الجمعة ١ أيار (مايو) ٢٠٠٩
شرفات بحر الشمال
بقلم مَحمد بلوافي

قراءة في غلاف الرواية

لم يعد الكتاب اليوم، تلك الغرافية التي تلامس البصر، فتوحي إليه بشتى المقاصد والمعاني، بل تجاوز الأمر فيه، إلى مظاهر الإنتاج وصور الإخراج بالنظر إلى الحجم، وتلمس نوعية الورق، إلى جانب التقنيات الموظفة في تنظيم الصفحة، كالخط، الرسم، الألوان، الصور والكلمات الافتتاحية للفصول، وما إلى غيرها من الإشارات الدالة، وهذه المظاهر تحكمها قصدية المؤلف أو المنتج، لكنها عموماً تبقي لازمة من لوازم التسويق الثقافي.

وقد حاولت أن أسعى إلى استغلالها واستثمارها في فهم الدلالات الخطابية، فهي تشكل محيطاً فنياً، لا يقل أهمية عن المتن السردي، في إبراز البعد الدلالي للنسق الأدبي، إذ يبدو من الصعب أن يقوم، أو أن يقدم المتن وحده عاريا من هذه العتبات النصية، فهي تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والإبلاغية، قيمة المتن نفسه. "ولعل ولوج النص قد يكون مشروط بالمرور عليها، لكي يستدلْ بها في رحلة القارئ عبر المتن الحكائي، عن طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات؛ والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقات".

وأثناء دراستي للعلامات المتواجدة بهذا العمل الفني، ألفيت دلالتها، قد تتضح بصورتين اثنتين:"
1)- صورة رمزية عميقة: حيث أن لكل شيء خلفيته المجازية، التي تحمل مدلولاً واحد خاصاً على الأقل.

2)- صورة تصنيفية سطحية: حيث تصطنع الذات عن وعي أو عن غير وعي، تصنيفاً معيناً للأشياء يفرضه المجتمع".

مع الإشارة أنه يتوجب علينا عند دراسة معاني الأشياء بصفة عامة، أن نخضعها إلى التفكيك والتدقيق حتى تتسنى لنا(بنيتها) دلالتها، لأن هناك عدة عوائق قد تعرض الدراسة، من بينها عائق البداهة. وعليه ومن أجل الوصول إلى صورة أدق وأوضح، بل أكثر دلالة وإيحاء، من أجل مدارستها.

. عتبـــات النـــص:
البداية تكون مع صورة الغلاف، والصورة كما جرت العادة، يمكن أن نفهم من خلالها، الدلالة الحقيقية والمجازية في آن واحد، فهي الشكل البصري المتيقنّ، كما أنها تعتبر الشكل الذهني المتخيل، الذي تثيره العبارات اللغوية، فصار ضرورياً أن نميز بين الأنواع المختلفة للصورة، في علاقاتها بالواقع الخارجي. وعليه فسأحاول مقاربة صورة الغلاف المؤنثة بثلاث علامات هي: اللوحة التشكيلية، اسم المؤلف، والعنوان، وجميعها ترتبط مع المتن الحكائي بعلاقات تحقق نوعا من الاستباق، وتتغيّا تمهيداً أو تصريفاً لإيحاء رمزي.

 ويليها العنوان، إذ لا نكاد نجد كتاب من دون عنوان، فهو الأثر الذي يتعرف به إلى مضمونه، والظاهر الذي يستدل به على باطنه.

  أما اللون؛ فهو علامة بصرية، لها مكانتها في تكثيف دلالة النص المعروض، بما تثيره في نفسية المتلقي، وزيادة درجة إقباله على المبصرات، لذلك يجب التركيز على أبعاد اللون، ودرجات استخدامه، وتقنية تدرجاته، وتناسب تجاورات الألوان، مما يضفي عليها إثارة وجدانية، تكون الذاكرة قد اختزنتها لهذه الألوان، هذا إلى جانب الأبعاد الرمزية والدلالية لهذه الألوان.

وسأحاول أن أقدم في كل عرض عنصراً واحداً في سلسلة متتابعة تدرس خبايا وخفايا هذه الرواية الجديدة.

  الغــــلاف:

" إن من شروط تصميم الغلاف الفعال، أن يكون قادراً على جذب الانتباه وإثارة الاهتمام، ولتحقيق هذه الغاية، فإنه يتطلب خاصيتي التناسب والمرونة البصرية، لتحقيق أفضل تمركز بصري ممكن، من شأنه أن يساعد على التحكم في حركة العين، التي تنجذب نحو الأشياء ذات الأحجام الكبيرة، والأشكال البارزة والصور المحفزة والألوان المثيرة".

وقد تتجسد فكرة النص من خلال العنوان الرئيسي أو الفرعي، وبالإشارات اللغوية الدالة لجنس الكتابة (رواية، قصة، دراسة.....)، وكذا من خلال سيميائية اسم المؤلف لما يمثله من حمولة فكرية ومعرفية،........الخ

ويبقي استخدام العلامة غير اللغوية (صور، رسوم، رموز....)، فعال ومحفز، ومن شأنه أن يحقق هذه الغاية أيضا، وعلى هذا الأساس تتجلي أبعاد هذا التواصل، مع هذا العمل الروائي.

" الغلاف هو عنوان الرسالة وليس قبراً بارداً، داخله ورقة أو مجموعة أوراق بالحروف المرتبكة وحرائق الشوق، الغلاف هو اللغويات الأولى......".

بهذه الفقرة، ينفتح لنا عالم " شرفات بحر الشمال"، ليساعد القارئ كي يخطو أولى الخطوات نحو عالم النص، ومن هنا كانت هذه الفقرة بمثابة بوابة العبور، التي تمنح القارئ فتنة اكتشاف الكتاب وأغواره، فالغلاف يفتن متلقيه، بالمعني الذي ينساق وراءه.

وذلك ما يغريني للقول: أن تصميم الغلاف قي "شرفات بحر الشمال"، يعبر عن تشكيل تجريدي، لمنظر واقعي، قد تكون له علاقة مباشرة بالمضمون الروائي، وقد لا تكون إلا أنه يمتلك قدرة ملموسة وواضحة في اجتذاب وافتنان القارئ.

وأولى معطيات صورة هذا الغلاف، في طبعته الأولى، أنه يتشكل من لوحة تشكيلية أبدعتها يد الفنان؛ وهي تمثل نصاً بصرياً، تتداخل عبره العلامات الكاليغرافية، والألوان المتراكبة - والصورة تحيل على موضوعات قابلة لأن يتعرف عليها، فهي بمثابة لغة ثانية؛ دالة وبشكل كثيف. لكن باعتبارها كماهية بصرية، تستدعي اقترانها برسالة لسانية تعضد دلالتها، وإن كان عبد الفتاح كليطو يرى؛ "أن الصورة من شأنها أن تضيف شيئا إلى النص"، فأن رؤيتي لها، تذهب إلى كونها اختزال للنص، في دلالات مكثفة. إذن هي لوحة تشكيلية تضم بداخلها خمس سفن، تبدو تائهة وسط المحيط؛ منها اثنتان شراعيتان، وواحدة بخارية، والبقية تبدو بصورة(وهمية) غير واضحة.

وهذه اللوحة، ما هي إلا تصوير لواقع ما، أو هي تضمين رمزي له، ولعل هذه الصورة في بعدها الانثروبولوجي، قد جسدت على مستوى الظاهر، ذاك التحول التكنولوجي والفكري الذي عرفته البشرية، والفرق الواضح، بين معطيات الفكر القديم والجديد؛ أي أنها تشير إلى تطور فكر الإنسان، وتكيفه مع الطبيعة والبيئة والوسط، من أجل البناء والراحة، تجاوزاً لواقع الصراع والتدمير، بارتقائه في مدينته، وحياته الاجتماعية، وظروفه المادية، بينما ينبثق الفزع والخوف والاضطراب من حيز الخواء أو الفراغ المجسد للغموض والمجهول، وقد جاء المنظر بألوان ضبابية، تعين وتساعد على تجسيد الفكرة؛ أي حالة القلق، لأجل ذلك بدا الوسط وكأنه عالم للخوف أو موطن للرعب.

لكن السؤال الذي أطرحه حول نفسي وسأحاول الإجابة عنه، ما هي العلاقة بين الصورة المستعملة أو المشكلة في الغلاف والمضمون الحكائي؟

فعلى الرغم من كل الدلالات السطحية، التي قد يدركها القارئ أو الناظر من أول وهلة، من عنف وقتال أو تياهان وضياع، يبقي الأكيد أن الصورة لم ترد إلا لتكون مؤشراً دالاً على مضمون النص، وليس عبثا. وهو ما يناظر أحد مقاطع السرد في الرواية، الذي يؤشر على تلك اللحظة الهاربة؛ " وبقينا نحن سفنا ضائعة بين تلاطمات الموج المجنون، لا مرفئ لها ".

فمن خلال هذا النص، يتضح بأن العنوان؛ تجسيد لصورة الغلاف داخل الحكي، أو بالأصح؛ ما الصورة إلا ترجمة له، وللحالة النفسية والاجتماعية التي تعيشها الشخصية في واقعها الاجتماعية.

والنص في حد ذاته يعتبر متاهة، فهو مزيج من الصراعات الإيديولوجية، الثقافية والاجتماعية والنفسية؛ صراع من أجل البقاء والاستمرار في الحياة، والبحث عن الذات، وعن واقع أفضل للنفس البشرية.

يشير الخطاب البصري، إلى أن الخائض في سراديب هذا المجتمع، وعاداته وأفكاره السلبية التي تسيره، والأوضاع التي شهدتها البلاد، من عنف وقتل وصراع وضياع للمستقبل الواعد، باتجاه نحو المجهول، كمن هو واقع بين جمع من السفن، متلاطمة ومتنازعة في عرض بحر عميق، وقد أضاعت طريقها؛ فهي تائهة. فهو موقف محرج ومقلق، وغير مرغوب فيه. كما يمكن أن يكون ممثلاً لمفترق الطرق، في اختيار بين الركب نحو التطور والحياة؛ (تتمثل في مدن الشمال وتطورها وعاداتها) وبين خمول وبقاء في الحضيض مع القديم، وسير نحو المجهول أو الموت(ويتمثل في أرض الوطن، وما يحكمها من عادات وتعامل سلبي بين أفرادها)، وتبقي صورتي السفينتين غير المتضحتين؛ ترمزان للأمل المشرق المرجو، الذي يتأمله الشخص من اجل النجاة والخلاص، لكنه يبقي غامضاً وغير واضح وقد يكون مثله مثل سابقه.

بالإضافة إلى كل هذا أجد عنصر الماء حاضراً في صورة الغلاف على صورتين:

1)- كعلامة دالة؛ (البحر) كصورة. والذي له علاقة وطيدة ومباشرة مع مدينتي الأطياف؛ المشكلة على ساحل البحر، ومدينة أمستردام؛ المدينة القابعة فوق الماء بشكل كلي، المدينة التي تمثل الهاجس الذي يراوده منذ الصغر، فضلا عن كونها ترمز بالنسبة له إلى الحياة،

2)- كلمة دالة في العنوان؛ كلفظ لغوي.

ويعود هذا الاهتمام الكبير، الذي أولاه إياه المؤلف- كما يتضح من خلال تواجده المثير بالنص- لما يحمله من دلالة في صنع فكرة النص، ومساهمته الفعالة في بناء النسيج العام للنص الحكائي، فهو يجسد فكرة الحياة مقابل الموت.

 إضافة إلى احتوائه على لفظة " LIBRE poche "، على كل جوانب الكتاب، وذاك في سياق يتبنى التقليد، باستغلاله للتشابه اللفظي، من أجل التسويق والإشهار، في ظل الموجة المكتسحة للكتب الجيب "Livre de poche "، لدى القراء في تلك الفترة في أوروبا، هذا مع العلم أن الكتاب أو الرواية كانت في حجم صغير بمقاس "17.5/11 سم، وذلك من أجل تسهيل عملية القراءة في كل الأوضاع.

 [1]


[1سعيد يقطن. تحليل الخطاب الروائي، من السرد إلى اليبئير – مركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط2، 2001، ص114.

R. Barthes. L’aventur Sémiologique. Paris. Ed. Seuil. 1985. pp 253.254

قحطان بدر المبدلي. الترويج لإعلان. مؤسسة ووهران للنشر والتوزيع. ط1. 1998.
الرواية، ص215

ينظر عبد الفتاح كليطو، "الغائب" دراسة في مقامة الحريري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، دط، 1987

شرفات بحر الشمال، ص 24.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى