الجمعة ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

بلا إنسانية

عضها الجوع بأنياب قاطعة لا ترحم، الأكياس البلاستيكية المتسخة مبعثرة هنا وهناك دلالة على الفوضى، وعدم الانضباط، فتشتها جميعها بلهفة جنونية عساها تعثر على ما تأمله، وأخيرا حازت على رغيف خبز يابس، مضمخ بالعفونة، طفقت تقضمه بصعوبة كفأر قارض لم يعرف الشبع سبيلا إلى بطنه، صاحت في شبق اهتياجها: تبا! واأسفاه! هذه الكسيرة لن تسد جوعتي أبدا.

ثم انتفضت من مكانها المألوف كمن لدغها عقرب سام، مميت، وساقت قدميها الهزيلتين صوب المخبزة، دنت من السيد(عاطف) ذي اللحية الكثة، البيضاء، والعينين الجاحظتين، واستعطفته بقولها المتخم بالآهات، والأنات: أريد خبزا، أنا على وشك الموت.

تفنن في رسم ابتسامة عريضة على شفتيه المكتنزتين، وقال وفي صوته الرجولي الصارم تنضح معالم السخاء، والرحمة: لا تهتمي للأمر بتاتا، أنا في خدمتك على الدوام، خذي ما تريدين.

كان الفتيان الأشقياء يرقبونها عن كثب وهم مصممون على إثارة زوابع غضبها، وسخطها ليتلذذوا بحلاوة المشهد السينمائي، المثير.

ساروا خلفها كالهنود الحمر مقهقهين، متغامزين في شر، وخبث، ثم أمطروها بوابل من السباب الذي يتندى له الجبين خجلا، فكيف تكون ردة فعلها يا ترى؟ وهل يسلم الجميع من عربدتها الهادرة، وعنادها، وبطشها؟
لن تفوت الفرصة السانحة أبدا، بل عقدت العزم كليا على أن تثأر لنفسها بنفسها، وفي ومضة البرق الخاطف التقطت حجرا، وشجت به رأس أحدهم.
صرخوا دفعة واحدة وقد كادت الدهشة تعقد ألسنتهم: الدم! الدم!

كان الدم القاني يسفح على وجه(فريد) دون هوادة، ويلطخ ثوبه الرمادي المخطط.
ــ ألم أنصحكم مرارا وتكرارا بألا تفكروا في الاقتراب منها، والإساءة إليها؟ لم لا تتقيدون بالنصيحة الثمينة التي أسديتها لكم أيها السفلة؟

رجل وقور في مثل سنه لن يرضى مطلقا بهذه الظاهرة المشينة التي استفحلت وبقوة في لب المجتمع.
ــ النجدة، النجدة يا سيدي.
ــ هذا ما جناه لسانك الخبيث أيها الأحمق البائس، لا تعيد الكرة ثانية وإلا ستتضرر أكثر مما أنت فيه.
قال والعبرات تصطخب في عينيه السوداوين: أعدك يا سيدي، لن أكرر ذلك ما دمت حيا على وجه الأرض.

نقل(فريد) إلى المستشفى على جناح السرعة ليتلقى العلاج اللازم، أما أترابه لم يرتدعوا بعد، بل أجمعوا على قرار واحد ألا وهو الإنتقام الأكيد.
نطق(عماد) ذو الشعر المنكوش: نربطها إلى جذع شجرة الخروب بحبل متين، ونوسعها ضربا مبرحا بالعصي إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وسنرتاح منها، ومن بلائها إلى الأبد، إنها نذير شؤم.

نطق آخرمؤيدا (عماد): معك حق، لن ندع الأمر يمر هكذا بسلام، ستنال هذه المجنونة جزاءها.
تدخل(رفيق) هو الآخر بقوله: وأنا سأكون لها بالمرصاد أينما تحل، وستنال العقاب الذي تستحق.
صاح آخر: ألسنا أقوياء، أشداء؟ أتعلن علينا امرأة ضعيفة انتصارها؟ هل تقبلون بهذا يا شباب؟
نطقوا في تحد وعزم: لا، لا، لا.

لم ينس(فريد) تلك الحادثة المريعة التي ألمت به، لا زالت محفورة في ذهنه، ملتصقة بجسده النحيل كالصمغ، كلما يصادفها في طريقه يطأطئ رأسه، ويبتلع ريقه، ويلتزم جانب الصمت مخافة أن يحدث له ما حدث.

أفصح له زملاؤه عن نيتهم السيئة اتجاهها: الإنتقام منها هو الحل الأسلم في نظرنا، أتوافقنا الرأي يا(رشاد)؟
صرخ في وجوههم متذمرا: لست موافقا، لست موافقا ولو أغدقتموني أموال قارون.
صفعه(عماد) بقوله الجارح: أنت حشرة قذرة، وضيع، نذل، جبان.
رد عليه(فريد) حتى لا يتمادى في تجريح كرامته، والحط من شأنه: إنها مجنونة لا تدرك نتائج تصرفاتها، لا حول لها، ولا قوة.
ــ أنسيت ماذا فعلت بك أيها الشقي، الأبله؟
ــ لا، لم أنس، ولكن أين نفر من عدالة الله؟ نحن من أخطأنا في حقها، إنها مظلومة، والله مظلومة.

ضغط(عماد) على أسنانه بكل قوة وقال والغضب يتطاير من عينيه كالشرر: أنت لا تتمتع ولو بنفحة من الرجولة، عاهدت نفسي على أن أنتقم، وأطهر الحي منها، أتفهم؟
شددت الشرطة المراقبة على عماد الصعلوك ورفاقه خاصة حين اعترف لهم(رشاد) بما يضمرون لها من شر أكيد، مستطير.

ها هي تتقدم من السكة الحديدية بشعرها المغبر، وثوبها المهلهل الذي يفضح جسدها بكل وضوح، وها هو الشيطان يلعب برؤوسهم كما تلعب الخمرة المعتقة برؤوس التائهين والحيارى في دروب الأسى والشجن.

القطار يصفر من بعيد، ويغزو الفضاء صفيره الحاد، وشرذمة الأشقياء على أهبة تنفيذ جريمتهم على مرآى الملأ من غير أن تخالجهم نفحات الرحمة، والاستعطاف.
نطق(عماد) مزهوا: هيا لنتقدم منها وندفعها تحت عجلات القطار، ستكون نهايتها على أيدينا.
ــ لا، لا.
هذا(رشاد) يصرخ بكل قواه، كان يراقبهم عن كثب، ويترصد خطواتهم، ولقد حسمت الشرطة الأمر، وألقت القبض على هؤلاء السفلة الذين تجردوا من كل معالم الوفاء، والرأفة، والإنسانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى