الخميس ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

صورة فوتوغرافية

بقلم: سهيل ياسين

عائدون من والى اللامكان، مقيمون على قلق عند أطراف المغرب القصي، قادمون من أعالي الشمال العربي الأفريقي، خائبون من عبور المتوسط، طريدو خفر السواحل،ضحايا صفقات سماسرة التهريب، متسللون من طرابلس الغرب، سيرت، بنغازي، القاهرة ومدن اخرى، عراقيون يمخرون عباب خليج العقبة ضد رغباتهم إلى عمان، حيث العودة إلى خط الشروع الأول، يتقصون رائحة الخلاص الأبدي، في زمن التيه والتأمر الخفي، مهاجرون من أجل الهجرة إلى حيث لايقيمون.. ولأن مواطئ الأقدام في البلاد العربية الغريبة هشة وقلقة، فلا نهاية للمطاف ولامواضع للرحال.

عراقيون جمعنا ركوب البحر الذي لم نألفه سابقاً، شتات صغير يلتئم على متن عبارة مصرية لم تقدنا اليها غير الخيبات المتلاحقة والفقدانات العديدة المتكررة، لسنا مخالفين للقانون ولانحمل بطاقات سفر أو أوراق ثبوتية مزورة، فقط كوننا عراقيين محاصرين، ندفع أثماناً باهظة وضرائب لاتنتهي بفعل حماقات الحاكم القومي المصاب بعقدة النار، إبان عقد التسعينيات بكامله وماتلاه من فضائع لاحقة.

نعم أني أتحدث الأن، من وحي صورة فوتوغرافية، آلفت بين غرباء عراقيين من أنحاء مختلفة، لا أحد يعرف أحدا مسبقاً سوى الانتماء للوطن المشطر بالحروب والحصارات.

أحاول قراءة مالايقرأ، يميناً إلى جواري طالب جامعي ابتسم للكاميرا كذباً وبتكلف واضح ولا اظنه جاء طوعاً أو رغبة منه للسياحة والسفر، كما كان يدون عادة في جوازاتنا ونحن تحت وطأة جحيم وحرائق صدام، عبرنا مدناً عربية كثيرة، واجتزنا نقاط تفتيش عديدة بأوراقنا الرسمية والثبوتية المضخمة بحبر رجال الجوازات وشرطة الحدود الذين لم يمنحونا سوى تأشيرة المرور أو العبور لمرة واحدة، في أكثر تقدير.

إلى يساري رجل ايل للكهولة، يحدق في عمق الخليج بعين مطفأة، ونظرة خائبة،بعد طاف على الشوارع وابواب المحلات عارضاً بقايا قواه للعمل دون جدوى.. وفي قلب الشتات الذي جمعته اللحظة الضوئية للكاميرا كان يقرفص فنان تشكيلي اعتمر قبعة بيضاء، أغلق مشغله في بغداد قبل عام أو عامين.. حاملاً فرشاته وأدواته إلى عواصم بدوية لم يلبث أن غادرها، بحثاً عن العيش الكفاف، مقابل ألا يتنازل عن فئة لأجل حفنة من دولارات نظير بورتريهات وبوسترات مكبرة لحكام ومستبدين.

شاب في مقتبل الثلاثين، أشاح بوجهه بعض الشيء عن العدسة، مستنداً بيد إلى السور الحديدي للعبارة الهرمة ومشيراً بأخرى إلى ظلال بعيدة، في الجانب الفضي من الافق.لااعرف على وجه الدقة والتحديد ما دار في باله وما جال في ذهنه المشوش، دون شك، لحظة اللقطة المؤبدة، ترى هل عمل عتالاً مثلي في ميناء العقبة على أمل الهروب سراً في إحدى البواخر، بعدها اعرضت عن الفكرة وأبعدت عن العمل عندما ضبط بعض أصحابي والقي بهم خارج الحدود، مخفورين إلى سلطات بغداد العروبة.

في الصورة وجوه محتشدة بملامح كالحة، صامتة، شاحبة، انضمت إلى بقعة الضوء الفوتوغرافية، هكذا كنت ابصرها ممحلقاً في مرايا العيون الغائمة افترض للعديد منها أو رسم لها احتمالات شتى ومصائر مقبلة في عودتها الخائبة المقلقة لمدينة عمان، مثابة المهاجرين العاطلة وبداية الصراط الاوحد العصيب للعراقي القادم من بغداد براً وقسراً.

مهما كانت قراءتي واختلف تكهناتي في خطوط الصورة وخلائقها وتشظت ظنوني بها، فهي لاتعدو عن كونها صورة واحدة فقط لعراقي عانى العزلة والحصار، عراقي توزع في جسوم ووجوه مختلفة متعبة، بعد أن وصلت أرض مدينة لاتبتسم، بلدة عمان مفترق الطرق إلى الجهات المجهولة، اتفقت على أن تلتقي في اليوم التالي مرة واحدة وإلى الابد في الساحة الهاشمية.. فكان الموعد خاطفاً وعاجلاً اقترحه صاحب الكاميرا ليعطي كل منا نسخة أو نطبع ما نشاء منها لمشهد فوتوغرافي لعراقيين موحدين في غربتهم.. نعم ها انذا احتفظ بنسختي الوحيدة والمؤرخة منذ أكثر من عشرة أعواماً.

كلما حاولت أن أبحث لها عن تعليق مناسب أجدني عاجزاً تماماً عن الإتيان به ولم اكتب شيئاً حتى هذه اللحظة على ظهر الصورة الخالدة،لا لأني أجهل اسماء من كان معي أو لكوني لم أعرفهم سابقاً، بل اكتشفت بمرور الأيام أن الصورة كانت أبلغ من التوصيفات والتعليقات كلها.

بقلم: سهيل ياسين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى