثله كل واحد. أمعنت النظر في الأعضاء الثلاثة بجانبي. نظراتهم الشائخة، تجاعيد وجوههم العميقة، كأنها أخاديد رسمت بفعل عاصفة هوجاء.

كانت رغبتي العميقة في مرور هذا اليوم على أحسن ما يرام، دون مشاكل واعتراضات، كما جاء في كلام ممثل السلطة عندما قال لنا يجب أن ترجعوا هذه المحاضر نظيفة وخالية من الملاحظات، فهو أفضل لكم جميعا، حاولوا أن تحلوا كل مشكل اعترضكم بالتراضي. ظلت هذه العبارة منقوشة بخاطري، لم يطفئها مرور الساعات بجانب زوجتي.

سحبت نظراتي من وجوههم بسرعة، وأنا أتمتم الكلام الذي يقال في مثل هذه المناسبات. ثم تابعت عملي وفتحت السجلات أمامي، منحت نسخة لنائبي، حيث جلس بجانبي، وأخذت الأخرى ألقي نظرة على المعلومات المسجلة فيها.

صاحت ساعة المنبه المعلقة على الحائط، تعلن عن الساعة الثامنة، وكررت صياحها مرات ومرات حتى وصلت ثمان صيحات. ألقيت بالسجل جانبا، سميت الله الرحمان الرحيم إعلانا بفتح عملية التصويت. أخرج الممثلون الأربعة أوراقا بيضاء، وانهمكوا في تسجيل بعض العبارات، حاولت أن أقول شيئا، لكن الكلام دشن سدا منيعا على صفحة لساني الطرية، واخرسني دفعة واحدة، دون عدل وحكمة.

تذكرت وأنا أمسك يد عجوز، وأضعها في الحبر، لوضع بصمتها أمام اسمها ورقم بطاقتها لتكتمل العملية. تذكرت أمي وهي تمنحني يدها لتقبيلها كل صباح، اليد الرقيقة التي اشتقت إليها، واشتقت لطبيخها. لم يكتمل الحلم الرائع إلى النهاية المرغوبة. محاه صوت شخص يعلن إصراراه على التصويت رغم عدم وجود بطاقة له، وعدم تسجيله في سجل الناخبين. كان صوته هذا إعلانا عن رغبة في إظهار كبريائي، ورغبة مدفونة في إشهار رئاستي للمكان، وأن القرقر يعود إلي، وإلي فقط، دون تدخل من أحد.

حاولت أن أجد التبريرات الممكنة، لأوضح فعلا ما، لكنني صمت، شعرت بالضيق يتسلل إلي، وكان الجو خانقا، والمكان مظلما، والنوافذ كلها مغلقة. فكرت أنني تسرعت في قبول هذه المسؤولية الصعبة، دون تفكير ونظر. رحت أفكر وأعيد التفكير في إلحاح الشخص الذي كان غريبا وشديدا، هل منعته من حق وواجب؟ أم هي المسؤولية التي أقعدتني فراش الضمير والصرامة؟.

رحت على نحو غريب أنتقص من مسؤوليتي هذه، وتمنيت أن أخبيء وجهي تحت وسادة خشنة في تلك اللحظة، وأفكر الآن، كيف أنني تجاهلت حقا وواجبا منذ اللحظة الأولى؟.

همس لي نائبي وسط الضوضاء وحديث الأشخاص المزعج، أن ذلك الشخص الذي طردته، يتوعدني ويهدد بقتلي بعد مغادرتي هذا الفضاء اللعين. عدت إلى عملي وأنا لا أدري ماذا علي أن أفعل بالضبط، ووجدتني أفكر وأردد كلمات كسيحة. ثم ألقي بجسدي وبظهري على الكرسي. ليبدأ من جديد سكون طويل بين الموجودين بالمكان. وعلى نحو غريب وقصد بعيد التفكير شعرت بالرغبة في بقائي بهذا المكان دون أن أغادر حتى تأتي السلطة...

ترجلت، نهضت من مكاني، توجهت إلى خارج المكتب، انعطفت، ملت إلى جانب خفي وراء الباب، أرقب ماذا يقع بالخارج، نساء كثيرات مجتمعات يناقشن بطاقات بعضهن. رجال وشبان يتراشقون ويتضاحكون ولا يبالون بأي أحد. أطفال صغار متسمرون في مكانهم. الشخص الذي كان يهددني لا يوجد بين هؤلاء. ندت عن ثغري ابتسامة وجهتها إلى الرجال والشبان المجتمعين. أردفتها بتحية الإسلام. لم أتراجع إلى الداخل، بل هبطت درج المبنى وفي قلبي رعشة غريبة تكاد تخلع فؤادي من فضائه.

انتظرت أن يلتفت إلى وجهة أخرى، ويكلم أحدا ما بجانبه. ولكنه لم يفعل ! حاولت أن أستدرجه إلى التفكير معي في حل هذه الإشكالية دون أن يعرف أي أحد من الحاضرين. وفكرت أن هذا أول مشكل يمكن أن يقع فيه من هو في وضعي، فرحت أحسب الأوراق الباطلة من جديد، وأنا أنظر في وجوه الممثلين الغريبة والذين مافتئوا ينظرون إلي ويراقبوا العملية بكل جدية، ويتابعون تحركاتي وعملياتي الحسابية. كان هذا طوق الاختناق الذي صنعته السلطة لي، هي بالطبع بارعة في هذه الحرفة.

تناسيت أمر عدوي الذي ظل خياله يلاحقني طول النهار، وانهمكت في حساب المردودية التافهة لذلك اليوم. أوراق قد رسمت عليها حيوانات وأشباح شبه عارية. ألوان منتقاة حسب طبيعة تفكير كل وكيل. علامات متشابهة في وضعها بين كل المصوتين. خرطشات بارعة في التعبير وإبداء الرأي، تقفز وتنط من مكان شاهق تريد الانتحار على مرأىً من أعين المترشحين.

انطفأ نور الكهرباء، أظلمت الدنيا من جديد حولنا، وسمعت ضحكات متتالية مختلفة النبرات، كنت قد جمعت الحصيلة في الصندوق الزجاجي الشفاف، وأغلقته بإحكام. وسط دهشة الحاضرين فتحت الباب وأعلنت عن نهاية يومي بخير وسلام. كنت أعتصر الدماء، أفترش الهواء الشقي المتبقي داخل المكان. أستحوذ عليه بقوة، بصفتي رئيسا للمكتب...

على العموم من قال إنها شفافة فقد كذب.... !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى