الأربعاء ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

أهل الكهف

كانوا أربعة و(الكلب دوبرمان) رابعهم

لقد كان ذلك في صيف 2009 المنصرم بمدينة طَنْجَة. لقد كان الصباح في منتهى رغبة شعاع السخونة، وعقبته شمس إفريقية حارة. والجوّ من جهته، قد كان في منتهى الصفاء الصيفي: شمس رائعة، سماء زرقاء في منتهى وسواس الشبق الديني،و الوقت ظُهْرَ جُمُعَة، والشوارع خالية من كل ضجيج بشري. وقدمت سكينة رهيبة، ومن بعدها، انتهت الصلاة وتفرقت الجماهير، ومضى كل إلى غايته. وبدوري مضيت إلى غايتي، قاصدا صالون حلاقة عبد المبدع الشاوني. وكالعادة، كان صالون حلاقته ما زال مغلقا كالعادة الجارية بها العمل في هذا البلد، الذي كانت مواعيد عرقوب له مثلا، وما مواعيده الشبيهة بالغربال والغول والعنقاء وسعاد، ليست سوى أباطيل. وانتظرت، حتى كاد الانتظار أن يهد من أعصابي، ويتحفني كخرقة بالية، حين قدم أخيرا يجرجر ثقل رجليه، أديبنا الحلاق. وقدم يجرجر مخلوقه المغربي الجميل وتطلع في وجهي وفي قسماتي، وخشخش مفاتيحه وفتح الباب وشرفني بالمرور. ومررت، ومرّت من بعدي الأوادم والقججة. وتفنن الحلاق الأديب بعض الوقت "تطريما" في بضعة رؤوس فارغة إلا من كثافة الجسد الثقيل وكثرة " الهدرة". وفجأة استدار في قائلا:

 يجب أن تتصل بالنادل..!

وأجبته متحيرا:

 ماذا تعني بالنادل؟

وبحصص في وجهي وأجابني

 الكاماريرو.. الكارسون

وأجبته:

 ولماذا لا تقول بلغتنا الطنجاوية القهواجي؟

وكمن صبت عليه سطل ماء أجابني:

 إيه... الكاماريرو. اسمه عبد الله الريفي، كاتب وشاعر، يعمل في "مقهى الربيع" كقهواجي ويود لقاءك هذا المساء.

وخرجت من صالون الحلاق شاكرا له على اهتماماته الأدبية، توجهت ناحية سينما "موريطانيا" ومررت بها ثم دخلت إلى المقهى المقصود "مقهى الربيع" وطلبت شايا منعنعا وكأس ماء، وبعد قليل قدم القهواجي الشاعر. وقدم الكلام " الشكري"، أي بما معناه البحث عن الشهرة الأدبية. ودعوني أفسر لكم ذلك، أي أن تصبح كاتبا بدون ثقافة خلفية ولا قبلية ولا فوقية ولا تحتية ولا هم يحزنون، باستثنائها هي.. هي مولات الخلة الخمرية.. وافهم يا الفاهم.. افهم يا بوراس.. الطاسة والقرطاسة ولَلا عَطِيّة!..

و ناولني الكاتب المتخرج من مدرسة شكري فنجان قهوة وديوان شعر بالأمازيغية مترجما نصفه إلى الفرنسية وقال لي:

 إقرأ.. ومضى..

ثم مضى ثم عاد ثم عبس وتولى وأقبل وأدبر وأخيرا وقف على رأسي وقال لي:

 انتظرني..! لا تمضي اليوم خمر وغدا قهر.

و اعتقدتني لم أفهم بل خيل لي ذلك وانتظرت وانتظرت وأخير قدم القهواجي الشاعر وانصرفنا معا. قدم وخرجنا من القهوى وهو يقول لي:

 سترى ما سترى أدب وثقافة وأخبار غريبة.

و نزلنا من خلف سينما "كويا" وانحدرنا قي اتجاه سينما "روكسي" ثم عند بقالة السوسي الروبيو انحرفنا عن اليمين وبعد بضعة خطوات توقف صاحبي وعبر نحو اليسار وقال لي:

 بهذه العمارة! وراح ضاغطا عل الزر الكهربائي.

و قدم من الطابق الأعلى عبر "المكرفون" الملصق بحائط الباب صوت مخلوق يقول:

 شكون أنت؟

و أجابه القهواجي الشاعر:

 عبد الله الكاماريرو.

و انقطع الكلام، وانفتح الباب المغلق، وقدم المصعد فصعدنا.
و من جديد ضق صاحبي على الباب المحصنة وبعد قليل نبح الكلب وانفتح على وحش هائج من فصيلة "دوبرمان" وعلى المخلوق الأزعر المتمسك بحزامه. وتفرس في وجهي وفي وجه صاحبي وقال لنا تفضلا!

و دخلنا يمشي أمامي وأنا من ورائه أتفرس في الوجوه الحاضرة حول الطاولة المستديرة.

و حصل التفاعل الكاسر للمفاجئة وحصل التعارف وقال صاحبي:

 أقدم لكم الصحفي العربي المقيم في بلدة السويد.

و جاء من أقصى الغرفة الغارقة في دخان سريالي أزرق صدى صوت مبحوح بحرارة الكيف:

 يا مرحبا بالصحاقة الشقراء! يا مرحبا..!

و استدار في الحضور وهو يخاطبني قائلا:

 أقدم لَكَ ضُيوفَ غارنا، الكلب الوفيّ "غولو دوبرمان". وإلى جانبه "الروبيو" عبد الله السوسي، صاحب الكاتب الراحل شكري، وعلى يمينه، القصاص حميدو "الديواني" وذاك في مقابلك، حميدو العسكري "السبايسي" والشاعر، وعن يساره المحامي محمد بركات الريفي صاحب رواية " لعل الريف يعود إلى زمن الكاهنة". وذاك الذي قبالتك، أخريف طيفور زمان، ذاك الذي يكره الحب في كل مكان وزمان. وعقب هذا التقديم السريع قرقعات أناني وكؤوس خمرية، "سربيسية" وابتدأت السهرة الأدبية العالمة. وتكلم هذا من هنا، عن فلسفة أفلاطون، ذاك من هنالك عن ملحمة كلكامش والكاهنة، آ خر عن "جاك ديريدا" و"هابرمانس" وبقيايا خطابات "هَيدْكْر" وعمت الفوضى الحماسية. وتُرْجِمَ العالم وحُلِّلَت فلسفته كما علومه وتنبآته. وكاد الخطاب أن ينتهي، لولا استدراكي للمعركة الحامية الوطيس، التي كانت دائرة، ما بين الديواني القصّاص و"الروبيو" الرّاوي، صاحب شكري. وتدخلت هكذا ورقعت ما رقعت من خلافاتهما، وحين انتهيت هب الروبيو واقفا:
 اليوم فقط اقتنعت بأن لفلسفة الديواني حدود. اليوم فقط حصل لصاحبنا أن يصمت ليستمع قليلا وهذه بداية الآية. تصور يا صاح! منذ أسابيع ونحن محصورين بسلطة الديواني وقد أصبحنا الآن في حل من ثرثرته. أصبحنا أحرارا والفضل يعود لزائرنا المغترب الذي بعثته السماء لتطهير لسانه،فمرحبا بالصحافة السويدية وكل أوانسها اللا ّعذراء.

و من جديد حصلت القرقعة، وتناطحت الكؤوس والنوايا و"الكيف"، وعوى الدوبرمان "غولو " كغير عادته، وفسر الروبيو عوائه هذا، بمعجزة هي بصدد الحدوث، وأعاد الحديث حول نفسه قائلا:

 أنا صاحب شكري والراوي الحقيقي لأدبياته! أنظر..!

و أخرج لي بالمناسبة، كل اللقاءات الصحفية للصحفيين الأجانب، أولئك الذين قدموا لهذا البلد بحثا عن الشهرة الأدبية. وألقيت بنظرة خاطفة على هذا الكم الهائل من الورق واستدرت في صاحبنا الروبيو قائلا:

 ألست أميا أنت؟

و أجابني بكل براءة:

 نعم أنا أمي.. وقد نزل علي الوحي فأصبحت قارئا!

و استدركت نفسي قائلا له:

 تحسبني غريبا عنك وقد عرفتك من قبل، أما أنت من جانبك فإنك لم تتعرف علي.

و أجابني قائلا:

 وكيف.. ومنذ متى؟

و أجبته مخبرا إياه، عن مهنته كبائع، بدكانة السوسي:

 حين كنت تلميذا، كثيرا ما كنت أتوقف عندك لاشتراء " الساندويش بالتون ". وعدت عندك بعد سنين بعدية، صحبة الكاتب شكري، وأنت حالك جد مشغول بالزبناء، وشكري عند " الكونطوار " يسكر بالروج المغربية "بولعوان".

 بلى..! قال لي الروبيو.

و نهض متهجا نحوي وقبلني على جبيني واستدار مقبلا كلبه الغالي عليه، ثم عاد بالقرب مني قائلا:

 في الحقيقة إن هذه البلدة، قد مُسِخَت وأصبح كل من يدعي الكتابة من هنا أو هناك، يحدث عن شكري وعن لقاءاته الموهومة بشكري، وعن وصايا شكري الموهومة له. ولم يكن ثمة من خادم لشكري سواي أنا، وذلك لأكثر من ثلاثين سنة. ولهذا أعتبر نفسي، أقرب الناس إليه وأصدق وأوفى بياع لسيرته الذاتية، للأدباء الأجانب الأغبياء، أولئك الباحثين وهما، عن أسرار معاناته الأدبية. فانظر واستر ولا تحدث هؤلاء الأدباء المتطفلين.. وأشار للحلقة المستديرة حوله وصمت.

و عاد لغط القناني من جديد وطقطقة الكؤوس النشوى وقرقعاتها، وبدوري انتبهت فقمت واقفا مودعا والكل يتجاذبني لقضاء بقية السهرة، وحسم الروبيو الموقف قائلا:

 أنت موسوعة يا رفيقي..! لقد غيرت من مسار أمسيتنا وأسكتَّ من أسكتَّ من الفلاسفة والثراثرة عندنا، فمرحبا بك كلما أردت ومرحبا بالصحافة السويدية. بل قل لي وهذا بيني وبينك ما سر الكتابة؟

 سرّها أنك كلما ازددت تشوقا لنكاحها ازدادت مناعة..

و ابتسم في وجهي، وقد فطن لما فطنت له، فلم يزدد إلا تشوقا ورغبة في مداعبة الجهالة. وحين تجاوزت الباب الخارجي مستقبلا حنان طَنْجَة المسائي، لحق بي رفيقي " القهواجي

" قائلا:

 لقد كنت موسوعة هذه السهرة..شكرا للصحافة الزعراء.. ولا تنسى أن لا تعود..!

و انصرفت معرجا على البحر الطنجاوي اليتيم. وحدثه بما يدور في أعماق نفسي. حدثته عن حبي الغريب لأسرار المتاهة. حدثه عن ساحرتي الجنية. حدثته عن آمالي الكبار وترفعت عن كل هؤلاء المستعبدين أنفسهم. تنبأت بمستقبلي كإنسان حر في بلاد الأجانب. تنبأت بحقوق الطفل والإنسان الغبي وبكل المعذبين على هذه الأرض، باسم الملكيات العلوية المفتونة بقداسة ثرواتها الطبقية، وبما سوف تؤول إليه من عفونة. تنبأت بالقلاع المحصنة، بملوك القرون الغابرة، وانحدرت نازلا في اتجاه سُبُلَ البحر ونسيت ما نسيت وأصبحت فجأة عابر سبيل، لا عنوان له ولا وطن، ومشيت والحب الإلهي يغمرني، وبكيت حبا في اللاّ نهاية، وتجردت من إنساني الشقي والجنة البشرية مناي والحب العبقري دليلي، وصَلّيت أملا في أن يبدل الله من قوم لم يريدوا أن يغيروا ما بأنفسهم.

كانوا أربعة و(الكلب دوبرمان) رابعهم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى