السبت ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم محمد إبراهيم العريني

شجن

بينما كانت ظلمة الليل تتلاشي رويدا رويدا، فتنسحب ببطْءٍ من علي وجه البسيطة متقهقرة أمام خيوط الصباح التي كانت تتقدم بثقة كعادتها كل يوم، وبينما كانت النسائم تدخل من شرفات البيت العتيق، وأضواء الصباح تشرق من فتحات الجدران المتفرقة فترسم خرائط الألم علي السطوح، ولكنها تنطبع داخل العين فترسلها عناوين للصبر داخل القلب، كانت (شجن) نائمة علي فراشها البسيط علي الأرض في تلك الدار الصغيرة التي ولدت ونمت فيها حتى أصبحت اليوم في ربيعها السادس. أخذ الضوء يتسلل إليها، ففتحت عينيها الذابلتين وانتفضت قائمة، ثم أسرعت إلي أمها التي كانت لاتزال نائمة وإلي جوارها رضيعها ذو الستة أشهر. ألقت "شجن" نظرة علي الوسادة الخالية إلي جانب أمها وانحدرت دمعتان حارتان علي وجنتيها وهي تتذكر أباها الذي اعتادت أن تراه في هذا المكان قبل أن تقتله رصاصة غدر قبل شهرين أثناء ذهابه إلى عمله في بلدية غزة، اعتصر فؤادها الأسى فانسحبت بصمت من الحجرة.

وقفت (شجن) أمام نافذة البيت تطالع غصن شجرة أمام الدار، واستمعت إلي صوت الطيور الذي ماعاد الآن يسعدها مثلما كان من قبل. فكرت مليا ثم خرجت من البيت مسرعة، وكانت وجهتها إلي المخبز لتحضر الطعام، فهي تعلم أن صحة أمها تسوء يوما بعد الآخر وهي تريد مساعدتها بما تستطيع .

عندما وصلت هناك صدمت لهول ماترى، فقد كان هناك صَفٌّ طويلٌ من البشر أمام الخباز ينتظرون وعيونهم مليئة بالأسف علي حالهم الذي وصلوا إليه. وقفت الصغيرة في آخر الصف وهي تأمل أن تحظى بعناية ربانية وتحصل علي عدد من الأرغفة يسد رمقها وأمها في ذلك اليوم، ولكن انتظارها طال علي هذا الأمل الذي يبدو أنه سرابي.

مرت ساعتان أو أكثر دون جدوى، ولكن فجأة غمرتها الفرحة وتهلل وجهها بابتسامة أمل عندما وقعت عيناها علي (صابر) صديق أبيها القديم، وهو يخرج من الصف وفي يده بضعة أرغفة. أسرعت نحوه لتسائله ببراءة: هل من الممكن أن تشتري لي خمسة أرغفة ياعمي؟ نظر إليها وفي عينيه ألم وأسى لم يفلح في إخفائهما وقال: إن شاء الله يابنيتي سأحاول،ولكن قبل أن يتم كلامه دوى صوت الخباز وهو يقول: نأسف لكم ياإخوان فقد نفد الخبز وليس لدينا دقيق. أنتم تعرفون ظروف الحصار.ابحثوا في مكان آخر.

تضجر الناس وأخذوا يسبون الأحداث التي أدت بهم إلي هذا المصير، ثم انصرفوا يجرون ذيول الحزن. نظر (صابر) إلي الصغيرة، وقال لها: بنيتي إنهم لم يعطوني إلا عشرة أرغفة، وأنا عندي أربعة أبناء، لا حول ولا قوة إلا بالله. نظرت الصغيرة إليه ثم ألقت بعينيها علي الأرض، واستدارت لتنصرف، اعتصر الأسف قلب (صابر) ففكر ثم ناداها: شجن، خذي هذين الرغيفين. مدت يدها على استحياء وأخذت الرغيفين ثم انطلقت نحو البيت.

أثناء سيرها نظرت إلي الشمس التي كانت ساطعة في كبد السماء، كان الحر بدأ يشتد ولكنها علي الرغم من ذلك وقفت تنظر إلي الأفق البعيد وكأنها تخاطبه وتسائله هل يخفي خلفه غيمة ماطرة بعد هذا القيظ؟ وبقت تنتظر الغد انتظار المجدب لِلْمطر.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى