الاثنين ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

تعويض

إهداء إلى الأستاذ الكاتب ناصر الريماوي

من تحت أقدام ظهيرة تموزية، خرج بجسمه النحيل والمخضب بالتعب ودخل إلى مطعم أنيق في قلب العاصمة بثيابه الرثة، ووجهه الأسمر الملطخ بالوسخ،وذقنه القنفذي وكأنه قد خرج لتوه من بالوعة، وما أن جلس حتى زفر بعمق مثل من حمل حجارة كبيرة وصعد بها إلى قمة جبل، ثم مسح عرقه النابت بغزارة بطرف كم قميصه الأصفر.

ترك مغارته تستولي على الماء الموجود فوق الطاولة، وأشار للجرسون الواقف أمام المطبخ.

اقترب وهو يفتح عينيه مثل قرصي جبن، تأمله مليا من شعره المتقصف والمنفوش حتى أسفل حذائه البلاستيكي المهترىء والمرقع، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة، أطلق "جويسم" عليه نظرات صاروخية:

" وش في عندكم أكل؟"

بعد لحظات قال بازدراء مصحوب بتكشيرة ترسم قرفا:

" كل شيء.. ماذا تريد أن تأكل؟"

" جيب على كيفك وكثــّر اللحم". وقبل أن يبتعد أضاف:

" اسمع.. جيب معاك فحل بصل وشوية فجل".

حدّث نفسه التي كادت تفر نحو الشوارع بكلام مبهم وسار باتجاه المطبخ، أما هو فظل متحفزا وسارحا في تخيل نوع الطعام، ولكي يحتال على جوعه بانتظار أن يأتي، راح يجوس بعينيه على الرواد، كان ينظر إليهم وكان الكراهية تتقد في عينيه.

لما كانت معدته صندوقا فارغا، وجوعه بدأ يفيض إلى فمه، لوّح للجرسون وصاح بصوت سمعه الجميع:

" يُبا جيبلنا هالسم الهاري وخلينا ننقلع.. عندنا شغل"

التفت إليه عشرات العيون والأفواه الصامتة، مشـمئزة ومستغربة. همست فتاة أنيقة وجميلة لشاب يجلس قبالتها:

ـ " يي شو هاد؟"

رد الشاب بهمس هو الآخر وكأنه اكتشف معجزة:

ـ مصدر من مصادر تلوث البيئة.. لا تنظري إليه كثيرا، ستتقيئين.

جاء الجرسون بصحبة "جنكيز خان" الذي كلن يسكن في عينيه ويحمل سيفه البتار:

ـ لماذا تصرخ؟ هل أنت في زريبة؟!

ـ" يُبا أنا مستعجل, عندي شغل".

استحال دمه إلى رصاص مصهور، وبلغ به الحنق مرحلة متفجرة، تمنى أن يحمله ويلقي به في الشارع، لكن المطعم كان يعج بالرواد أولا، والزبون دائماً على حق ثانياً، تمتم بكلام غير مفهوم وكانت نفسه في تلك اللحظة ديك يسبح في بحيرة من الدم، ثم مضى وتركه يتلاعب بشيء ما في جيبه، بينما معدته تتعارك مع بعضها، ونفسه تواقة للقاء عزيز اشتاقت له.

جاء الطعام فسال لعابه، واستيقظ في أعماقه جوع قديم، ولأنه لم يذق طعاما شهيا منذ أن ترك قريته البعيدة وجاء إلى العاصمة برفقة ابن عمه ليبحث عن شغل، ابتسم بغبطة وقال في نفسه:" صبرتِ ونلتِ" ومثل قط شرس انقض على الطعام، وانطلقت من فمه همهمات وتلمظات، كان يلتهم ما أمامه بحركات غريبة وسط نظرات الاستغراب من بعض الرواد، فالجوع شوكة من نار، مغروزة في بطنه ونفسه وقد انتصر عليها، وبعد أن استرخت معدته، اسند رأسه إلى مسند الكرسي، فرك بطنه براحة كفه، تجشأ وتمطط، وظلت يده تقوم بدوريات روتينية في جيبه.

قبل أن تأتيه فاتورة الحساب، طلب كأس شاي، ثم راح يراقب من حوله وكأنه يفتش عن شيء ضائع، وحين لمح رجلاً يدخن، اقترب منه على مهل:

ـ" من فضلك يا خوي.. سيكارة".

قدم له الرجل سيجارة طويلة مع نظرة سريعة خاطفة، فعاد إلى مكانه دون أن يشكره، وأخذ يتأمل السيجارة باهتمام، أشعلها، سحب نفسا، وتحول منخاره إلى " شنجمان" دراجة نارية:" أياباه.. أطيب من الدبس".

كان يشرب شايه على مهل وهو يضع رجلاً فوق رجل، يتلذذ بسيجارته وينفث الدخان بفرح، وحين لاحظ أن الجرسون يريد أن يصطاده بفاتورة الحساب اصطاده هو، نهض واقفا وأشار له، وحين وقف أمامه بدا على وجهه حقد طاغ وقال بقرف:

ـ نعم, ماذا تريد أيضا؟

ـ " جيب طاسة جريعة".

ـ لا يوجد. قالها بغضب وهو لا يدري ماذا يريد.

ـ "جيب صحن شوربة عدس".

عزف الجرسون لحن حظه على وتر مهووس وهو يشعر بأن البوم يحوم فوق رأسه:"العمى يضربك.. يخرب بيتك.. شوربة بعد الشاي؟!

جاء بالشوربة برقم قياسي، وكانت نفسه تعول عويلا حاداً، وعذابه يريد النهاية، وكان "جويسم" لا يزال يتطلع من حوله، ولأنه لم يشته الشوربة، أمسك الملعقة وراح يحرك السائل بهدوء، وحين تأكد من أنه غير مراقب، ترك الملعقة وسمح ليده أن تدخل إلى جيبه وتخرج بسرعة البرق، وبعد لحظات أشار للجرسون بصوت مفعم بالغضب:

ـ" تعال تعال.. تعال يا صرماية تعال".

وثبت عليه نظرات الاستغراب والازدراء، ولم يقترب منه أحد، ربما خوفا من أن يتلوث، لكن الجرسون كان شجاعا، تأفف واقترب منه بوجه مكفهر، وما أن وقف أمامه حتى أشهر في وجهه خنجرا من غضب مصطنع:

ـ " وش هذي هاه؟ وأشار بإصبعه إلى شيء أسود نائم في بحيرة الشوربة.

حملق الجرسون جيداً ثم تراجع مذعوراً:

ـ ما هذا؟!

ـ فارة يا فهيم.. هسع أروح عالمخفر واشتكي عليكم".

استنفرت العيون والأفواه والأيدي، وكاد ينشـب بينهما عراك لولا أن صاحب المطعم جاء مهرولا، وعندما شاهد الفأر بيده وهو يهدد ويتوعد، طلب منه بهدوء ورجاء أن يرافقه إلى خارج المطعم، وفي الخارج ظل كما هو بينما صاحب المطعم يهدئ من روعه:

ـ أرجوك لا ترفع صوتك.. اذهب ولا نريد ثمن الطعام.

انفجرت من حنجرته شتائم للتخويف وهب واقفاً:

ـ أريد تعويضاً.

عندئذ تحول الجرسون إلى ثور وأراد الانقضاض عليه، لكنه كان مربوطاً بأوامر معلمه ولم يستطع إلا أن ينظر إليه باحتقار، أما هو فقد تحول إلى طفل يرتدي ثياب العيد وهو يخرج من المطعم، يلوح بالورقة النقدية الكبيرة، ويبتسم ابتسامة أخفت نصف وجهه.
في ظهيرة اليوم التالي، كان ابن عمه يسير في الشوارع ويبحث بقلق عن شيء يهمه كل الأهمية.

إهداء إلى الأستاذ الكاتب ناصر الريماوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى