الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات المناضلة اللبنانية والاسيرة السابقة المحررة سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة الرابعة - الحرب محض جنون

في لبنان، كما في سائر البلدان، تتخذ الحرب عللها وأساليبها المتوية، وكانت تحمل أسماء عديدة تنكشف لي تدريجياً: الإسرائيليون والفلسطينيون حيناً، وأحياناً الصراع بين اليمين واليسار اللبنانيين، وفيما كنت أدرك هذه الأسماء مجردة، أخذت الأيام ترسم لي أوجه الحرب هذه بشراً من لحم ودم، وكأنما كنت إزاء أمكنة مختلفة لمجازر مشتركة. وفي هذا السياق، كان ثمة بوسطة عين الرمانة ومقتل ركابها، وهم في معظمهم فلسطينيون. وثمة في هذا الصعيد كذلك، المجزرة التي ارتكبت في مسبح الصفرا مارينا، وهو متجع سياحي تحول الى مركز قيادة الاحرار، وكذلك الأمر التطهير الذي لحق بمخيم تل الزعتر القائم في بيروت الشرقية التي أفرغت بدورها من سكانها الفلسطينيين، أو الشيعية أو المسيحيين المنتمين الى أحزاب اليسار. وتمثل كذلك في قائمة هذه الحروب، محاولة الاغتيال التي ارتكبت في حق عائلة رئيس الجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية. تضاف إليها عمليات الخطف من قبل كل الأطراف والحواجز التي ارتفعت أنى كان فجسدت انقسام المدينة الى شطرين متقاتلين، كل هذا وعيوننا المصابة ذهولاً لا تقوى على شيء.

لم تعد بيروت قائمة. إذ بات اسمها كلما رددته الإذاعات أو ورد في مناقشاتنا وأحاديثنا أتى مصحوباً بنسبين، شرقية أو غربية.

ولئن كان التاريخ يستنزفنا منذ ثلاثين عاماً، فإنه الآن يسحقنا. عودٌ بي الى بدء الأحداث. فبعد أن كانت الحدود بين إسرائيل ولبنان تنعم بالهدوء النسبي على امتداد عقدين تقريباً، من العام 1949 وحتى العام 1967، فقد أخذت بالتبدل منذ ذلك الحين. ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية جعلت تكثف من عملياتها العسكرية انطلاقاً من لبنان، الذي بات عرضة لغارات إسرائيل الإنتقامية. وتوالت الغارات وعمليات القصف وازدادت وتيرتها على نحو ما انكشف لي وأنا بعد فتاة صغيرة، في دير ميماس. وكان لهذا التحول الجديد أن يدفع بالعلاقات بين السلطات اللبنانية وقيادة منظمة التحرير الى حافة التدهور والاشتباك. ولهذه الغاية وتجنباً للصراع، عقد اتفاق القاهرة في العام 1969 بين الطرفين: ومع أن هذا الإتفاق ضيق من هامش التحرك أمام الفلسطينيين إلا أنه اعترف لهم بحق المقاومة حتى انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، ولم يكن هذا الأمر كفيلاً بإزالة التوتر على الحدود مع إسرائيل، إنما صارت الحدود على العكس من ذلك "حارة" ولأمد طويل. أضف الى ذلك أن الصراع نفسه بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطات الأردنية بلغ ذروته في حرب ضارية سحق خلالها الجيش الأردني قوات المنظمة إبان ما سُمي بأيلول الأسود، فاضطرت هذه الأخيرة الى إخلاء أدواتها القتالية الى لبنان. إذاً، كان الفلسطينيين حضور طاغ في لبنان سواء أكان حضورهم ممثلاً بقواهم العسكرية أم بأكثر منها، أو بحضور لاجئيهم في حربي العام 1948 و 1967. وكانت أُنشئت حول بيروت مخيمات عديدة ترعاها وتشرف عليها السلطات اللبنانية عن كثب.

وإذا كان من اليسير أن أتبين صورة الإسرائيليين في ذهني لفرط ما كانت جدتي تروي لنا حكايات عنهم ولأعمال القصف التي تعرضت لها دير ميماس من قبلهم عام 1973، فإنه كان من العسير علي أن أرسم للفلسطينيين صورة معلومة. إذ لم أعرف فلسطينيين في طفولتي ولا في فتوتي، غير أني كنت أعرف أنهم طردوا من أرضهم وأنهم ينتظرون أن تكون لديهم القدرة على استردادها. مع ذلك ظلت صورتهم في خيالي غامضة، بل ملتبسة وما كنت أعرف مخيمات للفلسطينيين والقضية الفلسطينية لم تكن لتمني مباشرة. إنما كنت لا أزال أعدهم لبنانيين شأن الآخرين، وكان اسم عرفات لا يبدو لي مألوفاً غاية الألفة.

وكان لحادثة غامضة في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 أن تشوه صورة الفلسطينيين في عيني لأمد طويل: ومؤداها أن أحد أقربائي اغتيل على يد أحد الفلسطينيين.

ويروي الأهل أن إحدى قريبات أبي كانت تسلك طريق بيروت الغربية في اتجاه الجنوب وبرفقتها ابنها عفيف، وصادف مرورهما وجود حاجز أقيم على مقربة من النبطية في كفرتبنيت. ولدى إصرار آمر الحاجز على رؤية أوراق الركاب أخرجت المرأة هويتها فهال الملازم أن يرى طائفتها الارثوذكسية ، أي المسيحية . وكان لطالما يقوم حوار مسلح بين الميليشيات المسيحية ومنظمة التحرير الفلسطينية. والحرب القذرة تذر قرونها في كل ناح، أما عفيف ابن قريتنا جندياً في الجيش اللبناني، ولم يكن فيه من الكتائب ولو ذرة واحدة. بل كان يعتبر نفسه من أهل اليسار، وأنصار الفلسطينيين، غير أن الميليشيات في جوهرها القائم على التعصب، لا تنظر الى تفاصيل دقيقة كهذه. إنه مسيحي فهو إذن عدو لنا، فأمر الملازم بإخراج قريبنا من السيارة وبفظاظة بينة، وغذ أدركت والدته للحال عن ابنها باكية منتحبة. وعبثاً رجتهم إذ انتهوا الى رميه بالرصاص وبأعصاب باردة. إذاً سقط عفيف فداء عن معركة وقضية ليستا من شأنه.

فيما بعد، ولزمن متأخر تبينت لي الحقائق الفاضحة: لم يُقتل عفيف على يد أحد الفلسطينيين، وإنما على يد لبناني شيعي كان أراد أن ينتقم لاختفاء أخيه، على يد كتائبيين. وكان يظن أن هذا الأخير، أي عفيف، أقدم على اغتياله. وبدورهم كان أهل قريته الذين ظللتهم الشائعات، يتخيلون أن هذا الاختطاف إنما كان ارتكبه بعض "الغرباء". مع ذلك فإن خاتمة هذه المأساة لتبدو رهيبة. وفي نهاية الأمر تبين أن أخو هذا الملازم لم يقتل فقد توارى عن الأنظار وانخرط من تلقاء نفسه في معسكر الكتائب واقترف أعمالاً دنيئة لصالحهم.

وانقضت سنة قبل أن اكتشف الفلسطنيين وقضيتهم على حقيقتهم. ولكن بظروف مختلفة تماماً عن الماضي البعيد. وذلك يوم عاينتهم، وهم يحوطون هذه المرة بنعش أحد أقربائي وابن أخ والدي، وكان يدعى خالداً. فرأيتهم يشكلون من حوله كوكبة الشرف ويؤدون التحية للشهيد في نعشه، على أنه فقيد للثورة الفلسطينية نفسها. ذلك أن أعداداً من الشبان اللبنانيين أخذت تنخرط في صفوف الفدائيين حالما تبين لها أن هؤلاء يقاتلون الإسرائيليين الذين دخلوا جنوب البلاد وأمعنو فيها غزواً وإرهاباً وقتلاً وكان قريبي خالد واحداً منهم. وكان المغدور أصيب خلال عملية نقله الذخائر مع فرقة المغاوير التي انضوى فيها، وفي تفصيل الإصابة أن لغماً أرضياً انفجر به فبترت ساقه للحال وأصيب بجروح عديدة إلا أنه ما لبث أن فارق الحياة متأثراً بجراحه، فيما كان رفاقه ينقلونه الىمركز الإسعاف في تلك المنطقة. وقر رأي منظمة التحرير الفلسطينية أن تجري للشهيد مراسم تشييع إستثنائية.

فانطلقت ذلك اليوم تظاهرة ضخمة في بيروت الغربية، غير بعيد عن منزل الشهيد. أما أنا فوقفت أتابع ذلك المشهد، وأعاين الفصول المؤثرة التي تتوالى أمامي. فرأيت الشبان الفلسطينيين وهم يسيرون في العرض العسكري، ضاربين الأرض بأقدامهم على الإيقاع نفسه. كان شبان آخرون يحملون صوراً مكبرة هي رسوم لشهدائهم وينثرون الزهر الأسود والأبيض والأحمر والأخضر بألوان علمهم الفلسطيني فتقع الأخيرة على موضع مخطط لكل مربع أوشكل من أشكال ذلك العلم.

وهكذا، تسنى لي أن أكتشف علماً وقضيةً وشعباً. وفي الحقبة نفسها، كان الوضع في الجنوب يتخذ هيئةً معاكسةً: إذ تمثلت في جيش لبنان الجنوبي. وهو جيش أُسندت قيادته، في الواقع الى بعض الضباط العسكريين المسيحيين؛ وتولى أحدهم، ويدعى سعد حداد، قيادة الجيش هذا. وبالطبع، ظلت الدولة العبرية راعية لهذا الجيش ومكلفة إياه حماية بعض الثغور الحدودية من هجمات المقاومين. وفي الإطار المحلي رأيت أدوات هذا الجيش لا يتورعون عن اقتراف الجرائم ونسبتها الى الغرباء، ليستميلوا الناس إليهم وينخرط شبابهم في ذلك الجيش. وفي هذا الشأن لا أزال أذكر حادثة اغتيال طبيب عامل في الريف وسائقه، وقد أوله المتعاونون الجدد مع جيش لحد على أنه عمل كونه خلافاً على المال بين السائق ولبناني شيعي. أما مقتل الطبيب فكان الدافع إليه خشية القاتل من انكشاف جريمته على يد ذلك الطبيب لمعاينته حادث القتل الأول.

إثر ذلك توترت الأجواء في القرية. ولم يطل الأمر حتى صارت دير ميماس جزءاً من الحزام الأمني الذي اقتطعه جيش الدفاع الإسرائيلي من البلاد وجعله حرزاً له. فإذا صح أن هذه الحدود الجديدة أُعدت لتكون حاميةً لمن في داخلها، إلا أنها لم تكن حدوداً شديدة الإحكام. فلقد ظلت والدتي تواصل زياراتها المألوفة الى القرية غير أنها كانت إحدى النساء القلائل اللواتي أمكن لهن أن يحتفظن بعلاقات متينة مع أقرباء لهن، كانوا لا يزالون في المناطق المحتلة.

وبدءاً من ربيع العام 1975، والمعارك بين منظمة التحرير الفلسطينية والإسرائيليين تتقاطع وتتشابك مع الحرب الأهلية الدائرة في بيروت وضواحيها. وكان سبق اندلاع هذه الحرب فترة طويلة من الإضطرابات المتقطعة التي أُقحمت فيها بالتدريج، مؤسسات البلاد وبنياتها السياسية والاجتماعية. فهذه الحرب التي غالباً ما صورها الغرب على أنها صراع بين المعسكر المسيحي وبين الطوائف الإسلامية، لم تكن عائلتي لتحياها على الإطلاق، شأن عائلات كثيرة. ومن جهتي كانت لي قراءة أخرى للصراع الجاري بين قطبين: اليمين ضد اليسار. أما اليمين فكان ممثلاً، بلا أدنى شك، بالأحزاب المسماة مسيحية، وعنيت بها الكتائب اللبنانية بقيادة بيار الجميل وحزب الوطنيين الأحرار بقيادة كميل شمعون، ويدعم هذين الحزبين الموارنة الكاثوليك، أو يُستدل من هذا أننا نحن الأرثوذكس، أقل مسيحية من هؤلاء وقد صنفنا مع ذلك في المعسكر العادي؟

في حين كان اليسار على حد ما يصفه الراشدون في عائلتنا، ممثلاً بالحزبين الشيوعي اللبناني والتقدمي الإشتراكي، اللذين كانا حليفين لمنظمة التحرير الفلسطينية وبعض التنظيمات الإسلامية اللبنانية، أقله في بدء الصراع والحرب الأهلية؛ ويُضاف الى هذين الحزبين سوريا التي بدت خياراتها متقلبة، فهي إذا ما دعمت طرفاً أو ساندت آخر، من كلي المعسكرين، فلأنها سعت الى الحفاظ على نوع من "التوازن" بين القوى السياسية اللبنانية كافة، وبغية الإفادة منه قدر ما تستطيع، حتى إذا اندلعت الحرب الأهلية شهدنا انبثاق أحزاب جديدة، ولا سيما الشيعية منها مترجمة بذلك صعود نجم تلك الطائفة واتساع نطاقها الديموغرافي وأهميتها في تركيبة المجتمع اللبناني: من مثل "حركة المحرومين" التي أنشأها موسى الصدر، حركة أمل اللبنانية، وحزب الله فيما بعد.

وفي ظل هذه المعمعة، رأيت تحالفات تعقد خلافاً لطبيعة المتحالفين، وصراعات داخلية حادة وانهيار جبهات، تشكل جميعها قوام يومياتنا في هذه الحرب.

ولما كان اشتعال الحرب، على مدار سنواتها الأولى، يوفر مصالح ضخمة لقلة من المستفيدين وتجار الأسلحة فقد استولدت وقودها من ذاتها، ما جعلها تستمر آجالاً طويلة حتى تجاوزت كل منطق سياسي ساهم في إطلاقها أو دفع بها الى الإنفجار. وهذا ما حصل بعيد رحيل القوات الفلسطينية ، في العام 1982، من بيروت، وقد طاردها جيش الدفاع الإسرائيلي خلال عملية "سلامة الجليل" العتيدة، حتى حصارها في أول مدينة عربية (غير القدس).

ولسوء طالعنا، نحن الشعب اللبناني، آلمنا أن نرى جيشنا الوطني وهو ينجرف في تيار الحرب الأهلية المجنون، بدلاً من أن يكرس همه للدفاع عن البلاد، ضد كل ما يتهددها من مخاطر خارجية محدقة بها. وإذ بدا الجيش عاجزاً عن البقاء بمنأى عن المماحكات السياسية والصراعات العسكرية، آثر أن يعيد إنتاج المجتمع اللبناني بكل ما فيه من نزعات إنتحارية. حتى إذا تناسى أفراد الجيش واجباتهم المقدسة بالدفاع عن الوطن بأسره، انقاد كل منهم لطرف من أطرف الصراع. فالتزم بعضهم معسكراً فرقاً صغيرةً وضعت في خدمة أسياد الحرب الذين سرعان ما ثبتوا دعائم سيادتهم على أنقاض بيروت.

أما أنا فأدركت مبكراً هول هذه الورطة التي دفعت بأبناء المؤسسة العسكرية الواحدة الى الاقتتال فيما بينهم، وبدت لي الحرب الأهلية في وقت مبكر للغاية أنها فخ هائل وقع فيه اللبنانيون ليس إلا. وكان هذا اليقين الحتمي يحضرني وعلى نحو ملموس، حين كنت أعمل في الدفاع المدني، أو أتطوع أحياناً في خدمة الصليب أو الهلال الأحمر اللبنانيين، فحين كنا نخلي الجرحى من ساحات المعركة، ونتوجه بهم الى المستشفيات، ما كنا لنفتش عن هوية هذا الجريح أو ذاك، ولا عن انتمائه الطائفي. وبالمقابل، بدا لنا جميع الأطراف مخيبين للآمال، ما داموا يعملون على إشعال الحرب الأهلية، مركزين على تفاصيل دون أخرى، دافعين الى ترهات لا طائل منها، تحثهم عليها طاقة عجيبة، في حين نُحيت الأمور الجوهرية جانباً.

ولطالما أثار عدم فهمنا ظاهرات الحرب الأهلية النقاشات المستفيضة، فاستغرقت منا الأخيرة أياماً بطولها، في مقر إتحاد الشباب الديموقراطي. وكنتُ، والحال هذه، شغفة بجو هذه النقاشات في الإتحاد، حتى لو ظلت والدتي تنظر بعين الريبة الى اجتماعاتي الطويلة في ذلك المركز. فهي إذ ألِفت كونها غير مبالية بنضال زوجها الشيوعي لزمن بعيد مضى، باتت على يقين بأن الاتحاد لم يكن سوى آلة لطحن الدماغ، آلة للترويج الدعائي في خدمة إعداد حزبي يثير سخطها. وكذلك هي صورة المخيمات الكشفية في عينيها، إذ بدت لها محض حجج لتعليم الشبان اللبنانيين الأكثر التزاماً عقائدياً واستعداداً للخضوع، حمل السلاح واستخدامه. وغالباً ما كانت تردد وبصوت عال: "ما الذي يقدمه الحزب الشيوعي؟ لا شيء، إنها الحكايات القديمة نفسها!". كل هذا ووالدي لا ينبس ببنت شفة، على جاري عادته.

وإذا كان الناس يجمعون على اعتبار الاتحاد مقرباً من الحزب، فإنه (أي الاتحاد) وعلى خلاف ما تخشاه والدتي، اتسم بكونه خزاناً للطاقة والتساؤلات والشكوك، ومئلاً فلإرادة البناءة. مع ذلك لا أراني شيوعية متزمتة. فإذا كنت أقدم المعونة للمحتاجين واللاجئين أحياناً، فهذا لا يعني أني ما عدت صاحبة قراري، ولا حرية لي في الحكم والعمل. بل إن التزامي بالحزب لم يكن التزاماً نضالياً صارماً، إنما هو يترجم عن تعلقي بتربية تتيح لي أن أستعيد عالمي الصغير، الذي يعمره والدي أو أعمامي. وعلاقتي التي نسجتها مع الحزب الشيوعي هي من الالتباس عينه، إن أنا إلا رفيقة درب، حتى لو أني غير مدركة تماماً أبعاد هذه العبارة ولا حدودها. أو أراني تلك المراقبة التي أبقت التزامها طي الكتمان، غير أنها وجدت ضالتها في المثل التي سحقتها رحى الحرب الدائرة، هذه المثل التي ما برح والدي يجسدها لي على مدى الأيام. ولئن ارتكب بعض الشيوعيين أخطاءً جسيمة في سعير المعارك، فإني على يقين بأن هذه الأخطاء عجزت عن إطفاء الأمل الذي لا يزال يلتمع في عيني أبي.

ولكن، ما تراه يكون هذا المثال الذي طالما جذبني إليه لأنخرط في تلك التربية السالفة؟ ليس صراع الطبقات بالتأكيد، حتى ولو كان ينطوي فيه، ضمناً، دافع الحزب للإشتراك في الحرب. إنما مثالي فكرة الوطن، بخلاف ما يظن البعض. فلما كان الحزب منذ نشأته غير ميال الى تقسيم المجتمع اللبناني شرائح طائفية، وجدته يواصل الكلام عن وطن للجميع، وطن يعامل فيه مواطنيه على قدم المساواة في حقوقهم وواجباتهم. وكان هذا الخطاب الوطني والجمهوري يمسني في الصميم. فهو يضرب على وتر في نفسي، كان آخذاً بالانحلال، بفعل الشعارات والحملات الدعائية لشهور وشهور، إعلاءً لحروب الإقتتال الأخوي. ولهذا، اندفعت الى الإنتساب غريزياً، وبملء كياني، عضواً فاعلاً في الحزب. لست فتاةً مسيحية ولبنانية، إنما أنا لبنانية في المقام الأول، ومن ثم أنتمي الى عائلة أرثوذكسية.

في أواخر السبعينيات، وبعد خمس سنوات من المعارك المتواصلة، بلغتُ في صميم نفسي الى حتمية راسخة، وهي أن للبنان عدواً واحداً، ومحتلاً أحداً ألا وهو إسرائيل. وفي إدراكي أن الحرب الأهلية هي محصلة طبيعية لما كنا فيه. ذلك أن السلطات الإسرائيلية في نظري كانت ولا تزال منذ عقود طويلة تتبع الاستراتيجية نفسها، والتي تقضي باحتلال جنوب لبنان، وتوسيع حدود إسرائيل على الدوام كلما أمكن لها ذلك. وكان هدف هذه السلطات واضحاً، بنظري، وهو تفجير الوضع في لبنان ليتسنى لها ضم المزيد من الأراضي، وبغية تمتين موقع الدولة العبرية بتوسيع أرجائها.

وكان هذا التهديد الكامن على الدوام، من الدولة العبرية ، يشكل محور أحاديثنا أيام المراهقة، يوم كنا لا نخشى من تبعات هذه الأحاديث ولا من تأثيرها على مستقبلنا ما دامت تجري في وتيرة غير منتظمة. ولطالما دغدغت مشاعرنا الفتية أغاني مارسيل خليفة الوطنية، وهدهدتنا صغاراً. وكان أخوتي يرددونها مرات ومرات. حتى أن هذه الأغاني بدت لي على المقدار نفسه من القوة التي في مسرحيات زياد الرحباني، هذا الساعي الى الديموقراطية بلا كلل. فكتاباته المتهكمة والهازئة والتي تغمز من قناة المتعصبين من إخوانه في المواطنية، هذه الكتابات ذاع صيتها وامتد الى العالم العربي. وغالباً ما أوردت الإذاعات مقاطع طويلة من مسرحياته، ومثلها فعلت المدارس. وهي تبدي إنكارها لتلاعبات السياسة ومراوغات الديبلوماسية التي دفعت بلبنان الى لجج الهلاك، واحدة بعد أخرى.

في العام 1980، وكنت لا أزال في الثالثة عشرة، حرضتُ للمرة الأولى في حياتي حفلاً للأغاني الملتزمة، وذلك في مقر الأونيسكو ببيروت. ولم يقبل المساء حتى امتلأت القاعة بالحضور، الذين أقبلوا لسماع مارسيل خليفة. وكان أبناء عمومتي وبناتهم قد أقنعونا، أنا وأخي عمر وأختي بالمجيء. ومع أننا وصلنا الى القاعة قبل افتتاح الحفلة بساعة لم نجد أماكن للجلوس إلا بشق النفس. وما كاد المغني يطل على المسرح حتى أخذ الحضور يلوحون له بالأعلام والمناديل وبالأثواب الحمراء. وإذ اندمجتُ باللعبة، نزعتُ عني سترتي الحمراء، ورحت ألوح بها بدوري. وما أن تلاشت أصداء الهرج، وجدتني أصيخ السمع الى كلمات الأغاني، التي بدت لي أقوى وأروع من كل خطاب سياسي. والحال أن مارسيل خليفة لم ين يغني معاناة كل من خسر أرضه وبيته، وبات رهين اليأس، من دون أن يميز اللبنانيين عن الفلسطينيين على الإطلاق، وكان يغني حنين الناس الى حقول التبغ في جنوب لبنان، والتي غادرها المزارعون إثر الحرب. وكان يغني تاريخ الخيام التي قصفها الطيران الإسرائيلي عام 1978، وسارعت الميلشيات الى نهبها. وفي ما أذكر، الى حينه لم أُنشد شعراً، ولو ضئيلاً، في طائفة من الطوائف أياً تكن.

إنما لا تزال في ذاكرتي قصائد مغناة للبنان، بلادنا وأرضنا، لها وحدها ليس إلا.

إلا أن السنوات اللاحقة، ولا سيما إثر دخولي الى الجامعة، جعلتني أتبين بوضوح عمق الإنقسامات التي انتهى إليها شعبنا! وفي هذا الشأن كان الانتصار الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، دور في دفع التيار الإسلامي أشواطاً كثيرة الى الأمام في الشرق الأوسط، ولم يكن لبنان، وبيروت تحديداً، بمنأى عن هذه التغيرات. بل إن عودة التيار الإسلامي شكلت مادة للتنافس بين التنظيمين الشيعيين، حزب الله المدعوم من طهران، وحركة أمل. وفي حين جهد أنصار حزب الله في تعليق شعارات باللغة الفارسية، تصدى لهم أنصار حركة أمل قائلين بأن القرآن إنما أنزل باللغة العربية دون غيرها. وما لبثت أن ظهرت أصول في اللباس محافظة. وكان أن انطوت عودة الأسلمة هذه على انحرافات لا تُطاق، من مثل الاغتيالات أو خطف المثقفين، أو قذف النساء اللواتي يجرؤون على النزول بثياب البحر الى الشاطئ بمادة الزاج باعتبار تصرفهن غير اللائق. ولما كنتُ مقربة من الشيوعيين وجدتني هدفاً لبعض هذه الأعمال. إذ كنتُ أجسد حساً بالإختلاط رأته التيارات الإسلامية المتشددة شأناً ينبغي إزالته: ممارسة الرياضة ولعبة الشطرنج التي أُجن بها وأحب أن يقاسمني إياها أصدقائي في الكلية وطلابي، حتى صرتُ هدفاً للتهديد بالموت من قبل شبان حركة أمل.

وما كان ذلك الوضع العبثي على قسوته، ليحول دون انخراطي في صفوف المقاومة والنضال تحت لوائها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى