الثلاثاء ٢١ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
الألفية الثالثة لقصص المقاوم: الشريف مولاي اليزيد السني الزروالي (القصة السادسة)
بقلم فؤاد اليزيد السني

الاغتصاب

وكان الليل الداهية، في موعده مع الثالوث الجهنمي. لقد كانوا ثلاثة: الخداع الخليعي، عبد البلاوي بوراس، وقدور الخراط.
فالمخلوق الأول والذي سميناه مجازا بالخليعي، هو من أهمج المخلوقات في محفل الخلاعة، وهوعلى سبيل المثال، حين تلاقيه صدفة وتقول له:

 إلى أين الخليعي؟

ويجيبك المخلوق الخليع:

 (ينعل أبوك وأبوهذه المخاليق...)

وتشفق وبقلبك ألم، على هذا المواطن الضائع، وتعلم بأن قساوة الوقائع القاسية، قد ساهمت في تركيب مخلوق كهذا. وتمضي في طريقك وعقلك ما زال عالقا بهذه المحنة البشرية. وتتسائل عن الحل يا ترى..؟ وأنت تدري بأن أمة لم تثر ولم تُضَحّ بما هوأثمن وأغلى ما لديها من أجل مستقبل أفضل، لا محل لها من التاريخ، ولا محل لها من الوجود الإنساني المتحمس إلى عالم المستقبليات.

أما المخلوق الثاني، عبد البلاوي بوراس، فهومن حيث الانتماء القبلي، لا ينتمي لأحد من مخلوقات هذه الأمة. فشعره أشقر، إلا أن وجهه أسمر، وإحدى عينيه بنية والأخرى خضراء، والأغرب من كل هذا، أنه لا مبدأ أخلاقي له. فأنت حين تقول له مثلا:

  (آجي الله يرحم والديك..!)

يجيبك ب:

  (واش بغيتي الحيوان! سعداتو الذي قطع البحر..!)

أما المخلوق الثالث قدور الخراط، فلقد صب في قالب من الخلاعة الفاحشة، لدرجة أنك لا تقول له كلمة من غير أن يحولها إلى ترجمة جنسية. فأنت إذا قلت له على سبيل المثال:

  ذهبت زوجتي عند الخياطة.

أجابك بتلقائية فاحشة:

 (بل خياط جنسها الجميل وهُبالِها..)

وهكذا اجتمع هذا الثالوث المحرم على صداقة، قوامها الخلاعة وشركة احتقار الآخرين.

وذات يوم من أيامي المدرسية، كنت قد عدت إلى البيت كعادتي، وانتظرت مجيء صديقي محمود، الذي تنعته أمي بالغزال، لشدة جماله. لقد كان أجمل من أجمل امرأة. وأجمل من أجمل رجل. ولم يأت عشيتها عندنا، فظننت بأنه قد شغل بشيء ما، إلا أنه لم يأت كعادته عندنا.

وانحدر الليل وأطفأنا الأضواء استعدادا للنوم. وحين نمت كطفل حالم، دخلت إلى دنيا الأحلام وتحقيق المعجزات النادرة، ومن حولي، قد راحت نجوم السكينة سارحة في شؤون المحبة، والملائكة المخضرمة تناجيني.. وفجأة، رن جرس غريب في أذني الداخلية، وبعدها بقليل كان كل أفراد بيتنا قد هبوا مذعورين من نومهم. وهكذا تواجدنا وقوفا أمام للاّ أمينة، أم صديقنا جميل متسائلة:

 لم يقل لي بأنه سيبيت عندكم...

ولم نجد من عبارة مناسبة لإجابتها ونظرنا في بعضنا بعض متسائلين، حين قفزت أختي سعاد قائلة:

 لماذا لم يأت جميل معك؟

وفاضت عيون أمه بالدموع. وأدركنا بأنه لم يعد إلى بيته بعد المدرسة، وفي المقابل لم يأت عندنا. وتفاجئنا. وانهارت الدموع وبكى البيت ومرت بعد بكائه ثلاثة أيام بلياليها ولا خبر ولا أثر يذكر لحبيبنا الجميل.

وفي اليوم الرابع، الذي قدم مع إشراقة نهار وثني، لا شبيه له في هذه المعمورة العربية، حصلت المعجزة اللاّ منتظرة و
عاد إلى ظهور الوجود، صاحبنا " جميل ". لكنه عاد ولكن، كغير ذاك الذي اختفى. لقد عاد وقد اشتعل الرأس منه شيبا. ذهب طفلا وعاد وقد شاب إنسانه شيبا. أي عجوزا، مقهورا، وهولم يتجاوز سن الرابعة عشر من عمره.

عاد منكسرا، لأن القصة التي رواها لنا فيما بعد، كانت فعلا فاجعة إنسانية. لقد حصل له فيما روى، أنه كان عائدا من المدرسة كعادته حين تسلط عليه فجأة أحد الثالوث الجهنمي وخطفه خطفا، قاذفا به في سيارة متهرئة. ووجد نفسه في حضن مخلوق غريب عليه، شده إليه شدا، وهدده بموسى حادة، إن هوحاول أن يبدي أية مقاومة. واستسلم لقدره، ومنذ تلك اللحظة بدأ مشوار معاناته، وبدأت معه، اغتصاب النفس الطفولية البريئة. شعر في بداية الأمر بإبرة في ذراعه اليمنى، وراح من بعدها في نومة عميقة، إلا أن بعض الصور الحالمة ظلت عالقة بذهنه. لقد رأى فيما يرى النائم، بأنه قد قيد إلى منزل منعزل. ورأى بأنه قد تواجد على سرير وقد جرد من كل ثيابه. ومن حول السرير كانت تنبح ثلاثة كلاب. ومما يذكر أن الكلاب الثلاثة قد نهشته بالتوالي. نهشته عضا وجنسا، وكان من ناحيته يشعر أمام هذا الاعتداء بفتور مطلق، وكونه في حالة شلل عام، لا قدرة له على مواجهتها. واستسلم لقدر الكلاب، ونهبت روحه كما جسده، وفُعِلَ فيه، كما شاءت الكلاب لثلاث ليالي متوالية.

وكانت الكلاب خلالها لا تزداد إلا شبقا في اغتصاب الشاب الجميل، واحتساء كل أنواع المنشطات الخمرية، بل حتى " الحشيشية " بكل أنواعها. وفي صبيحة اليوم الرابع، وقد استنفذت الكلاب كل قواها وسقطت في إغمائية كلبية سحيقة، نفذ ضوء الخلاص إلى فناء البيت المغلق والسرير الحزين. وكمن يعود من كابوس بحري قاس إلى شاطئ النجاة، تفطن صاحبنا الجميل إلى حالة الكلاب الشبه ميتة، وعن غير قصد، بل لرغبة دفينة في لا شعوره، للعودة إلى منزل حنان الطفولة. عبر السرير متجاوزا ثلاثة كلاب شبه ميتة، وقد تيقظت فيه قوة إنسانية لا عهد له بها.

وشعر وكأنه يعود من عالم متوحش إلى المدرسة. ومشى.. ومشى.. ومشى.. حتى وصل إلى المدرسة. ومن المدرسة بدأت الرواية البوليسية والاستنطاق والاستفسار والاستخبار، وعاد من بعد ذلك لبيته وهوأشبه ما يكون بكأس كسير. عاد وقد أضرب عن الطعام وراح معتزلا رائحة البشر، محاصرا نفسه لعدة أيام، بل شهورا وبضعة أعوام في غرفته المنفردة. وصبيحة يوم مغبر من أيام الشتاء الرمادية أصيب صاحبنا بأزمة عصبية. ونقل عقبها إلى عيادة خاصة مكث فيها ما شاء الله، ومنها إلى مصح المجانين وينقطع فجأة خبره.
إلا أن حادثة اختطافه قد ظلت في أرشيف المدينة كحادثة قذرة، ولطخة عار لا تمحى من جبينها. وهاكم تفاصيل الحادثة منظورا إليها من ثلاثة زوايا مختلفة. الزاوية الرسمية على لسان " الشوافة " كما نسميها، أي ابنة الكوميسير الحاج فليكس. الزاوية الشعبية وتتمثل في الخبر الذي أفشاه في حينا الحلاق عبد الله " الصْبانْيولي" هذا الذي يدعي انتمائه، إلى ولاء وثقافة الملك خوان كارلوس، حسب تصريحه الشخصي. والشخصية الثالثة أنا صديقه، والراوي الذي اطلع على مذكرته الوحيدة التي وقعت بين يدي، بعد سنين من اختفائه، والتي لم أطلع عليها أحدا لحد الآن.

حدثتنا " الشوافة " ابنة الكوميسير قائلة:

  إن حادثة الاختطاف قد كانت جريمة بشعة في حق الصبي. لأنها لم تغتاله وترميه كجثة كباقي الجثث المرمية عندنا، وإنما رمته كصبي لا حاضر ولا مستقبل له. تصوروا بأن هذا الصبي الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، قد شب رأسه بين عشية وضحاها. اغتصبوه وهوطفل، وصبيحة اليوم التالي استفاق وهوكهل. وحسب ما روى بأن الثالوث الجهنمي: أي كل من الخليعي وبوراس والخراط قد اختطفوه وساقوه إلى بيت خرب، يقع في عرصة المهرب عمي " دْوِيّبْ ". وراحوا يسكرون ويتحششون ويجهلون، وهم في الوقت نفسه يتناوبون على اغتصابه، لغاية ما فقدوا ما تبقى من الحيوان فيهم وسقطوا صرعى على الأرض من شدة الإعياء الهمجي.. حينها.. حينها فقط تنبه الصبي وركض هاربا في اتجاه مدرسة المدينة.

لقد كانت هذه الرواية الأولى. أما الرواية الثانية التي نقلها لنا الحلاق، فهي تختلف من حيث العرض والأسلوب بل وحتى التحليل النفسي للحادثة. ومما روى:

 خطر على الأمة أمثال هؤلاء.!

وأعاد رأس الرجل النائم على كرسي الحلاقة إلى محلها وتفرس في وجهه، وفي المرآة وتابع قائلا:

 الملاعين.. لقد أكلوا لحمه نيا لمدة ثلاث ليال متتالية. كانوا أبناء المعاصي ينامون بالتعاقب. كانوا كلما نام أحدهم اشتغل أخاه في الجريمة على جسد الصبي.

وتوقف عن الكلام وابتلع ريقه وتناول "دكة" من فنجان شايه المنعنع، وخرج متجاهلا ذاك المخلوق الذي كان متربعا على كرسي حلاقته، وباقي المخلوقات المتفرجة المزدحمة في داخل الصالون لمتابعة الحادثة. ترك الكل، وخرج إلى درج الصالون وتناول "سبسيه" واتكأ بظهره عرض الحائط الخارجي وراح مدخنا لحشيشته، وكأن العالم من حوله لم تعد له أية قيمة تذكر من الوجود. وحين ناداه من داخل الصالون الرجل المحلوقة رأسه إلى النصف:

  وا فاينك؟

أجابه الحلاق الصبانيولي بعبثية رهيبة:

  وإذا ما عجبكش الحال، مشي فحالك أشعكوك بوقجة والله يهانيك.!

ولم يستطع الزبون البسيط الثقافة والثياب والحالة، أن يرد أوأن ينبس ببنت شفة. في حين ظل الحلاق يدخن ويدخن ويكلم نفسه بين الفينة والأخرى، لغاية ما استوى متكيفا في مملكة الحشيش، وشعر بنفسه في إسبانيا بين يدي الملك خوان كارلوس وقد انحنى راكعا، مقدما بيعته بين يديه، وهوكله فرح وامتنان لالتحاقه أخيرا بهذه الأمة الإسبانية. شعر بكل هذا وعاد إلى صالونه من جديد وراح ماسكا بقجة زبونه متابعا روايته:

  لقد فعلوا فيه أبناء لوط وخربشوا وجهه، بل وبقية مرآته الجسدية بأمواسهم، وحين سقطوا أمواتا من شدة نباحهم، فر صاحبنا يحبوكطفل يتعلم المشي. لقد وصل إلى بيته وقد عاد إلى هيئة القردة، يا رب عفوك..! لقد كان يمشي على اثنين وثلاث وأربع. وبصراحة لقد مسخ وهوبريء، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم والله أعلم.

لقد كانت هذه الرواية الثانية التي انطلقت من حينا لتعم الأحياء المجاورة وتتفشى في باقي مدينتنا. أما الرواية الثالثة، روايتي أنا، فهي تستند على ما ورد في المذكرة الشخصية للضحية، تلك التي وقعت بمحض الصدفة بين يدي، ودعوني ألخص لكم أهم المقاطع التي وردت فيها:

 شدني من عنقي.. وضع شفرته على بطني وقال لي اشرب.. ولشدة خوفي شربت.. وشربت وشربت ورحت في نوم عميق وبدأ الكابوس.. كنت أرى نفسي في أرض سوداء وقد هجمت علي الغربان...

 كنت أركض في مقبرة والأموات في هيئة مرهبة، كانوا يحفرون قبري..!

  كان جسدي عاريا وكان رجل مخيف الهيأة يفتح بطني بموسى لتناول كبدي.. وأخرج قلبي ونظر إلي بعيون حمراء وراح يعلك روحي، ورحت في غيبوبة.. غيبوبة.. غيبوبة ألف.. لام.. باء.

لقد اختصرنا من مذكرته هذه المقاطع الدالة على عمق الحادثة والكارثة الطفولية. ونتساءل عقب سرد هذه الحادثة، كم هم أولئك الأطفال والطفلات الذين لم يتسن لهم مثل هذه الشهادة؟ كم عدد أولئك المعذبين عندنا والمغتصبين والمحتقرين والمُهَمّشين، أولئك الذين لا صوت لهم ولا هوية ولا حياة ولا موت؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى