الاثنين ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

صلاة ليلة السبت

ليس لي مُنبِّهٌ وإنما أفيق دوما على إيقاع ساعتي البيولوجية القديمة؛ تلك الساعة التي تـُروسُها المعدة والأمعاء والمثانة البولية.

الحقيقة هي أنني لا أفيق، بل أستفيق عنوة لأن أعباءَ جديدة تنتظرني.

عينايّ الشائختان والمثقلتان بآلاف الأحلام الأزلية، ترفضان الاستفاقة. لذا ترى يدايَّ الضاربتين في الزمن تدعكانهما في كسل.

قليلا، قليلا أرى المرأة التي أحببتُ كثيراً، مُمدّدة بجانبي كتحفة أثرية.

لم أعد أحبّها ذلك الحب الذي من أجله (لا من أجلها) ضحّيتُ بحريّتي المادية والأدبية. صرتُ أحبُّها حبَّ الأخ لأخته.

صرتُ غير قادر على نزع ملابسها سوى في حياء الظلام. قريباً جدًّا سأوقّرُها تماما ولن ألمسها إطلاقا.

هي غير قادرة على أن تستفيق؛ فهي عاطلة. عاطلة عن كل شيء بما في ذلك: الحبّ.

من الممكن أن يكون حبّها لي فتر هو الآخر فما عادت ترى فيَ سوى رجلا هرماً آتٍ من الماضي.

ربّما هي الآن تحلمُ برجل شاب وقوّي !

حاولتْ أن تستبقيني في الفراش بحركة موروثة عن زمن الأوهام وهي نائمة. أتعمّدُ إزاحة يدِها عنّي بضربة من كوعي وكأنني تحت طائلة كابوس. فتستدير إلى جهتها القديمة وكأنها لم تشعر بأيّة إهانة؛ فأنسحب من الفراش.

أرى في المرآة لِحْيةً طالها شيبٌ عصيّ، فألعن الزمن وآخذ صابونة ً فسّخها الماءُ وموسى حلاقة صدئاً ولا يختفي - كلّيا – الزغبُ القديم.

أتناول شاياً من إبريق عتيق وخبزا حمّصته الرياح الشرقية المُحْرِقة وزيتَ زيتون لم يعد أخضر.

ثم ألبسُ ملابسي الأثرية: جوارب هشة مثقوبة وبنطلون أبيض كان بنّيا ً وقميص ماوي كانت له ياقة وجاكيطة مقلوبة وزوج حذاء ظاهره الجِدّة وباطنه القِدَم. ثم أصفق باب البيت، فتتطاير منه قشور طلاء بطبقات عديدة من الألوان المختلفة، وأنصرف عبر درجات سُلّم العمارة الآيلة للسقوط.

أستقل سيارتي المصدورة وأسير بها على طرقات مهترئة إلى مقرّ عملي الذي هو هو منذ ربع قرن من الزمن وأعمل وأعمل بصدق قديم حتى الثانية عشرة، ثم أخرج إلى الخواء.

لا ! لن أرجع إلى البيت لاقتسام الطعام مع تلك المرأة البالية.

أتناول أكلة سريعة في بضع دقائق وأشرب قهوة سوداء مُرّة ثم أتدحرج بسيارتي إلى مكاني المفضّل.

أنادي على جرائد اليوم فأجدها جرائد الأمس. أشاهد أخبار السياسة في التلفاز فأراها مُكرّرة إلى حدّ البشاعة؛ نفس المظالم والحروب والفيتوهات المذلّة، ونفس الخذلان والوعود الكاذبة، ونفس الهروب، سيّان إلى الماضي أو على المستقبل...
فلا أفهم كيف أن العربَ يحلمون بمستقبل ظاهِرُه الحريّة وباطنه الاستعباد؟

فجأةً يهاجمني سؤال: ماذا كان اسمُ هُريرةِ أبي هريرة؟ وكيف لرجل عاش برهة من الزمن أن يروي لنا مليون حديث؟

أتجرّع ما تبقّى في كأسي السادسة، فيطيبُ خاطري إلى مهاتفة أصدقائي...رينْ...رينْ...مخاطَبُكم غير موجود، أو أنّه خارجٌ عن التغطية، أو أنّه أطفأ هاتفه لكيْ لا تزعجوه بمشاكلكم الأنانية، أو أنّه في جلسة مُحرجة... يقول لي صوتُ نسائي معدني.

أتساءل: لماذا لا نجدُ الأصدقاء لمّا نكون في حاجة ماسّة إليهم؟ وفي أيّة زاوية مظلمة من الزمن الرديء يختبئون؟

ولا جوابَ يأتيني وأنا في منتصف الكأس السابعة.

تجيئني فكرة: أن أرمي بمهتافي المحمول عبر النافذة فلا أفعل... إنّ لي فيه بقيّة أمل في امرأة تمتهنُ الحلاقة بمدينة أكادير المسائية.

اسمُها، لن أذكرَه، ولكنّها ذاتُ جمال لا يبلى وهي امرأة تفهم في الأدب والسياسة والاجتماع، ولكنّها لم تعد تحب الخوض في هذه المواضيع البالية.

قالت لي ذات مرّة: الاجتماعُ لنا، والسياسة لصحابها، والأدبُ لك.

فكيف لا أحبُّها وهي على هذا القدر العظيم من التبصُّر؟

وكنتُ سألتُها في ليلة قائظة:

  لماذا تحبّينني كلّ هذا الحب وأنا قاب قوسين أو أدني من السقوط في الهاوية؟

فقالتْ:

  أحبّك لأنّك تذكرني بالوطن؟

اليوم سبت؛ نهاية الأسبوع؛ نهاية الشهر؛ نهاية السنة؛ نهاية الأدب والاجتماع والسياسة؛ نهاية كلّ حبٍّ محنّط.
ولكنّني سأجعل من ليلته بدايةً لأحاسيس وأفكار وتصورات جديدة.

الثامنة ليلا... التاسعة عطشا... العاشرة خروجاً عن كل المؤسسات...ومع ذلك تصدر عني سلسلة من السلوكات الانعكاسية المُنمّطة، من قبيل إخماد محرك السيارة، والنزول منها، وصفقُ بابها، وإشعال سيجارة...

أمام دكّان الحلاقة المزيّن بأضواء نيون كاذبة، أرى يديها ترقصان المقص والمشط في شعر زبونة أمازيغية جميلة. تنمحي الزبونة، فتتجلّى ليَ هيَ في أبهى صور الحديث الصامت والحداثة.

تنصرف الزبونة وتقلِبُ (هي) نصَّ لافتة (مفتوح) إلى (مُغلق)، ثم تطفئُ الأضواءَ البُهرُجية لِتُضيءَ صالونَ حلاقتِها بأضوائها الخاصة: ضوء عينيها الخضراوين، ضوء بشرتها البيضاء، وضوء شعرها الأصفر...

كل ما في عشيقتي الجديدة أضاء المكان ليصيرَ بفعل الأضواء القـَوْقـُزحية الصادرة عن (تكشيطةِ)ها المطرّزة بِ (الصقلّي) والموَشّاة بالذهب، أ ليستْ نصّاً موءودا واتته الفرصة لكي ينبعث من رميم العشق؟ أم أنّ التكشيطة على موعد مع معشوق جديد لا أعرفه؟ أم أنّها غيرة متأخّرة فاضتْ من أحشاء القلب؟

ألقي بسيجارتي الرابعة على الأرض وأسحقها بحركة موروثة. أتقدّمُ خطوتين من مستقرّ العشق ثم أقف.

السير قـُدُماً نحو القلب الذي نعشقه حدَّ القلب، أمرٌ خطير؛ فإمّا أن نجدَه فنموت وإمّا لا نجده، فننتحر.

أراها - الآن – تستقيم قبالة الحائط وكأنّها ستشرع في الصلاة، في تبرّجِها التشكيلي الرائع. فأتقدّم حتى باب الصالون، فأراها شرعتْ في الصلاة فعلا.

فيا الله كم من الركعات والسجدات اقترفتِ المرأةُ التي أعشق كنبية والتي تعشقني كوطن !

وبعدَ زمن، أنهتْ تلك القدّيسة صلاتها وأدعيتها بنجاح. ذلك لأن المكان توهّجَ بأنوار غريبة.

وهي تلقي التحية على الملائكة، دلفتُ إلى الصالون. فاستجمعتْ أضواءَها وتقواها وابتسمتْ لي وقالتْ:

  مرحباً بك يا خالد. ثم سارعتْ لتغليق باب دكّانها وضمّتني إلى صدرها... صدر العبادة الجميلة.

ثم سألتني:

 ما موقفك من إعدام صدّام ومن تلك الجرائد الدنمركية التي أساءتْ إلى نبيِّنا محمد؟

فقلتُ لها:

 صدّام أكلنا لحمَه نهار عيد الأضحى، وتلك الجرائد غبيّة على كلّ حال.

فحزنتْ مقدار خطوة، وضمّتني إلى صدرها ضمّاً جديدا وقالتْ لي:

 أعرف أنّك صرتَ ذلك الرفيق الذي يتمنّى الموت لأنّه يتألّمُ تحت وطأةِ القدم، ولكنّك ستعرف معي كيف يستطيع الإنسان أن يحيى على الرغم من جميع أنواع خيبات الأمل.

ثم قبّلتني في فمي المتشقِّق من قـبل امرأة قديمة. قبلة دامتْ ساعتين،ثم قالت لي:

 إن شاء الله، سأُرمّمُ فمَك.

فضحكت، واستخرجتْ من مثلجة صغيرة قنينةَ شراب وسقتني منه من فيها...

في صمت وعشق وخشوع حتى منتصف الليل. ساعتئذ... في ذلك المقام الصوفي، اختفى الأدبُ والسياسة والإقتصاد...
وعندما حان الصحو، قالت لي بنبرة حزن جديد:

 والآن، عليك أن تُمشِّطَ مِعطفَك من شعري، وأنْ تغسل فمَك من فمي، وأنْ تسترجعَ حُزنَكَ القديم حتى لا تُحزنَ زوجتَك.

فلم أفعلْ؛ وقلتُ لها:

 زوجتي ماتتْ من زمان ولن أجدَ في بيتي سوى امرأة تقليدية تعكسُ شعرَها في الحناء وتطفئ الأضواء عندما يتوجّبُ علينا النوم ولا تحدِّثني أبداً في الأدب والسياسة...

وأضفتُ:

 هل نخرج إلى أحد الفنادق الأكاديرية الجميلة؟

فقالتْ:

 بشرط أن تترك يديك في جيبيك، فأنا من سيؤدّي الثمن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى