الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم داليا إيهاب يونس

فراشة في غرفتي..

غرفة جدتي سلفًا.. غرفتي خلفًا.. أجلس متربعة على الفراش كعادتي.. متناثرة حولي كتب الأحياء التي تنتظر.. وتأمل في نظرة حانية تطفئ شوق عام كامل من البعد !
أغمض عيني.. أتشمم الهواء..
هذا الهواء منبهر..
منبهر لدخوله حجرة يقارب عمرها القرن.. لم تفتح منذ مدى منسية..
أكاد أرى أسراب النيتروجين التي تتحسس الحوائط برهبة..وتلفحني أنفاس الأوكسوجين المبهورة.. وبخار الماء يحتضن جزيئاته فرحًا بالغزو المجيد للحجرة العتيقة !
قمت وفتحت النافذة الكبيرة أكثر وأكثر.. مرحبة بالقوات الغازيّة الغازيَة.. لعلها تحمل بعض النسائم التي تلطف من جوى الأحياء المقيتة..
أتربع على السرير كعادتي.. ألقي نظرة خاوية على الكتب.. تمتد يدي لتفتح المذياع.. وتعزف أناملي ألحان رقصة تغيير المحطات المجنونة !
وبينما أنا على ذلك.. إذ دخلت فراشة….

" (بالإنجليزية) أنا أؤكد لك يا سيدي أن العرب الآن مجرد (دخلاء) على هذا العالم.."

فراشة غريبة اللون جدًا.. خليط من القمحي.. والأبنوسي.. والأبيض المشوب بحمرة !!

" النظرية قائمة.. المصريون فراعنة وليسوا عربًا"

حوّمت الفراشة في الحجرة بحيرة.. هناك فوق المقعد.. هنالك عند المشجب.. ثم أخيرًا وجدت هدفها المقدس..
الثريا الكريستالية العتيقة !

"(بالإنجليزية) كفى محمد فخرًا أنه أتى بديانة جعلت أتباعها أصحاب أزهر حضارة في التاريخ"

وحول الثريا أخذت تدور.. وتدور..
ثم تدور !
تنشر حولها ألف ظل..
وألف حكاية رمادية..
أسطورية..

" إن نهضة أوروبا لم تقم إلا على يد العرب المسلمين الفاتحين كما يعترف الأوربيون أنفسهم"

ثم بدأ دورانها يسير في درب الجنون.. تتسارع حركات جناحيها حتى صرت أسمعها..
تدور.. ثم تدور..
وتنثر الغبار الذي تراكم على الثريا في كل مكان !

" والمؤسف أنهم أساءوا استغلال أساس الحضارة.. بل ونفروا العالم منه.."

وبعد قليل بدأت حركتها تهدأ.. وخف أزيز الجناحين.. وصوت ارتطام الجسد الفراشيّ بزجاج الثريا.. وأخذت تبتعد شيئًا فشيئًا عن الثريا..
وتسبح هائمة في الأسفل..
حيث أشعات الثريا قِلال..

"واعتصموا بحبل الله جميعًا.. ولا تفرقوا.. واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنت أعداء فألف بين قلوبكم..فأصبحتم بنعمته إخوانًا.. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها.."

وأخذت الفراشة تترنح ما بين أرجل الطاولة.. والأحذية.. وسفح البيانو.. حتى هبطت على الأرض بجانب السرير حيث أجلس.. وسكنت حركتها تمامًا..

" أقول.. لا أمل"

نظرت لها.. الشرود في عيني يحمل ألف معنى..
وخمسمائة رثاء فقط !
ثم فجأة.. تحركت فقامت الفراشة !

"قومي من تحت الردم.. كزهرة روز في نيسان.. قومي من حزنك قومي.. إن الثورة تولد من رحم الأحزان"

وطارت الفراشة.. ببطء.. بوهن..
ولكن للأسف.. طارت –الحمقاء- بعيدًا عن الثريا المضيئة فوق.. بل حول مصباح بلاستيك رخيص على الطاولة !

" نحن فقدنا الهدف يا سيدتي.. أو بالأحرى.. اختلط علينا الهدف"
* * *
وكأنها وجدت فيه مبتغاها وضالتها ! أخذت تدور حوله في فرحة.. وتقترب منه شيئًا فشيئًا.. حتى كادت تلامسه..

" لا تسيء فهمي أيها الفاضل.. أنا لا أنادي بمنع الماء الغربي.. أنا أنادي بوجوب مروره على مصفاة أولاً !"

ولامسته !!

" ماذا تسمي حماس الناس للقيام بعملية تجسس جماعي على حياة بضعة شباب وفتيات طوال الـ24 ساعة دون توقف ؟! تبًا لمن أخذوا من الإعلام الغربي رذيلَه"

وشممت رائحة احتراق خفيفة.. ولولا سرعة ابتعاد الفراشة لكانت رائحة تفحم !
ومرة أخرى.. هبطت الفراشة على الأرض..
وهذه المرة طال تأملي لسكونها..

"يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.."

أغلقت المذياع بعصبية.. ورميت كتب الأحياء بعيدًا.. وأطفأت الأنوار.. وأغلقت باب الغرفة والنافذة..
ونمت ودمعة غاضبة أبية على خدي !

استيقظت في الصباح التالي.. تذكرت الأحياء التي لم أذاكرها.. ونظرت للكتب في حسرة.. ثم تذكرت الفراشة ونظرت لها فـ..
ولكنها لم تكن هناك !!

مشطت الأرض بعيني.. وأشعل فشلي في العثور عليها جذوة صغيرة من الفضول بداخلي دفعتني للبحث عنها في الحجرة المغلقة كلها.. ثم زاد فضولي اشتعالاً حين لم أجدها.. وخرجت أنادي أمي سائلة إياها عن جثة فراشة مكنوسة اليوم صباحًا ! وكانت النتيجة سلبًا.. لم تدخل أمي غرفتي من الأساس..

نظرت للثريا في حيرة.. أين ذهبت أمتُك ؟! هل اندثرت تمامًا وتحولت لغبار مماثل لغبار الحجرة ؟! هل قامت وطارت من حيث لا أدري وإلى حيث لا أدري ؟! هل هي مختبئة في مكان ما وتنتظر الوقت المناسب للخروج ؟!
تنهدت..
جاءت الفراشة.. راحت الفراشة..
وما بقى لي إلا كتب الأحياء !


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى