الاثنين ٤ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم عزيز العرباوي

الحياة رخيصة

في هذا اليوم، كان الجو مشمسا إلى درجة أن النساء قررن التخلي عن أغلب ملابسهن، هناك نية أخرى لديهن غير أشعة الشمس المحرقة جعلتهن ينبذن ملابسهن الكثيرة. في الحقيقة إنهن يعطين للحياة جمالا تفتقده في كل الأماكن والأزمان. لذلك أحبذ أن أرى هذه اللوحات الجميلة التي ترسمها أجساد متناسقة كأنها صنعت في معامل خاصة، النساء عنوان الجمال والحياة والسعادة، لذلك أرى أن الحياة بدونهن لا تعني شيئا في قاموس الرجال، وحتى الموت لا يعني شيءا عند غيابهن...

هناك شيء غامض يجذبني إلى هذا الشارع كلما قررت التجول في شوارع المدينة. شارع محمد السادس الذي أخذ اسمه بقرار من السلطة من اسم شارع الجامعة العربية سابقا. لا أعرف سبب تغيير هذا الاسم، ربما كان إعلانا عن مجيء العهد الجديد، أو ربما لأن اسم الجامعة العربية لم يعد ينفع في شيء، ولا يغري السياح الأجانب وحتى المغاربة على ارتياد مدينة" الجديدة" بعدما تيقن الجميع أن هذه المنظمة العربية لا تساوي حتى ثمن الحبر الذي يكتب به شعارها...

من المتوقع وأنت تمر عبر هذا الشارع ستجد كل ما تحب أن تراه عيناك، كل متناقضات الحياة الممكنة وغير الممكنة، خلاصة القول هذا مكان متنوع لإغراءات خاصة بعد غروب الشمس. إدارات مترامية على يمين ويسارالشارع كأنها في علاقة توادد ومناقشة، محلات تجارية كبرى، مقاه واحدة بجانب أخرى كأنها في منافسة شرسة...اكتظاظ في كل شيء، نساء جميلات وأخريات لا يعرف الجمال إليهن طريقا، لكن ورغم هذا فكل الأصناف مطلوبة في دنيا الجنس مادامت العشرة والصحبة لساعات أو لليلة ثم الفراق ونسيان ما جرى..

الشمس مازالت لم تغرب بعد، أظن أنها لا تريد أن تأفل، أو لا تستطيع ذلك هي الأخرى، فالمدينة تغري بالبقاء فيها والعيش في كنفها، الشمس هي الأخرى مثلي، تحس بي مثلما أحس بها، فنحن غريبان عن هذه المدينة، فهي لا تكاد تقضي يومها في مهمتها بين شوارعها ثم تغيب لنصف يوم كامل لتعود من جديد بعد ذلك، وكأنها عامل حقير في معامل اليوم. وأنا مثلها لم يفت على وجودي بها سوى بضع سنين لا تصل عدد أصابع اليد.

غمرني الانتشاء من كثرة التجوال وأنا أمتع بصري بين أجساد لو قدرت لها الموارد الكافية لأغوت رجال العالم العظام وحتى الضعفاء، وكان قد بلغني حد يمكن معه أن أرتكب خطيئة أو إثما صغيرا بحكم أننا في عصر الحداثة والتطور، لأن الكبيرة في زماننا هذا صارت أكثر من الصغائر في عالم القدامى. لذلك كنت مهيأ لأسقط في حضن الغواية بمجرد أن تجذبني التفاتة أو بسمة أو غمزة طائشة، ولذلك السبب كنت أجدني كلما خطفت نظرة كا إلا وأتبعها بالتعوذ ونكران الذات،وأسعى جاهدا لأطأطأ رأسي الصغير بين رجلي مخافة الاصطدام بشيء سهل الغواية. وحتى الكلمات التي كنت أتعوذ بها كانت تخرج بطيئة وكأنها في حرب ضروس معي فأهزمها بقليل من الحيلة التي أتمتع بها موضحا لها بأنني شخص فوق الشبهات وبأن أخلاقي ومكانتي داخل المجتمع وما أصبو إليه في المستقبل، لا تسمح لي كل هذه الأشياء بأن أسقط أو أزل أو يزل بي...

غير أنني كنت في دواخلي ألعن هذه الترهات التي تفرض على المرء أن يحرم نفسه من كل هذا الجمال المحيط به. كنت أحس أنني الوحيد في هذا المكان الذي لا يتسع لمثل من يتبنى هذه المواقف. لذلك تابعت خطاي لا ألوي على شيء مثل رمعتوه وسط عقلاء.

كانت مقهى الباشا كعادتها قد امتلأت عن آخرها بالفتيات، يدخلن أفواجا ويخرجن واحدة واحدة مصحوبات بعريس اللحظة، والضحكات الصاخبة تتردد في وسطها، وأصوات الرجال المتناقشين وقرقعة الكؤوس والأطباق والفناجين، وبخار ماكينة القهوة يتماوج في فضائها مزهوا بالذي هو فيه، ودخان الشيشا يلعب لعبة الطائرة الورقية في سماء الجو الداخلي للمقهى كأنه طفل في صباه. في اللحظة التي بلغت أمام بابها خرجت امرأتان في متوسط العمر. كانتا تضحكان وتتنابزان فيما بينهما كأنهما شابتان في سن المراهقة، بدا أنهما تتجهان نحو سيارة فخمة جميلة وأدارت إحداهما المفتاح الأوتوماتيكي بسلاسة أنثوية، ثم أعقبها صوت انبعث من السيارة مثل موسيقى شرقية من ألحان اليوم،لسوف يكون من الأولى أن توصفا بأنهما عاهرتان من الطراز الأول فحالتهما وهيأتهما تظهر ذلك بامتياز مقارنة بالقول إنهما حريفتان، فجأة حضرت وردة الحمقاء.

ليس معنى هذا أن وردة ستفعل شيئا مشينا لا سمح الله، كما أنها بالعكس، ابتسمت لهما واقتربت منهما اقتراب الطفل من والديه، وكل ما حدث في النهاية هو أن وردة ركبت السيارة بزهو وعلامات السعادة تغمر محياها كأنها في حلم. وبدا وجهها أبيض مجردا من أي قبح.

لمأفهم، بالطبع، هذا الوضع حق الفهم، وافترضت أن الأمر قد يفسر على أن الوساخة والقذارة تعرف نفسها أينما رحلت وارتحلت، كنت أعرف أنني جد قاس في هذا الحكم. لذلك حاولت أن أبرر على أنني رجل شرقي عروبي لا يفهم الوقائع إلا أثناء حصولها دون محاولة البحث في مسبباتها. ومررت بكشك لبيع الجرائد قصدا مني لمتابعة بقية المسرحية كنت أشعر بأن صاحب الكشك لا يحتمل رذالتي ووقوفي أمام شباك الجرائد أتصفح الأوراق وأقلب الصفحات كأنها من بقية ملك أبي، لم يكن هناك شك في أنه كان يفكر هكذا، بل يبصق علي وعلى حالتي التي بدت تظهر علي وأنا أتابع وردة وهي تغازل مكونات السيارة وأجهزتها الداخلية، توجهت المرأتان إلى الكشك بدورهما وابتاعتا علبتي سجائر من النوع الرفيع وعيناهما تتوجهان إلي مثل سهمين مسمومين،حتى غمرني حياء طفولي دفعني لأغرس عيني في الأرض.
كانتا في غمار تحديقهما لي قد تركتا أثرا سلبيا يتوغل في داخلي. وعلى ذلك كنت أتمنى في نفسي أن يصحب تحديقهما شيء آخر، لم أحدد صفته أثناءها، ربما كنت أفكر في ابتسامة أو كلمة إعجاب لأحس على الأقل بأن هناك امرأة قد أعجبت بي وأحبتني.

شرعت في المغادرة ضائعا في أفكاري وأحاسيسي. وقبل أن أبتعد عن المشهد الذي أفقدني الكثير، سمعت حديثا أقرب إلى السخرية منه إلى الكوميديا التي صنعتها إحدى المرأتين وهي تخاطب وردة الحمقاء:

 وردة، انزلي من السيارة، هل أعجبتك؟

 آه!جميلة، أيمكنك أن تمنحيني إياها؟

أويلي!، أتظنين أنها لعبة، لقد خسرت عليها لحمي وشبابي وحياتي كلها...حمقاء..!

ما الذي تقوله هذه العاهرة؟ أيمكن مساواة سيارة بحياة إنسان بأكملها؟ كم رخصت الحياة بأعين البعض! ما هذه الدنيا التي نعيشها يا ناس؟!
استبد الحنق بي، وأوشكت أن أكفر أو ألعن الحياة وما فيها، فكرت يوما أنني سأصاب بالحمق إن فكرت أن أمتلك سيارة فخمة مثل هذه إن بعت حياتي بأكملها...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى