الثلاثاء ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم عبد الكريم بدرخان

شـارع الغوطة

ستة أرقام..‏

صمت.. ستُّ رنّات.. لا جواب، اللاجواب جوابٌ منطقيٌّ لسؤالٍ مستحيل.‏
ستُّ صرخاتٍ لطفلٍ جائعٍ يطلب ثديَ أمّه، ستّ صلواتٍ لمؤمنٍ يستعطف حِلم ربّه، وبكاءُ هاتفٍ تركْتهِ وحيداً.. مثلي.‏

ذاك الهاتف لطالما حسدْتهُ، وكيف لا..‏
إذ تنشله أصابعكِ الشمعيّةُ برفقٍ ونعومةٍ أنثويّةٍ فاتنة، لتضَعه على خدّكِ الدافئ، ثمّ ينسدل شعرُكِ فوقه شلاّل مطر، وتداعبه خصلاتكِ الحريرية كما تداعب النسمةُ دمعةً على الخدّ، وبعدها تبدئين حديثكِ الراقي، وتتوالى سمفونيّةُ أنفاسكِ التي تعانق روحي، عناقَ الندى مع بتلات الورود.‏
حديثكِ كان سحابةً ربيعيّةً جاءتْ على كفّ الأثير، لم تمطر، لم تحجب الشمس، ورحلتْ بهدوءٍ لتتركَ خلفها سيلاً من الذكريات.‏
(ما يكونُ الحبُّ؟ نوحاً وابتساماً؟!)‏

هل يسمح لي "السيّابُ" أن أقول: (جرحاً وابتساماً؟ أو بالأحرى).. (جرحاً وانهزاماً)!!‏
هذا القدر الذي يسحقنا، هذا الألم الذي يتربّع على سِدرة منتهى أمانينا، نبحث عنه بحثَ الفراشات عن أزهارها، ونهتدي إليه اهتداءَ العصافير إلى أعشاشها، ونتوق إليه توقَ الصحارى للمطر.‏
هو منطقٌ لا يعترف بمنطق، ورأيٌ لا يقتدي برأي، وحماقةٌ لا تجاريها حماقة.‏
هل كنتُ عاشقاً أم أحمقَ حين طلبتُ رقم هاتفكِ وأنا أوّلُ من يعلم برحيلكِ، وأنّ أحداً لن يجيبَ في الطرف الآخر، وأنّ بكاء الهاتف لن يجدَ من يُسكته؟‏

هل كنتُ أحتاج لستّ رنّاتٍ كإشارةٍ صوتيّةٍ تؤكّد رحيلكِ؟‏
أنا الذي حفظتُ رقم هاتفكِ غيباً، وودِدْتُ الحديث معكِ دوماً، لمَ لمْ أطلبكِ طوال الفترة التي قضيتها هنا وطلبتكِ بعد رحيلكِ؟‏
أكان اتّصالي بمنزلكِ الفارغ تنفيساً لرغبةٍ لا شعوريةٍ تريد التحقيق؟‏
أم كنتُ أحاول تفجيرَ دمعي في منزلٍ لم يبقَ فيه سوى... صوتُكِ المُزغردُ بين الغُرف.. وعِطرُكِ المُعشّشُ في الشراشِف!!‏

سأحاول تقبّلَ فكرة ابتعادكِ عنّي، وغيبتكِ الطويلة، وعلى الأغلب دون رجعة.‏
وسأتعلّم العيشَ دونكِ والموت دونك، وسأعتاد السقوطَ على ركبتيّ مهزوماً، وأرفع رأسي فلا أرى من صرعني، ولا أعرف من ثنى ركبتيّ، ولا أدري ما حصل لي.‏
لقد أزمعتُم الرحيلَ، وحزمتم المتاعَ، وبانَ الخليطُ غداةً..‏
حبسوكِ في الهودج، ونزَحَتِ مع الظعائنِ من رمالٍ لرمال، حلٌّ وارتحالٌ وسفر، من مكانٍ لمكان، هل من المعقول أنّ مدنيّتنا لم تبلغ بعدُ طوراً ينسينا الترحالَ ويعلّمنا الاستقرار؟‏
أم أنّ حليب النوق كحليب الأمّ.. لا يُنسى ولا يُعلى عليه.‏
نعم رحلتِ.. وما يفصلُ بيننا الآن إلاَّ الرمال، كلّما نعشقُ يُفجعنا البينُ، ويدفنُ الرملُ أحلامنا، ومازلنا لليوم نُطعمُ أدبنا خبزَ ملّةٍ ونحلّيه رُطَب.‏

لماذا تتشعّب كلّ هذي الطرق إذا كانت ستبلغ نهايةً واحدةً هي: أنتِ.‏
يقولون أمامنا ثلاثةُ طرق..‏
نبدأ بطريق الولادة، وننتهي بطريق الموت، أما الطريق الثالثة فلكل خاصّتهُ.‏
وطريقي الثالثةُ.. هي طريقي إلى قلبك، فلولا هواكِ لاتّصل طريقُ ولادتي بطريق موتي، وانتهى عمري كأنّه ما بدأ، ولمرّتْ بي الأيامُ مرور الكرام، ولكنتُ رشفتها دون أن أتلذّذ بأيّ طعم.‏
فهل لي أن أسألكِ الآن أين طريقكِ الثالثة؟‏
إنّه قدرُ كلّ عاشقين أن يضلاّ بين مفارق الزمن، وقدرُ كلّ سنونوةٍ جميلةٍ أن تهاجرَ مع أسراب السنونو، لماذا الطبيعةُ تحكمُ كلّ شيء؟‏
وهل دورةُ الحياة التي تنبعثُ كلّ عامٍ في قلب الترابِ تنبعثُ أيضاً في قلب العاشق؟!‏

كانت أيّاماً لا تنسى تلك الأيام، كنّا نصعدُ السلّم بخطوةٍ واحدة، ونعيشُ اللّحظة عن عمرٍ مرَّ وعن عمرٍ يأتي، ما كان بيني وبينكِ..‏

لم يكُ معرفةً قديمةً وذكرياتٍ مشتركة، ولم يكن أيضاً صدمةَ النظرةِ الأولى، ما كان بيننا.. كنّا نحسّهُ يكبرُ في قلبنا.. كنَّا نراهُ يسبحُ في أحداقنا.. كنّا نسمعه يبكي في صمتنا، ما كان بيننا..‏
كان وردةً غرسناها في التراب، نسقيها أحلامنا مع الندى، ونحكي لها حكايةً قبل أن تنام. أما الآن فلا شيء سوى الذكرى، وسوى الحسرةِ والغصّات، آخرُ ما تركْتهِ لي كان تلك المكالمة التي فتحتها من المطار، لا أدري كيف كسرتِ الحصارَ البريّ والبحريّ والجويّ لتجدي وسيلةً تكلّميني بها، ولربّما تغاضتْ والدتكِ عن ذلك، وسمحتْ للمحكوم بالإعدام أن يقولَ آخرَ ما يريدُ قبل تنفيذ الحكم بحقّه.‏

كانت إفادتُكِ أحلى ممّا تصوّرتُ يوماً، كانت همساً.. بوحاً.. سحراً، كانت وحياً.. آياً.. تنزيلاً، كلماتٌ مبعثرةٌ تقطعُها الشهقاتُ وتوصِلُها الدموع، حفَرَتْها أناملُ صوتكِ على جدارِ قلبي:‏
(..آسفة.. رَحْ اشتقلك.. راجعة.. لك والله راجعة.. خَلَصْ بقى.. أنا إلَكْ.. بحبَّكْ..)‏
أتساءل أحياناً هل حقاً كلّمتْنِي؟ أم كنتُ أحلم؟‏
مسكينٌ أنا، بل أنتِ المسكينة، لا تعرفين حتّى.. إلى أين، ولا متى الإياب، وضعوكِ في زجاجةٍ ورموكِ في البحر، فهل البحر آمنُ منّي؟!‏

كلّما نظرتُ إلى التقويم المعلّق على جدار غرفتي، ذهبتْ عيناي إلى تلك الدائرة الحمراء، وذابت حُمرتها في دمع عيوني، تلك الدائرة وضعتُها حول ذاكَ الخميس، ليس لتذكيري بما لا يمكن نسيانه، بلا لأميّز هذا اليوم بالذات عن كلّ أيام السنة، عن كل أيام العمر، إنّه يوم موعدنا الأوّل.‏

أتذكّر كيف انتظرتكِ في شارع الغوطة، كعادتي أيام الثانوية، عندما كنّا نترقّب انصراف البنات من المدرسة بعين الشوق، وكنتُ أعاني نفسَ المشكلة: كيف يُحسب الزمنُ عندما نكون على أمل اللقاء بمن نحبّ؟‏
أخذ مدُّ الشكوكِ يعلو سواحلَ يقيني، وأنا أجوبُ الشوارع جيئةً وذهاباً، واختلقتُ لكِ تسعةً وتسعين عذراً، قبل أن أستسلم وأقف في المنتصف.‏

لا أعرف من أيّ جهة ستأتين، من أيّ جهة ستهبّ العواصف، لأيّ جهةٍ ستسجد الأشجار، من أيّ جهة يصعد القمرُ ليعتلي عرشَ السماء؟‏

من المنتصف.. من الشارع الفرعي.. أتيتِ‏

من عتمة النسيان.. من منعطف الذاكرة. أتيتِ‏

مع انبهاري بحضوركِ.. مع انعكاس سحركِ على ماء عيني.. أخيراً أتيتِ.‏

أسود بأسود، من أخبركِ إنّي أحبُّ الأسود؟‏

والليلُ ينزلقُ على كتفيكِ حريراً يغزلهُ النسيمُ ويلبسه القمر، في ظلمةٍ كهذه يسطع البدرُ وسط السواد ويتّجه نحوي..، حاجبان يرتفعان ليمنحا العينين مساحةً أكبرَ لضَيَاعي، وابتسامةٌ واثقة، تجاورها غمّازةٌ، حولها تدور الكواكب وفي منتصفها مركز هذا الكون، لا أجملَ من تحيةٍ قالتها عيناكِ، لا أجمل من صمتٍ يكسرُ آلاف الأشياء، ويختصرُ تاريخ اللغات.‏

النسيانُ نعمةٌ كبرى، لكنّ الله سبحانه لم ينعم عليّ بها، بل ابتلاني بوجع الذاكرة، مازلت أذكر كلّ شيء، أصغرَ الأشياء، تفاصيلَ التفاصيل، كلّ حركة.. كلّ نظرة.. كلّ كلمة، أذكر جميع لقاءاتنا من الألف إلى الياء.‏
بدايةً كان يلزمكِ الصبرُ، لتعتادي على حديثي الذي لم تسمعي من قبلُ مثلَه، ويلزمكِ الصمتُ أيضاً، كي لا يشي بكِ الطَرَبُ عندما أعزفُ على أوتار قلبكِ الحساسة، والتي لم تألفِ التختَ الشرقيّ.‏

يوم سألتني في الكافيه لمَ لمْ أطلبْ شيئاً لي؟ أجبتُك:‏

(ما جئتُ لأشرب شيئاً..، جئتُ لأنزل مرساتي قربَ شواطئك، واتركَ مسافةً قصيرة، يمكنني قطعها بزورقٍ سريع، ولكن ليس بهذي السهولة، فأي خطأ ملاحيّ سيودي بي إلى القاع، غارقاً بين سفينة أحلامي وشواطئ قلبكِ).‏

وحينها اتّهمْتني بأنّي أكتب (حكياتي الظراف) على يدي في البيت، وأتلوها أمامك!‏
كنتُ حذراً في كلّ كلمة، صادقاً منذ البداية، ألبس التواضعَ درعاً أحتمي به من سطوة حضُوركِ المُربك، أتسلّح بالبراءة كي أصحّح بها زلاّتِ قلبي أمام فتنةِ روحكِ اليافعة.‏

آهٍ يا زمن.. أين تلك الأيام؟‏
هل طحنتها الأقدارُ طحنَ الرحى؟ ونثرتها الرياح؟!‏

هل حقاً أحببتك؟‏

الآن فقط أمتلكُ الجرأة على الاعتراف، نعم أحببتكِ جداً، نعم أنتِ.. بعربيّتكِ المكسّرة، بصداقاتكِ الكثيرة، بعلاقاتكِ قبلي وبعدي.‏
رغم كلّ ما حدث وكلّ ما لم يحدث فقد صبرتِ عليّ كثيراً، وأعطيتني أكثرَ ممّا أستحقّ.‏

حبّكِ كان زلزالاً حطّم كلّ النساء اللواتي صنعتهنّ من زجاج، وجعلني أريدكِ أنتِ، بل أحتاجكِ أنتِ.. صديقةً.. حبيبةً.. زوجةً.. أمّاً.. وطناً، جعلني أراكِ قبيلةً من النساء في واحدةٍ لا يتجاوزُ طولها الــ 160 ولا يزيد وزنها عن 50.‏
والآن أخرج ليلاً، أتمشّى وحيداً، أبحث عنكِ في الشوارع الغافية تحت حزن القمر.‏

هنا.. مرَرْتِ في شارع الغوطة، فمادت الأشجار تجاهك، وأخذت الأوراقُ تتطايرُ وتتزوبع مشكلةً جسراً من الشكوى، ومحراباً يرفع ابتهالاتِ الأرض للسماء.‏
هذه (الحمراء).. وتلك المقاهي التي اعتادت وجودكِ، تسأل عنكِ، وتبكي غيابكِ، وتدعو رجوعكِ بالسلامة.‏
هنا جلسنا.. هنا مشينا. هنا أمسكتُ يدكِ.. وهناك ضحكتِ.‏

هنا وطأتِ الرصيفَ.. فانصدع، وخرج الماء تحت قدميكِ ليقلب الحجارةَ عشباً، ويُطَعّم الأشواكَ ورداً، ويضوّعَ الدروبَ رومانساً.‏

بالمناسبة أما زلتِ تحتفظين بصورتنا؟‏

تلك التي التقطناها في الحديقة أوّل شارع (الخراب) ذات مساء؟‏

حمداً لله، إن ضاعتْ صورتي في ذهنكِ، فقد تجدينها في ألبوم الصور.‏

أما صورتكِ.. فهي إنسانُ عيني، وهي ترفضُ السفر، وهي تجبرني على رفض النساء بعدك، وتبغِضُ لي الفتيات اللواتي حُضّرن منذُ ولادتهنَ أن يصبحنَ زوجاتٍ صالحات، عكسكِ تماماً. لكنّي حتى الآن لم أفهم سرّ عدم إعجابكِ بمدينتنا؟! كنتِ تحتجّين بأن أهلك يحدّدون لكِ أوقات الخروج والعودة وتفاصيل الزيارات والأشخاص، ويردّدون على مسامعكِ: (..الجيران.. أهل حارتنا.. الناس بتحكي.. كلّن بيعرفونا...)، لا أدري ما المشكلة؟ فجميع ما تقوله والدتكِ صحيح، وهذا ما تطلبه أيّ أمّ من ابنتها، وكنتِ تستغربين.. وتسخرين.. ولا تعلمين لماذا؟‏

أنتِ بطفولتكِ التي عشتها في الخارج، وبتربيتكِ في المدرسة الأمريكية، وبعقليّتك المنفتحة على الجميع، وبنظرتكِ البانغلوسية للحياة، لم يخطر ببالكِ مطلقاً أن يأتي يوم تعامَلين فيه بغاية القسوة من قبَل عائلتك، ولم تتوقّعي أبداً أن يمنعكِ أهلكِ عن شخصٍ تحبّينه.‏

وأنا لم أُرِدْ يوماً أن أكون سبباً للمشكلات، وأن تحبسكِ أمّك في المنزل، ولا تسمحَ لك بالخروج إلاَّ برفقتها، وأن تقطع عنكِ كلّ وسائل الاتصال بالعالم الخارجي، كلُّ هذا كان بسببي.‏
يمتلكُ الأهلُ سذاجةً غريبةً تجعلهم يظنّون أنفسهم أذكى من أولادهم، ويحسبون أنّهم قادرون على تسييرهم وفقَ إرادتهم كأحجار الشطرنج، ولا يعترفون بهزيمتهم حتّى لو هزموا.‏
هِيَ ذي والدتكِ.. تركَتكِ وحيدةً في المنزل، لكي تقومي بأعمال التنظيفِ والترتيب، بينما تقوم هي بزيارة بيت أختها.‏
كما تركوا ساندريلا ذات ليلة، فجاءتها الساحرةُ وأرسلتها إلى قصر الأمير، فهل ساندريلا القرن الواحد والعشرين ستنسى الأمير؟ وأميرُها المدنفُ يتلظّى بنار الهوى؟!‏
كلّ شيءٍ كان ممكناً ذاك المساء، كان أذانُ المغرب يصدحُ في الأجواء، كانت زقزقةُ مفاصل الباب تعلنُ البداية، البابُ يغلقُ بهدوءٍ وتُوصدُ السقّاطة، كان صوتُ المسجّلة الخافتُ يوحي بالترحيب ويشي بالوحدة الموحشة، كانت الأريكةُ الحمراءُ تتسّع لاثنين، وعيناي تدوران هنا وهناك، وكأنّ الأحداق مركبةٌ على زئبق، كان الشعرُ الأسود يسافر في كلّ الدنيا، ويعود كالعصفور لينام على كتفين من كريستال، كانت الألغاز تسبح في عينيكِ، إنّها شيفرة الأشعة السوداء.‏

وسط هواء المكيّف الباعث للقشعريرة، والمُغري بالنوم على القطن الدافئ، كنتِ تقشّرين لي تفاحةً، وكنتُ بدوري أتأمّل معجزة يديكِ، تُرى كم استغرقَ نحتُهما في مملكة السماء؟‏
كان عطرُكِ يغزو الغرفة، يحتلُّ المكان، يتغلغلُ في شراييني، ويصبُّ الزيتَ على النار، ويزيد الحصارَ حصار.‏
كان كلامُ الحبِّ وجيبَ القلوب، والهدوءُ شرطٌ أساسيٌّ لكينُونته، كانت الذراعُ الممدودة للأعلى كعمود رخام، تبحث عن زرِّ الإيقاف، وكان الجسدُ الناعمُ يتلوّى كزهرةٍ على رابية، كلّ شيء طبيعيٌّ لحدِّ الآن، وكنتُ أريد الهدوءَ مثلكِ تماماً،‏

أذكرُ أنّ آخرَ ما سمعتُ من الأغنية كان: (أنا يا عصفورةَ الشجنِ.. مثلُ عينيكِ بلا وطنِ)
قبل أن ألمحَ قطرات الندى ترشحُ من ياسمين العُنق، وتلمعُ على بانة الظهر..... لا يمكن حصرُ المارد في القُمقم، ولا يمكن حبسُ الحمم داخلَ البركان، كانت تلكَ لحظةَ الانفجار العُظمى، وعندها اِنتَفَضْتِ مثلَ سمكةٍ علِقَتْ في شَرَكِ الصياد.‏
كنّا ننهلُ ماءَ العشق بعد طول أوام، كنّا نتمنّى الموت معاً، فهو خيرٌ من العيش على مَضَض.‏

أسئلةٌ كثيرةٌ تشغلني وتدهشني ليلَ نهار، أعصرُ تفكيري وأعتّقه طويلاً فيخرجُ الماءُ ماء، هل هناك أسئلةٌ بلا أجوبة؟ أم أنّ وجودَ الجواب يعدم السؤال، كيف علمتْ والدتكِ؟ هذا ليس سؤالاً كبيراً، وكيف أحاسبُكِ على ما أجبرتُكِ عليه؟ أيضاً سأجدُ حلاً، وكيف كيف وصلنا إلى هنا؟! هل انتهينا؟ ولماذا بهذي الطريقة؟‏
تُرى ما تفعلين الآن في المنفى؟ وكيف تنظرين إليّ؟ وهل ستحتفظين بي كأيّ ذكرى جميلة؟ أم تُراني كابوسٌ راودكِ وتخلّصتِ منه.‏

ثمّ ما هذا الحلّ الذي وجدَتهُ عائلتُكِ؟ وكأنّي أنا الخطرُ الوحيد في العالم، وكأنّ وجودي دون جواز سفر يهدّد الأمن والسلامة.‏
ما لستُ أفهمهُ ولن أفهَمهُ يوماً..‏
لماذا تفعلين ما تشائين هناك؟ وتعيشين حياتكِ على الطريقة الغربيّة، بحريّة مطلقة، وعندما تسكنين هنا تصبحين همّاً على كتف العائلة؟!‏

لماذا تتغيّر المعايير؟ فهل المقياسُ هو أنتِ؟ أم مزاجُ والديكِ؟ أم أهل الحارة؟ بل الغريبُ أشدّ الغرابة..‏
هل الهروبُ بالفتاة من الشرق إلى الغرب يحمي سُمعتها وسمعة عائلتها؟‏
أم أنّها ستضيعُ في زحمة السير هناك؟!‏

لابدُّ للتجربة الأولى من أن تنتهي، فلن يغدو الحبُّ حبّاً أوّلاً إن لم يكن له ثان، أنا لا أجد عنواناً مناسباً لقصّتنا: (حبٌّ جنونيٌّ، حبٌّ طفوليٌّ..)، ما نفعُ الوقوف على الأطلال؟‏

اليوم وصلّتني أخباركِ، وعلمتُ أنّكِ مقيمةٌ مع والدكِ في كندا، الحمد لله على سلامتك، لا أعرف أين تقع تلك البلاد، لكنّها بالتأكيد بعيدةٌ وباردة، بل وكبيرةٌ وفيها الكثيرُ من الناس، أنا واثقٌ تماماً أنّكِ لن تجدي فيها رجلاً يحبّكِ مثلما أحببتك، رجلاً يخاف عليكِ كما أخاف أنا، يغارُ عليكِ كما أغارُ أنا، رجلاً يجعلكِ تبيعين الدنيا ويُهديكِ بيتاً فوق السحاب.‏

غداً ستدخلين الجامعة، وستعرفين أصدقاءَ جدداً، بعضهم نساءٌ وبعضهم رجال، وستقعين في شباكِ الغرام، وستملكين حبيباً آخر، بعد آخر، كلُّهم يطلبون رضاكِ، ويبغون إسعادكِ، ويعملون على إبقاء الضحكة على وجهكِ، ويهرّجون لتسليتكِ، لكنّكِ لن تعرفي نعمةَ الدمع إلاَّ معي، ولن تذكري طعمَ الآه إلاَّ إذا ذكرْتني.‏
لو كنتِ تدرين ما ألقاهُ من حزنٍ على فقدك، لو تعرفين حالتي بعدكِ، عينٌ بلا دمعٍ، قلبٌ بلا نبضٍ، جسدٌ بلا روحٍ، كلُّ الأشياء تغيّرتْ وانقلبتْ، لم يبقَ شيءٌ كما كان.‏

حتى شارعُ الغوطةِ الذي كانت بيتَ غرامنا، وعشَّ مواعيدنا، ومنطلَقَ رحلاتنا، هاهم يقطعون الأشجار، ويقلبون الرصيفَ رأساً على عقب، شجرٌ بعُمر المدينة، وبذاكرةِ الطيور المهاجرة، قلعوهُ.. قتلوهُ.. وأدوهُ، فكيف سيعرف السنونو طريقَ الرجعة؟!‏

آخرُ الأشياء الغريبة التي اكتشفتُها، هو المرضُ الذي أورثتِهِ لي، أو العادةُ الجديدةُ التي أمارسها قبل النوم، أنا ما توقّعتُ يوماً أنّي سأكتُب، وأنّ دفتر المذكرات سيُستخدم لوظيفته الأصليّة، لكنّني فعلاً غيّرتُ عاداتي، أصبحتُ مختلفاً، من يوم أن دقّت على بابي أناملُ حبّكِ، فهل الكتابةُ صديقةٌ جديدةٌ اتّخذتُها عوضاً عنكِ؟‏

أما أنّها المولودُ الجديدُ الناتج عن علاقتنا الشرعيّة؟!!‏


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى