الثلاثاء ١٩ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم عمر حمَّش

مصطفى الحمدني اللؤلؤة المغادرة

كان يجاورني في سواد الليلِ!

عندما كان لا شيء سوى الصمت، وهدير عرباتهم العسكرية تأتينا من قريبٍ، تقطع علينا مهمتنا الباسلة!

في تلك الليلة، كان أول من اخترع مقلاع العلم، ذاك الحبل المثلث، لينسدلَ من بعدها، وفي طرفه أوثق الراحلُ الحجر!

في تلك الليلة كنا قد قررنا تعليقه على أعالي أسلاك كهرباء الضغط العالي، في شارع (الترنس) الذي كان شارعا رئيسا في مخيم جباليا، والعلم كان غريبا يومها، ممنوعا، ورؤيته كانت تعني لهم - إن ارتفع - نهاية دولتهم المدججة بالسلاح!
وأصرّ مصطفى الحمدني أن يكون العلم قبالة ثكنتهم في أعالي شارع (الترنس)!
كان يقذفه؛ فيترنح إلينا العلمُ عائدا، ومع كلّ محاولة كانت أضواء العربات العسكرية تفاجئنا بالمجيء!

كنا نلتقط العلم، ونختفي في زاوية هي اليوم مطعمٌ يرتاده سكان المخيم، ويعود الراحلُ مُصرّا بالعلم، وأعودُ معه للمحاولة، كانت الأسلاك بعيدة تناطحُ الفضاء، وكان علينا أن نعاجل، وأن نحاول مراتٍ ومرات قبل أن تكتشفنا الأضواء، ولن أنسى – بعد عودتنا - بهجة محياه وهو يبتسم لانسدال العلم، الذي تركناه يغيظهم، ويرفرف فوق المخيم، قبالة ثكنتهم للمرة الأولى!

كان ليلتها علم فلسطين كبيرا، جميلا، بهيّا،علقته أياد نظيفة بلا أوامر من ضابطٍ، ولا برغبةٍ في راتبٍ، ولا بوعدٍ في وظيفة!!

تلك كانت إحدى صور الراحل مصطفى الحمدني ابن حزب الشعب الفلسطيني، وأحد مؤسسيه البواسل في قطاع غزة!

وكم تأتيني صورته- وأنا كنت أهرول خلف نعشه - وهو يخطط ألف مرة للانفجار الموعود قبل حدوثه، ويتمناه!

حين كنا نعلق العلم في أول الثمانينات كنا نبعد عن زمن الانتفاضة الآتي فيما بعد بسنوات، لكنا كنا نعرف أن الانتفاضة آتية، وأنها إستراتيجية الشعب الحقيقية والمثمرة!

كان وجه مصطفى الحمدني يعبسُ؛ ليعود يبتسم، كان رائعا، وملهما، وفاتنا، ومثقفا كبيرا، في زمن شحّ – أيامها - بالمهتمين والمبادرين، كان بيته قلعة حزبية، وأسرته خلية نحل على الدوام، فمِن احتواء اجتماعات الرفاق، إلى توزيع حِصص المنشورات عليهم، إلى صناعة الإعلام المحارب والذي يكشف عورة الاحتلال!

وهل ينسى مخيم جباليا فيلم ( غيتو غزة ) الذي أخرجه الراحل مع زوجته المناضلة؟ بل وأشرك أسرته جميعها فيه تمثيلا وتأليفا وتوزيعا!

وهل ينسى الناس في المخيم كيف قاد الراحل مظاهرات الانتفاضة الأولى بوجهه عاريا دون وجلٍ من سطوة الاحتلال وقمعه، ليدخل سجونه مرات ومرات!
هل ننسى تأليفه لمجموعات العمل التطوعيّ الأولى في شمال غزة؟ لتنتشر من بعدها بوعيّ جميلٍ زمن الاحتلال!

أم سننسى نضاله الدءوب من أجل مجتمعٍ حرٍّ ديمقراطي منافس لمجتمع العدوّ البغيض؟

كان نظيفا يدا،ً ولسانا، وتاريخا، كان مدافعا صُلبا عن حقوق الإنسان، والمرأة والطفل، يدعو لدفع الواجبات، ولأخذ الحقوق في عهد السلطة العتيدة، محاربا للفساد، وللرشوة، وللمحسوبية!

لقد غادرتنا يا رفيق أبا عبد الله، لكنّ المجد يعلق بأهدابك، وذكراك أبدا لن تغادرنا!

يا لؤلؤة غادرتنا جسدا، وتمكنت منا فكرا ووعيّا وممارسة!

لك المجدّ ولنا السلوان!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى