الأحد ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم سحر حسن أبو ليل

غريب في المحطة

ريحٌ باردة تبشر بولادة المطر بعد اشهر طويلة من عطش الارض الحزينة، ونسماتها المشاكسة تتلاعب باطراف تنورتي القصيرة، فتارة تطيرها فوق الركبة لتحلق عصافير احلامي معها بعيدا، وتخطف فؤادي كطفلةٍ بريئة لاهية، وتارةً تكون عاقلة وتعيد التنورة الى مكانها الطبيعي فوق سيقانٍ تعبت من المشي في محطات السفر التي لا تنتهي في حياتي المتأرجحة بين الموجود والمنشود، بين عقلي وقلبي المتعاركين كديكين لا يتعبان من الشجار والصياح اليومي، وبين استقبالي لوميض الغرباء في حنايا الروح وفراقي بنبضات تدق كالطبول الغاضبة ساخطةً لوداع كل من احببتهم ورحلوا باكراً..

أقف في محطة الباص الذي نسي موعده على ما يبدو، فقد طال انتظاري، وآه كم اكره الانتظار، فلا يساعدني في كظم غيظي وتحمل بطء سلحفاة الساعة سوى مذياعي الصغير الذي احمله اينما اذهب، فيلقيني في شباك كوكب الشرق، حين تقول:
“أمل حياتي..يا حب غالي ما ينتهيش

يا احلى غنوة سمعها قلبي..

خد عمري كله..بس النهار ده..خليني اعيش”

لينقلني الى عالمٍ يمازج الورد والنور معاً، فأتوه في دروب الفرح، واطقطق برجلي، ادندن معها حنين الروح، لأسير في موكب الاحساس غير منتبهةٍ لنظرات الناس الحشرية المتسائلة من حولي، واستغرابهم لمدى انصياع فتاةٍ في مثل عمري الصغير نسبياً لأوامر الحانٍ يعتبرها البعض قديمة وتستحوذ على اهتمام (الجيل القديم) وحسب، متناسين ان معنى الابداع هو سفر متواصل ونقش في الروح لا يعرف عمراً ابداً!

هبت ريح قوية على حين غرة، فألقت بكتبي ارضاً بكل وقاحة لامتناهية، غير مدركة ان احتضان هذه الكتب هو بمثابة احتضان ام لاولادها وغضبت كما لم اغضب من قبل، وانحنيت قليلاً لانقاذهم، فربت على كتفهم وكفكفت دموعهم، ولم اكد انتهِ من ذلك حتى فاجأتني عيناه بنظرةٍ لم اجدها في أي وجهٍ من قبل، كأنها شموس اذابت ثلوج روحي، فانسابت اشعتها لأنعم بأنهارٍ تنعش دمي وتداعب خفقي بكل رمشةٍ جانية..!

اختفت وجوه البشر من حولي، كما لو انها صارت جثثاً من حولي، او اشباحاً محلقة في طريقٍ غير طريقنا”نحن"!
احتضنتُ ابنائي محاولةً الهروب من نظراته الثاقبة، وقمتُ برفع صوت المذياع قليلاً، فلعل ابحاري بين امواج الموسيقى ينسيني تحديقه بي من رأسي حتى اخمص قدمي..لكن تماساً روحياً اشعل فتيل اللهفة فيَّ، ونزع كل الحواجز من بين ضلوعي، وأنا التي اوصدتُ القلب واحكمت الاغلاق عليه بعد كل ما مررتُ به من لوعةٍ في الحب، فقررت حمله كآلة ٍ تعينني على العيش لا اكثر ولا اقل!

إذن: كيف اواجه هذا الهجوم الآن؟ وكيف استطاع فتح كل ابواب الفؤاد بنظرة واحدة؟ من هذا الغريب..ولمَ اعيره اهتماماً اصلا؟
كيف يستطيع اختراق اسوار مدني وحده من بين عشرات الرجال من حولي؟(او الذين كانوا حولي)؟

غريب..؟ لا..لا انه ليس بغريب..!

إذن من يكون؟ هل اعرفه؟ هل هو احد ابطال احلامي الليلية؟ لا..ربما..لا ادري..

يا الهي ساعدني..من هذا بحق السماء؟؟

هل هو حبيبٌ عشقتُه في حياتي السابقة وقرر العودة لينقذني من براثن الوحدة والغربة في حياتي الحالية؟
لا..لا اعرف..

كدت انفجر لفرط الحيرة، وشارف النبض على الانتحار! حتى اقترب قليلاً ووقف على الرصيف المقابل لمحطة الباص امامي مباشرة ورسم ابتسامةً لطيفة على وجهه الواقع بين لون التراب ونضارة القمح، فأنقذ نبضي واوقد النار في اعصابي!

مرت الدقائق بسرعة، ولم اشعر ان نصف ساعةٍ قد مضت، وربما قد مرت الحافلة من امامي ولم ارها..

..ماذا افعل؟

هل اذهب لأكلمه؟ ماذا سأقول له؟ اني اعرفه؟ هل التقينا من قبل؟ ألن يفزع من جرأتي؟ ألن يضحك ويسخر مني؟
ثم لماذا لا يجرأ هو على محادثتي؟ فتحديداً هنا تكثر تحرشات الشباب بالجميلات وغير الجميلات..
هل سيلقنني درساً في الاخلاق الآن؟ فليأتِ وبعدها يتذكر آداب الطريق والحديث والتعامل..
تباً، انها المرة الاولى في حياتي التي اكره بها كل قوانين الاتيكيت واصول التعامل والتعارف بين الناس..حقاً اني قليلة ادب!
لا..والف لا، لن اذهب اليه، ولن اتحدث معه، من يظن نفسه..هل هو دنجوان عصره لترتمي النساء عند قدميه طالبةً الحب والرضا؟

لن اذهب (ولتنفلق روحه..لا آبه!)

نظرتُ في ساعتي مصرةً على اظهار عدم اكتراثي لوجوده وإذ بي قد تأخرت على موعدي، وحين عزمت على الذهاب مشياً على الاقدام فإذ بالدنيا تمطر، تبرقُ وترعد، فظل يقترب رويدا رويدا حتى وقف امامي تماماً، لا مسافة بيننا سوى بُعد انفاس وقبلة، نظر في عيني، حدق وحدق طويلاً، ولم اعرف ما الذي اعتراني فقد قيدني باجتياحه المفاجئ وقيد كل تحركاتي حتى اني ابتلعت الكلام بلعاً وتجمدت الدماء في عروقي فجأة..
ياااااه..لأول مرة في حياتي اقابل شخصاً واتمنى مباغتته بعناقٍ حار وبكاء فاضح شارحة له كل عذاب سنيني بسبب نظرة لا غير..
وفي خضم كل حيرتي وارتباكي، خلع جاكيته الجلدي،وضعه على كتفي، رسم ابتسامته الساحرة تلك واسرع الى الطرف المقابل للشارع بعد ان بللته الامطار كعصفور صغير، ركب سيارته، ادار المحرك، ظل محدقا بي، لوح بيده وغاب بعيداً..

كان هذا منذ شهرين، الا ان نوبةً جنونية تعتريني في مساء كل يوم جمعة، لأجد نفسي واقفة في المحطة ذاتها، كمدمنة تنتظر وجبة مخدرات ثقيلة، دون ان اعلم ان كنت سأحصل عليها ام لا، لكنني متأكدة اني اعرفه..فعيناه لا تفارقان خيالي ولو للحظة!
ليس بغريب..اقسم اني اعرفه، وحياة مريم العذراء اني اعرفه!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى