الثلاثاء ١٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم الفارس الذهبي

الطوفان

الشمس مشرقة في الشتاء ...

أغلق سلطان باب المنزل وبسرعة تخيل نفسه يطير فوق الأرض من شدة فرحه
هرول راكضا كالضبع بعيدا عن البيوت الطينية القليلة المتجمعة كقرية صغيرة
في أحد أطراف الغوطة , عبر بسرعة من أمام إسماعيل الذي كان يضع خلسة المازوت في أصل إحدى أشجار الحور ليوسع رقعة أرضه ... لم يريا بعضهما ....!!

انعطف بسرعة أيضا نحو آخر جسر على نهر بردى قبل أن يذهب نحو بحيرته ليلملم نفسه ضعيفا هناك ....... انعطفت بسرعة معه أصوات أوتار العود التي اعتاد على استرجاعها منذ طفولته كلما أحس ّ بالفرح ......

نظر بمتعة نحو الماء القليل المتدفق .. أسود اللون مثل الطحالب السوداء
المنسابة كخصلات شعر أمه بعد خروجها من الحمام .

كانت الشمس تدفئّ وجهه الأبيض وتزيد من شقرة شعره فيما عيناه
الزرقاوان اتسعتا بذكاء عندما رأى بضعة ضفادع أسفل الجسر .... هرول نزولا إليها ...

غطست قدماه في الماء .. حاول إمساك الضفادع التي قفزت في وجهه ..
شتمها بحقد .. قذفها بقليل من الأحجار .. لم يصبها .. فكر في أن يسبح
لكن الجو بارد .
كانت الشمس ممتعة دافئة والهواء حادا .. وقارسا .
جلس على الأرض الطينية ..... المشبعة بالمياه .. استل عود خشب وبدأ يحفر في الأرض ,
دون سبب يفكر في أخيه الكبير الذي لم يدعه يخرج من المنزل منذ ثلاثة أشهر .. وكيف أخبرته إ بنته الصغيرة بأنّ أباها حذرها من اللعب معه لأنه مختل عقليا .

انتفض مذعورا على قدميه حينما سمع صوت أحدهم يتقدم .. حاول الركض والاختباء ..

لكن وجه شيماء المتهدج من البكاء هدأّه وجعله يبقى ثابتا .. تقدمت شيماء .. أمسكت يده
:.. ..... كيف حالك .... سلطان ؟

لم يردّ .. ابتسم .. وكأصدقاء مرّ عبرهما العمر أجلسته على حافة البحيرة وبدأت تنشج بصمت وحيدة بينما أحسّ هو بجلل الخطب .......
نظر إليها ببلاهة لم يتقصدها ..... فتوقفت عن البكاء ثم نظرت إليه
وأمسكت يده ثانية

.. أشاحت وجهها ....... ثم عادت إليه .. بقلق .. وحزم

: لقد فقدت عذريّتي البارحة ...... كان ردّ فعل شديد .......

إلتمع بريق غروب أحمر في عينيها

: كان الأمر سيئا جدا ...أو .....كان جيدا ... لكنه ذهب .. دون أ ن يخبرني

.....! قالت ثم ....نهضت ...وانصرفت بعيدا وهي تتمتم .. : كان عليّ ذلك .... ! مبتسمة بحزن ..!

لم يفهم سلطان شيئا ... أو لعله ظنها فقدت شيئا سرقه منها أحد .. لكنه
ظل لساعات يفكر فيما قالته شيماء إحدى بنات جيرانه في الحي .. يردده
وحيدا وبصوت خفيض إجلالا لدمعها ..
بخوف
تابع سيره باتجاه الشارع العام بعيدا عن البلدة فيما ازدادت أوتار العود
عذوبة ونغما كانت أمه تسمعه إياه في الطفولة قبل أن ينام ..... وراحت
الأم وبقيت تعويذة الاسترخاء تعزف لوحدها استرحاما لهواجسه .

اقترب متعثرا بمشية الضبع خاصته وبحذر شديد وبعد تركيز طويل قفز الى

الحافلة المتجهة نحو دمشق ....

نظر الجميع إليه فيما سحبته سيدة بشعر أبيض ناصع من يده .. لم ينظر
إلى وجهها أبدا نظر إلى شعرها يريد أن يعرف لما كان لونه كذلك .. لم
يسعفه عقله أبدا .... ظنها تلعب .

ابتسمت وأجلسته على الكرسي المحاذي للشباك .

جلس مغتبطا وهلال أصفر ارتسم على وجه سعادته آنذاك .... نظر من

الشباك .... كان الباص لا يتحرك أبدا .... تعجب من ذلك .... كانت الحقول والأشجار تندفع إلى الخلف بسرعة .... البشر أيضا .... سيارات صغيرة أيضا ترجع إلى الوراء بسرعة والناس في الباص يهتزون ويمسكون ببعضهم ....

ضحك بطفولة وسعادة , فتح الشباك فدخلت رياح باردة أقلقت جميع
الركاب الذين تذمروا من شدة البرد بينما انتثر شعره خصالا ملتصقة ببعضها .
نظرت السيدة بيضاء الشعر إلى قدميه الموحلتين بينما مدّ ذراعه
إلى الهواء وسرعان ما قذفتها قوة ما إلى الخلف وكأن الريح تصافحه أو

تدفعه إلى الوراء لترجعه إلى منزله ....

.... ذعر ....أدخل يده .... أغلق الشباك بسرعة وبدأ ينظر إلى الجميع ....

بدأ ينظر إلى الجميع وكلما التقت عيناه بعيني أي شخص فضّ اللقاء

بسرعة , نظر إلى الشباك مجددا فوجده مغبرا ....مد إصبعه ومسح

الشباك فظهر خط واضح في أثر إصبعه

نظر إلى إصبعه فوجده مبتلاً بقليل من الرطوبة .... تدفق الدم إلى رأسه

فرحاً فبدأ يرسم خطوطاً وأشكالاً .

اهتز الباص بعنف وصرخ أحدهم في الأمام , نزل الجميع ...... وقف بخوف لا يدري ماذا يفعل

.... نظر إليهم .... نزل وراءهم .... وحيداً في الشارع .... وحيداً ....

آلاف البشر يصطدمون به دون أن ينظروا إليه .... يعبرونه .... يتجاوزونه .. يتدافعون

رؤوس . رؤوس . رؤوس....

نهر البشر المتدفق أمامه جرفه إلى الأمام أصبحت نغمات وتر العود أكثر اضطراباً ....

لا يدري إلى أين تسيره جحافل الضاحكين والبائعين والشارين والباكين ....
النساء والرجال

الأسرار المختبئة خلف ثيابهم .... قصص .... آلاف منها تسير على أرجل لا

تعرف لماذا أو إلى أين .... لكنه اختار زقاقاً صغيراً وأفلت منه خارج سوق

الحميدية كما كان بعض من المخيفين يصرخون منادين.

وفجأة لمحهم كانوا يشبهون أولئك الأوغاد الذئاب في قريته .... تقدموا إليه

وكأنهم عثروا على كنز أو حمل أعرج .... انفرد أ قصرهم طولاً به مقلداً

حركات لم يفهمها وكأنه دجاجة أو بطة يلوي وجهه ويصدر صوتاً ممطوطاً

بشعاً من فمه لكن نغمات متشتتة غريبة عادت وتجمعت بنشاز مزعج في

رأس سلطان الذي بدأ يلوي رأسه بغرابة .

كان القصير يثير ضحكه بشدة لكنه وبحكم العادة حينما كان جيرانه ينهرونهم في القرية

أحس بالخوف منهم , فلم يفعلون ذلك به .... ولم ينهرهم الآخرون عن ذلك لا بد من وجود خطأ ما .

هرول بساقيه الضعيفتين مسترجعاً لحناً لعود يسمعه , يريح توتره قليلاً .

اندفع نازلاً مع الضفة نحو نهر لم يره شاباً من قبل .. نهر يراه دائماً قبل أن يغفو .

اندفع بشهقة نحو بردى وضربات عميقة .... عتيقة على وتر غليظ تدق في قلبه .

رآه فعلا أكثر شباباً .... المياه زرقاء ..... عيناه زرقاء .... وكل الأزرق ينعكس من السماء الزرقاء .

قفز فوق السور الحديدي البارد ....اقترب من الضفة المرتفعة .... تعانق مع

شجرة كبيرة وضع خده على قشرتها القاسية خائفاً نظر نحو الأزهار البرية

تنحني فوق الضفة .... اقترب , اقتلع إحداها .. لم تعد لمياه النهر شكل

خصال شعر أمه السوداء الملتصقة ببعضها .... أصبحت مياهه تشبهه أكثر

.... كان يحفظ الكثير من الأمور التي تقال في مجلس هو به . . تأوّه للمياه .. تأوّه .

حاول أن يغني .... طرب لنفسه وللحن العود المرافق في عقله حين كان

يقول ما تمكن من حداء أمه الحزين .

كان كل ما يغنيه هو حرف عين .. معجون بغنّة تخرج من أنفه .. بشعة ..
عذبة حنونة لديه ....

أحس برغبة في العودة إلى البيت .... لكنه تحمس مصراً على أن يعرف

لماذا لاتصل مياه النهر إلى قريتهم لتنام في بحيرتها .... لماذا زلّت قدم

أمه في طين البحيرة حينما كانت تعبر به نحو الضفة الأخرى .... لماذا هوّت
على وجهها في الطين ولم تنهض مرة أخرى بعدها .... لو كان هناك ماء

لحممّته واستحمت أيضاً .. لأرته حورية الماء البيضاء كما اعتادا .

نهض حاملاً وردة بيضاء محاطة بالأشواك .... رماها نحو النهر .... لم تنفلت

.... كانت متشبثة .... مغروزة في يده ملتحمة به لا تريد أن تذهب مع الماء

.... تحت البيوت والجسور والقناطر .

ابتلت عيناه بدمع الخوف .... مرتعباً ... هوت الدمعة مباشرةً في فمه

مالحةً , انتزع الوردة ورماها وركض واضعا يده في جيبه مشدودة فهو يخاف

الدم ومنظره .... تناسى الموضوع بسرعة مضطراً .. ليكمل.. واتجه بجوار

النهر صعوداً ليرى لما كان خائناً مثل الجميع .

التصق بالسور الحديدي خائفاً .. ينظر .. شبان يقفون أمام أشياء ..

يصرخون عليه بعنف .... أبواق سيارات تزعق أمامه وتتدافع .... بشر

يعبرونه دون اكتراث أو مداعبة شعر , وجوه متراصة في حافلة تنفثّ هواءً

أسود .... تبتسم له بحياد ,

رجال يمضغون بآلية ما تيسر لهم وهم ينظرون إلى بعضهم البعض .

سال لعابه قليلاً .... رائحة المدينة تشبه رائحة الدهن .... توقف نغم العود

, هرول قليلاً بجوار النهر ..... عاد إلى الشارع أسود اللون واستمر في

الركض وازداد شعوره بالوحشة فتّش عن نغم للعود ... . لم يجده أبداً

بدأ بالدوران حول نفسه كالمجنون اختلّ توازنه كاد أن يسقط .... لولا أن

أمسكته يد المرأة بيضاء الشعر .

نظر إليها .... لم يتعرف عليها .... نظر إلى شعرها الأبيض .... فأحس بقليل

من الألفة وعاودت ضربات العود تقاسيمها حجازيةً دون أن يعرف .
تلاّ قليلاً وبشكل متعثر بعضاً من سورة يسّ التي كانت تتلاّ عليه طوال ثمانية عشر عاماً .

ظنت العجوز الدمشقية بيضاء الشعر أن اسمه ياسّين لم تفهم من السورة
سوى ذلك الاسم .

: ياسّين رافقني .... قليلاً .. لنتمشى بجوار النهر .

مشيا سويةً .. هي أطول منه تعرج قليلاً على عصاها وهو يهرول أمامها كالضبع الأليف ...

: هل تحب النهر ؟

: نعم !

: أين تسكن

وأشار إلى النهر بضياع لا يعلم أين سيجيبها فهو لا يقدر على الإجابة ....

أحسّ برغبة في البكاء فوق النهر بجوار الضفادع والحشرات والبعوض .

مشيا طويلاً , شاهدا النهر , وضاعا عنه .... كانت المدينة العتيقة والنهر

يتشابكان بطريقة لا توصف وبأسماء لا تحفظ وبجسور لا تعبر وضفاف لا تهجر .

: أنت رفيقي في هذه الظهيرة المشمسة .

وعدلت معطفها الأسود الداكن الذي تخفي أسفله تنورا كار وهات رمادية
وحذاءً نسائياً مغبراً .

بينما نظر إليها عابساً .. يهرول .

: ابني رسام .. يرسم الآخرين في الشارع .. فتيات وعجائز .. جنود

وأطفال , لكن أغلبهم من السواح .... هل تريد مني أن أطلب منه رسمك ؟.
صمت سلطان .

عبرا بجوار بائع جوال كان يعرض دببةً وأرانب تتحرك كالآلات بشكل غريب

ولاشيء أكثر من الغريب جعل سلطان يتوقف عن الحدج أمام السيدة
وعن سماع تقاسيم العود غير المتزنة .

تسمر كالمسمار أمامه مشدوهاً مما أثار الضحك لدى البائع الذي عاجل

واعتذر للسيدة ودعا لابنها بالسلامة , لكنها انتقت الأرنب الأكثر غرابة

فيهم واشترته لسلطان الذي حمله أمام وجهه وبدأ يكمل مسيرته معها

ينظر إليه كمن أمسك بنجم مشع بين يديه .... كانت المرة الأولى في

حياته التي يبتاع أحدهم شيئاً لأجله .... وفقط لأجله .... فكل شيء

كان يلعب به أو يتخيل أنه يلعب به هو إما من بقايا أبناء اخوته أو ما يتخيله

أنه ألعاب من براغي أو بطاريات فارغة وعلب و أواني منزلية .

تابعت العجوز تحدث نفسها والأرنب حتماً ....

: لم تكن المدينة يوماً هكذا .... كانت صغيرة جدا فيما مضى ....

أعتقد الآن .... أنها أجمل ..... بكثير .... فهي الكبيرة الآن بكل ما فيها من

تنوع وتناقض.... أتعلم كم عمري الآن ....؟

: لم يجب سلطان ....!

: لقد بلغت البارحة الحادية والتسعين.

لم يفهم سلطان ما قالته المرأة .. أو لم يركّز معها .... لكنه حتماً لو فهم

.... لدهش كثيراً من قوة وصلابة وامتشاق جسد هذه المرأة العجوز ..

: فيما مضى شجعت ابني على الرسم .... واختار الرسم .... اختار

رسم الوجوه لا أعلم لماذا .... لكن الوجوه التي كان يرسمها كانت تخيفني

.... غرفته كانت تشعرني بالبرد و القلق .... كانت مغطاة كليةً بالوجوه .

وجوه ذات عيون مريعة تحدق كلها في الداخل إلى الغرفة .... كانت مليئة

بالوجوه من الأرض حتى السقف .... كل الجدران .... بكل الألوان .... عيون

بكل الإتساعات صغيرة.... كبيرة.... بريئة وفاجرة .... حنونة وقاسية ....

حتى انه فكر في رسم وجه على سقف غرفته .

لولا أن كسر ظهره بحادث سيارة وجلس حزيناً في سريره لا يواسيه شيء

عن التجول إلا أصدقاؤه ووجوههم المعلقة في غرفته ليكلمهم .

كانت السيدة تتحدث متكئةً على عكازها وسلطان يحدق في الأرنب

الغبي الذي يعزف على طبل آلي .

أحست السيدة فجأة بألم في ساقيها .... توقفت فيما تابع سلطان

مسيره وحيداً بضعة أمتار .... بعدها شعر بالوحدة , ذلك الإحساس الغريزي

اللعين فتوقف ونظر إليها تصعد إلى التاكسي ملوحةً له .

انهمرت دمعة مباغتة من عينه بسرعة .... أحسّ بالخيانة .... اندفع نحوها

لكنها ومن فرط إنهاكها أسندت رأسها على الكرسي مغمضة العينين فلم تره أبداً .

وضع الأرنب الآلي في جيبه واندفع ضائعاً في شوارع دمشق الكبيرة يعبر

ضد الآلاف .... مشى ومشى و مشى وحيداً لا يعرف إلى أين سيذهب

أو إلى أين سيتجه .... كيف سيعود إلى منزله .... أو أين سينام .... بدأ

يشعر بالبرد , تجعد وجهه الطري كالعجين وازداد الشتاء شتاءً .... ذهبت الشمس , خانته أيضاً .

امتدت عيناه عبر الرصيف الطويل .... قرر الابتعاد عن النهر الذي ازداد

جريانه مع سقوط الأمطار الوحشية .

وفي آخر الرصيف كان الناس يندفعون جرياً داخل بناء أبيض نظيف .... قرر

الذهاب خلفهم ودلف هو الآخر داخل البناء .... كان الجميع منهمكين في

الداخل ينقلون بعضهم البعض .... بعضهم يصرخ .... والآخر يقف متفرجا عليهم يبكي .

دخل إلى البناء النظيف جداً .... الملمع .... البلاط مثل المرآة يزحلق ....

انتبه إلى الأرنب الآلي متكورا في جيبه كالتفاحة .

تجول في المكان: رجال يلبسون أبيض وآخرون أخضر ونساء تضع على

رأسها قبعات بيضاء مع رداء أبيض مزركش .. والجميع ينظر إليه .

وازدادت الصرخات تجلياً .. كان حادثاً مروعاً بفعل الأمطار حتى أن قاعة الإسعاف غصتّ بالناس .

ازداد قنوطه وخوفه .... قرر الاتكاء في مكان ما .... عبر الردهات .... لم يعد

يسمع أي صوت .... إلا عندما عاد صوت العود يدق نغماً من ثلاثة علامات

يعرفه جيداً .... رأى باباً موصداً يوحي بالأمان كان ذا لون مختلف .... فتحه

ودخل .... كانت الغرفة من الداخل معتمة جداً ودافئة نوعا ما , لكنه عندما

أغلق الباب على نفسه من الداخل لم يعد يرى شيئاً حتى الباب أصبح

أسود ضاع حس الاتجاهات بالنسبة إليه تماما في تلك اللحظة بالذات

أحس بالضياع المرعب بدأت يداه ترتجفان مع شفته العليا وأسنانه تصطك
ذعراً .

كان كالجرذ يزحف أرضاً متوسماً شيئا .. أي شيء يتعرف عليه بحواسه

.... تحسس الأرض .... الجدران كانت معدنية .... وباردة وكأنها فارغة ....

تذكر أرنبه .... أخرجه من جيبه وأدار زنبركه الذي جعل الأرنب يدقّ على

الطبل مصدراً صوتاً متكرراً لإيقاع طفولي وضوء أخضر يجيء ويذهب وينير المكان بخفوت شديد .

أحسّ بالأمان قليلاً .... وكأن الأرنب أصبح شعلته في هذا الظلام الدامس.
اتكأ على أحد الجدران المعدنية مستعيناً بالضوء الخافت من أرنبه حتى

وصل إلى ذراع حديدي انبثق من الجدار نفسه استند عليه وأنزله فانفتح

الباب صريراً , أنيناً واندفعت معه برودة قاتلة دخلت رأسا إلى عظامه .

وقف سلطان كالمقاتلين بصدر مرفوع ورأس مشدود متشنج لا يخلو من

بعض الردّات العصبية السريعة أمام باب البراد المفتوح الذي كان مصباحه

معطلاً .... يومض ويطفأ بسرعة وبتكرار , .

استطاع من وحي ضوء الأرنب أن يرى أشياءَ بلاستيكية متدلية .... استفزه

الفضول .... والخوف .... مدٌ ذراعه ليكتشف ماهية ما أمامه .... على ضوء

البراد المتقطع حينما أمسك أحد الأكياس .... وسحبه .... فانطلق الضوء

من المصباح الكهربائي كاشفاً أمامه مئات الأكياس المبردة من الدم المبرد

والمعبأ .. فشهق صارخاً من الرعب والخوف .. كميات هائلة من الأحمر

المعلق كالدجاج داخل البراد.... نفض ذراعه برعب لكن أرنبه الآلي علق

بالحمالة الحديدية فهوت ببطء شديد .

هوت حمالة أكياس الدم في بنك الدم في ذلك المشفى فوق سلطان

الذي أخذ يدفع الأكياس عنه ضرباً ولطماً فبدأت بالتفزر فوقه واحدةً تلوٌ

الأخرى مرتطمةً بالأرض ومنفجرةً , لتملأه وتملئ المكان بالدم وهو يسبح

فيه منبطحاً على وجهه مشلولاً من الذعر حتى هدأت العاصفة وهو

مستلق على وجهه في بركة دماء لم تكن قطرة واحدة منها .... منه ....

دماء آلاف المتبرعين المحسنين هوت , وهو يئن مصعوقاً دون حراك فيما

الأرنب الآلي في طرف الغرفة يدق ويشعل أضواءه الخضراء برتابة وجدول

نحيل جداً من الدم يسيل باتجاه البالوعة التي ستحمله حتماً إلى النهر ......................


مشاركة منتدى

  • عمل رائع ينبئ عن كاتب سيكون له صولات وجولات في الادب العربي

  • هذه القصة رائعة بكل المقاييس أولاً من حيث اختيار الموضوع الذي ينم عن سعة خيال وأفق الفارس الذهبي بالإضافة الى الصور الجديدة واللغة الرائعة
    والرومانسية والشفافية التي تعبق بها هذه القصة
    تحية لهذا الكاتي المتألق

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى