الخميس ٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم فوزية العلوي

عائدة وقلبي في يدي

ألقت نظرا كليلا إلى الخارج، فصدّتها سماء ثقيلة كالرّصاص، وصمّ أذنيها هدير العربات٠ وبدت ساعة بيغ بان منتصبة بقدّها الفارع كعملاق أثري مشغول بمضغ الزمن٠.

شعرت بتكاسل في دقّات قلبها، وبمغص مزعج يكتسح حشاها... ماهذه السّماء التي عادتها الشمس؟ وماهذا الهواء الرّطب كالحيّة؟ تراجعت إلى الخلف وأغلقت النافذة تاركة السّتارة الزرقاء الثقيلة تحجب عنها السّماء الضيّقة الملبدّة، وجالت بعينيها المغرورقتين في بهو الدّار... بدا وجه أمّها في الصّورة المعلّقة مشرقا بوشمه الأخضر الجميل، وحنانه الغامر، وبدا أبوها بشاربه الكثّ وجبّته الفاخرة ومسبحته القانتة كجبل الثلج. وعندما حدّقت في عينيه سمعته يردد في المعوّذتين، وذكرته وهو يمسح على رأسها بيديه الحانيتين، كلّما أصابها فزع٠٠٠٠.

دلفت إلى المطبخ.. رائحته ماسخة وعلبه باردة وقدره المعدني يغلي في صمت، لا ثوم يتأرجح في السقف ولا فلفل أحمر يزين ناصية البيت، ولا بهارات تغزو الأنف فتزو بع الكيان، لا مهراس يغنّي في فرح، ولا مطحنة البن تزغرد فرحة بقدوم رمضان... لا خبز يضوع في فتنة يغري بملمسه السّاخن وحباّت الينسون والشمر التي تتلا مع على إهابه الفاخر٠٠٠..

كم الساعة ياترى؟ ومن سيشاركها هذا الإفطار الحزين؟ جرت إلى الحاسوب ونقرت بضع نقرات فظهرت لها على الشاشة مواقيت الإفطار في كل أصقاع الدّنيا، ظلت تسحب الفارة حتى استقرت على تونس.... تنهّدت بعمق وأغمضت عينيها في حنين مدمّر... فجأة رأت نفسها بضفيرة طويلة وفستان زهري راقص ترقب مع المحتشدين ظهور الهلال٠.

تهلّل وجه الشيخ عبد الفتاح بشرا وانزرع فيه هدوء غريب، ومدّ قدما مبللة بنور الوضوء يتحسّس الصّخر المنصوب على هيئة سلّم، وهو يتمتم كأنما يناجي فلبه

(رمضان كريم)

سرى هرج وضجيج في الجموع المحتشدة منذ ساعة عند الربوة، ترقب بزوغ الهلال وأقبل الناس بعضهم على بعض مهنّئين، والجذل يؤرجح قلوبهم فيتسارع نبضها... هذا المنتظر العزيز قد حلّ ركبه فماذا أعدّوا له وكيف سيهيئون مقامه؟وكيف سيضمنون بركاته الكثار؟ هل سيصبرون على عطشه في هذا الطقس الحار،؟ من ياترى سيذهب بعيدا الى البساتين ليأتي كل يوم بالبطيخ والعنب.؟ في أي المساجد ستقام التراويح؟من سيشرف على ختم القرآن في الجامع الصغير؟

أما هي فكانت تجري هنا وهناك كفراشة، وما أن أدركت أنّ رمضان بات هنا على بعد خطوات من البلدة ، حتّى طارت وأترابها كسرب من الخطاطيف، وما كانت الأقدام لتطأ الأرض من الغبطة٠.

استقبلها الزّقاق الطويل المترب، وصفّقت عن بعد شجرة التوت، ودفعت الباب وهي تردّد (رمضان جا يافرحنا ياهنانا

رمضان جا انشاالله نبينا المصطفى بحذانا)

وما كاد صوتها يبلغ الحجرة الداخلية حيث كانت أمها تصلّي المغرب، حتى دوّت طلقات نارية متتالية انفتحت لها النوافذ والأبواب، تلتها زغاريد وتناهيد ودموع وذكريات وأحلام. وأطلّت رؤوس مزنّرة ومعمّمة وحاسرة، فيها الأشيب الواهن وفيها الأسود الغزير. ولكنها جميعا كانت برّاقة العينين مشرقة الوجنات٠.

أماّ الكبار فقد مضوا لشؤونهم والفرحة تفعم قلوبهم، أماّ الصغار فلم يدروا كيف يرتبون الزمن حتى يجيء وقت السّحور؟

كان يوم الصّيام الأول مهرجانا للفرح والبهجة. كل ّالأطفال قرّروا جميعا أن يصوموا ويصلّوا التراويح، والنّساء كنّ أعددن العدّة كريمة مباركة... الزيتون خرج لتوّه من جراره ضاحكا والفلفل من غبطته بات يضوع برائحة آسرة، والقدور أخذت تغلي مفعمة بخيرات الكريم، مرقا وبرغلا وملوخية وبازلاّء٠ والأفران استعدّت بأجوافها الحمراء، تعدّ الخبز شهيا كأقراص العسل، أمّا هي فقد كسّرت حصّالتها وجرت تتصدّق بنصفها عند باب المسجد، وتدسّ في حجر العجوز الضّريرة بطيخة صغيرة وحفنة من التمر، وحذاء لم تكن تنتعله أمّها إلا لماما٠.

جاء المغرب ٠٠٠٠ويا صلاة النبي الأكرم، ويا صوت عبد الباسط عبد الصّمد يتعالى مرتّلا يملأ القلوب خشية والعيون عبرات٠.

صعد الأطفال جميعا على السّطوح، وفوق الشجر وعلى السلالم، يرقبون المئذنة أن تتقد فوانيسها٠ وصوت المؤذن ما إن صدح (الله أكبر الله اكبر)، حتى اندفعت طلقة مدوية تعلم النّائي الذي ليس يبلغه الأذان... ونزل الأطفال مهللين مكبرين واندفعوا إلى أجواف بيوتهم ينعمون بالطيبات. أما هي فقد كانت تتباطأ قليلا بالخارج حتى تنعم بتلك السكينة الرهيبة وذاك الخشوع المهيب الذي يغمر البلدة كلها، ويفعمها بشرا وسلوى. وتظل ّترقب الهلال الذي يكون شاحبا أوّل الشهر ثم يكبر كلّ يوم قليلا، ومع كبره كان يصيبها الحزن، إن ّكبره يعني أنّ رمضان لن يمكث هنا الى الأبد، بل لا بد له من رحلة طويلة يطوّف فيها بالآفاق قبل ان يعود هنا من جديد.

** ** **

دقّ جرس الهاتف فجأة... ليفتكّها من أحلامها الجميلة.. كانت إيزابيل صديقتها البريطانية تهنّئها برمضان، وتعلمها أنّها ربما جاءت في الغد لتناول الإفطار معها٠ لكنها وجدت نفسها تعتذر بطريقة مفاجئة

ـ آسفة ياعزيزتي ولكنّي مضطرة الى العودة ٠سأبقى في تونس أسبوعا أو اكثر بقليل وسأكلّمك حالما اصل. كانت الطائرة تمخر عباب السماء، وقلبها يمخر عباب الزمن٠ وودّت للحظة لو انها غادرت الطائرة، وسبحت بنفسها٠ فالشوق أنبت لها جناحين... ستحطّ حتما فوق مئذنة أو في ساحة سوق الخضار، أو ربما حطّت في الحوش قرب التنوّر وستتلقف أوّل خبزة تخرجها أمّها وستضعها على قلبها الذي جمّدته لندن٠.

عندما دلفت الى الزّقاق، كانت العصافير تتزاحم فوق نواصي البيوت، وبين أغصان التوت والعلّيق٠ وكانت زخّات مطر دافئ تعلن عن قدومها المفاجئ٠ أماّ باب الحوش فقد كان فاتحا ذراعيه، كأن شخصا ما أوحى إليه أن (غزالة) قادمة

ا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى