الأربعاء ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩

الربيع قادم

بقلم:علي غدير

حدقت ملياً في المرآة المنضدية الكبيرة، التي تربطها بها ذكرياتٌ قديمةٌ، تمتد إلى أبعد من ربع قرنٍ بقليل، إلى أيام البراءة التي لا توصف، ولا تعود. لم تصدق ما تراه أول الأمر، فأسرعت تبحث في الدُرج، عن مرآةٍ صغيرةٍ، غالباً ما تستعين بها ساعات التجميل، وأملت النظر حول عينيها:

  أيعقلُ أن تكون المرآتان قد تردَّيتا في آن معاً؟! أم أنني أنا، من أمست رديئةً؟

دققت في البحث أكثر، وتنقلت من زاويتي عينيها، لتدور حول فمها، وقرب أرنبتي أنفها، وتلمّست خطوط التجاعيد بأنملتها، كعِرِّيفِ تُحَفٍ يتلمس آثار الشروخ، على سطح قارورةٍ، عمرت آلاف السنين:

- ما هذه الأوديةُ التي غارت في وجهي؟ هل شِختُ في ليلة وضحاها؟

حاولت أن تتذكر أحلام الليلةِ الماضية، وهل راودها حلمٌ مرعبٌ، زرع هذه الأخاديد كيفما اتفق على وجهها الحنطي؟ لكنها لم تتذكر شيئاً.

بعثرت الأغراض داخل الدُرج، وهي مستاءة تبحث عن مرطبٍ اشترته قبل أسبوعٍ، بعد أن اطَّلعت على الإعلان الخاص به في التلفاز، قدمته فتاةٌ بلهجة لبنانية: (بيرَجَّعِكْ عَشَرْ سنينْ لَوَرا).

وجدته، فأمسكت به بكلتي يديها، وقالت مخاطبةً، كمن يرجو الشِفاء من الرب:

- لا أريد عشرَ سنين، لا أريد أكثر من خمس سنين، أعدني إلى ما كنت عليه في الثلاثين، سأرضى بذلك.

أوغلت في الدعك عميقاً حولَ عينيها، اللتين بدتا صغيرتين، تلكما العينان اللتان كانتا مضرب الأمثال بين الأقارب، قبل عُمرٍ.

سقطت سبابتها بسرعة من واحتي عينيها المغرورقتين، لتتوقف فجأةً عند سفح الشفتين الرفيعتين، اللتين سبّبتا لها عقدة تاريخية، لا تفارقها ولو للحظة، حتى ترسبت في قرارة نفسها أكثر فأكثر، بعد أن شبت موضة نفخ الشفاه بين الفنانات والشهيرات مؤخراً، لتبدو وكأنها هي الوحيدة الغريبة بين نساء العالم، ذات الشفتين الخيطيتين.

لكم حارت وهي تفكر بقبلةٍ من حبيب، هي التي لم تعش قصة حب جسديٍّ ولو لمرةٍ واحدةٍ في العمر. كيف سيتلقف الحبيب شفتيها المعدومتي الضمة؟ وتوهمت دوماً أنها لا تجيد فن التقبيل بهاتين الكارثتين، اللتين أبتا أن تنتفخا، برغم المحاولات السرّية لاستخدامات المراهم، والحركات التدليكية التي لم تُجدِ فتيلاً.

عزاؤها كمن في أسنانها المنتظمات الناصعات البياض، حتى لكأنها بدت حباتُ لؤلؤٍ، تنتظم خلف جدارين رقيقين، يكشفان عنها بسهولةٍ، كلما حانت ابتسامة.

- ويحي... كيف لم انتبه إلى هذه الخطوط، التي ملأت وجهي، ولم استغرب نظرات زميلاتي، التي أضحت أكثر تدقيقاً، وأقل إعجاباً؟ ما عساي أن أفعل بخمسة وثلاثينَ خريفاً، لم تمطرهن غيمةٌ مازنةٌ واحدة.

لملمت أغراضها بحزنٍ ثقيلٍ، خيم على رأسها، الذي كساه الشيبُ الدفين، تحت لون الكستناء. الشيبُ الذي اندلع دون سابق إنذار، ولا لاحق إخماد! الشيبُ الذي عزته أمها، إلى عوامل الوراثة المكتسبة عنها. يا لكراهية الميراث في بعض الأحيان، خصوصاً؛ حين يتعلق الأمر بالجمال، فيورث شيباً مبكراً، وشفاهاً دقيقةً. ولا يشكّل الشيبُ تلك المشكلةُ العويصةُ، إذ هو مألوف لدى الجميع، ويمكن تفاديه بيُسرٍ وسهولةٍ. أما الشفاهُ فهي معضلةٌ تنطوي على آلامٍ جسام، لا يُحسها إلا من ألمّت به.

أسبلت (نجوى) ذراعيها البيضاوين، على مسندي الكرسي الدوّار، في مكتب الأرشيف، وتأمّلت اللوحةَ الكبيرةَ، التي علقتها قبالتها، بإطارٍ ضخمٍ مُبرّز، لوحة الجملِ الذي يحمل هودجاً على ظهره، لينود به، وينوء تحته، في صحراء شاسعة. تذكرت كلمات التملق، التي برعت فيها زميلاتها الموظفات، في امتداح اللوحة، وكأنها لوحة (زهرة الشمس) لـ(فان كوخ)، ورحن يعبّرن عن آراء مَشوبَة، بمعلوماتٍ فنيةٍ غثةٍ، وأغلب ظنهنَّ، أن اللوحةَ تُعبر عن الصبر، وقوة الاحتمال، وتحمل المسؤولية، بلا مقابل ولا أمل. وقد فاتتهن جميعاً، صفةٌ جميلة لدى الجمل، صفة غابت عن أذهانهن، وعَلقت في قلب (نجوى) طويلاً، تلك هي الشفاهُ الغليظةُ! فحتى الإطار كان غليظاً ملفتاً للشفاه الرفيعة.
جالت (نجوى) ببصرها المتعب، بين رفوف مكتب الأرشيف الطويلة، التي حملت عِبر السنين أوراقاً باليةً، اصفرّت وتقادمت وتآكلت أطرافها وانبعثت من طياتها، رائحةٌ عفِنةٌ، تبعث على الكسل، ما إن يحين منتصفُ النهار، حينها؛ يتسلل الخدر إلى جفني (نجوى)، فلا ينفع معه تحريك أصابع القدمين، لطرد النعاس الثقيل الوطأة. لكن النعاس لم يهتدِ إلى سبيله اليوم، كعادته، فقد ظل فكر (نجوى) متقداً، مهيأً لقدح الزناد؛ فاليوم ليس كسائر الأيام، إذ سيشرّف المكتبَ، زميلٌ جديدٌ. فإثر الزيارة الميدانية للمدير الجديد، وملاحظاته الكثيرةِ، على سوء تنظيم قسم الأرشيف، تقرر استخدامُ أحد الموظفين البارعين، في تنظيم السجلات والأضابيرِ، لمدة شهرٍ في القسم، ليحاول هذا الرجلُ، لملمة ما نثرته امرأةٌ خلال أيام ثورتها الباردة.

  هل سينجح في ما وكِّلت إليه من مَهمة؟

تساءلت (نجوى)، وهي تتذكر بقايا بيت من الشعر، (... وما نفعُ بانٍ خلفهُ ألفُ هادمِ؟) وراحت الأسئلة تتوالى تترى: (هل سيكون له، خلال شهرٍ من العمرِ، أثراً في حياتي الطويلة الرتيبة؟ هل سأسمح له – وهو الغريب – أن يرتّب خباياي العتيقة؟ هل ستنشأ بيننا قصة ما؟ قصة حبٍ فاشلةٍ أخرى أضيفها إلى ما سبق.).

لم تنقطع سلسلة الأفكار المضطربة، في رأس (نجوى) المتصدّع من سهرة الأمس العقيمة، مع أختها الصغرى، ابنة العشرين ربيعاً، التي لم تتوانَ (نجوى)، في نُصحها بالزواج، من أوَّلِ طارقٍ لبابها، دونما ترددٍ، لئلا ينالها ذات المصير، الذي حطّم حياة أختها الكبرى. كانت (نجوى) تعيش الجرح مرتين، مرةً ثقيلةً بسبب معاناتها، وعدمِ إفلاحها في الارتباط بالشخص المناسب، بعد أن رفضت كل من تقدم لخطبتها، بحجة أن هذا طويلٌ، وذاك قصيرٌ، وهذا أصلعَ، وذاك بطينٌ، حتى مرَّ الزمنُ، فلم تجد ولو بقايا رجلٍ تتكئ عليه. ومرةً أثقلَ، وهي ترى التجربةَ تكادُ تتكرر من جديدٍ، في فشلٍ آخرٍ متمثّلٍ في أختها الصغرى، التي بدأت تمرُّ بذات المرحلةِ، رفض المتقدمين لخطبتها تباعاً.

قضت (نجوى) ليلة الأمس، حتى قارب الوقتُ من الفجرِ، وهي تروي لأختها، تجاربَها الفاشلةَ في الحب، والأفشل في الارتباط، حتى أمست على ما هي عليه اليوم، من ذريع الفشل، وكبير الألم. بيد أن السهرة انتهت فاشلةً هي الأخرى، فقد أصرت الأخت الصغيرة (أمل) على رأيها الصامدِ: (لا زواجَ... خيرٌ من زواجٍ فاشلٍ.). هو ذاته الشعار، الذي رفعته (نجوى) قبل عقد من الزمن، وتمنت لو أنها كانت أكثر نضجاً، وأوسع عقلاً ساعتها، لتعلن أن: (أفشلَ رجلٍ خيرٌ من العيشِ بلا رجلٍ.).

أعجبتها حكمة أختها (أمل) في الحب، حين قالت لها في نهاية السهرة المجدبة:

  أتدرين كيف أتعامل مع الحبِ يا (نجوى)؟ سأحكي لك حكمة شرقيةً، لثلاثة ملوكٍ تحدّثوا مع عندليبٍ حزينٍ. إذ قال له الأول: "إن لم تغرّد؛ فسأقتلك"، وقال له الثاني: "إن لم تغرّد؛ فسأجبرك على ذلك"، وأما الملكُ الأخير، فقد قال للعندليب: "إن لم تغرّد؛ فسأنتظرك حتى تغرّد!". وأنا أقول للحب، وفق ما يراه الملك الثالث: "إن لم تأتِ؛ فسأنتظرك حتى تأتي!".

تركت هذه الحكمةُ أثراً لطيفاً في قلب (نجوى)، التي تنتظر منذ زمنٍ بعيدٍ، فقبّلت أختها الصغرى من جبينها، وتمنت لها أحلاماً سعيدةً.

- صباحُ الخيرِ يا آنستي.

لم تنتبه (نجوى) إلى الرجل الشاخص بجانب المنضدة، بانتظامٍ، وكأنه جندي بين يدي آمرهِ، متى دخل؟ وكيف مرَّ خلال الغرفةِ الطويلةِ، من دون أن تشعر به؟ ليقف بقامتِه المتوسطةِ، وهندامِه المرتبِ، وشاربيه الرفيعين، اللذين يتوجان شفتين ممتلئتين نشوةً، وكرشِه الصغيرةِ المتدلية بشهوةٍ، فوق الحزام المشدود بعمقٍ حول خصره، وهو يحاول لفت نظر محدثيه، إلى المحبس الفضي حول خنصره، ذي الخرزة الزرقاء، الذي لا يبرح يفركه ببصمة إبهامه الأيسر، وكأنه يستدعي عفريتاً، لينجز له مَهمة ما!

- أهلاً... صباحُ الخير.

ظنت (نجوى) أولَ الأمر أنه مراجعٌ، يبغي ملفاً خاصاً، لاستكمال أوراق قضيةٍ ما. فقد اعتادت على أن يراجعها أشخاصٌ قلائلُ كل صباحٍ. لكنها لم تعتد على مراجعٍ مهندمٍ كهذا، فراحت تخاطبه باحترامٍ:
  تفضل يا سيدي... كيف أخدمك؟

ابتسم وهو يقول، بعد أن أشار إلى إبريق الشاي:

- بأن تعدي قدحاً من الشاي، لزميلك الجديد.
- زميلي؟!

تساءلت مستغربةً، لا تبارحها الابتسامةُ. فمد يده ليصافحها، معرفاً عن نفسه:

- (ربيع عبد الكريم)، الموظف المستخدمُ، لمدة شهرٍ في قسم الأرشيف.

كانت كفه تنبض بالحياةِ والرجولةِ المفعمة الطاغية، حين التفّتْ كعاشق ولهٍ حول كفها الصغيرة، الأشبهِ بأنثى مشتاقةٍ لحبٍ صادق، مذ خُلِقت. هل استندت أختها الصغرى (أمل) إلى معلوماتٍ دقيقةٍ، حين قالت لها ذات سهرةٍ، إن اليدَ الممتلئةَ العريضةَ، تدلل على تمتع صاحبها بالكرمِ والعاطفة. فكرت (نجوى): (أظنها كانت على حق، برغم أنني عارضتها حينئذٍ بشدةٍ.).

طالت فترة المصافحة، حتى بانت كحلمٍ جميلٍ رقيق، تخشى عليه (نجوى) من يقظة تفضُّه، حتى أنها لم تترك أصابعَهُ المنتهيةَ بمحبسٍ فضيٍ ناعمِ الملمسِ، وهي تشير إلى الكرسي المقابل، وتقول:

  تفضل بالجلوس، يا سيد (ربيع).

أو ربما هو الذي تمسّك بأنوثتها المتهاوية، ليسندها كرجلٍ مهذب، خبير في فن النساء.

علقت الابتسامةُ على شفتيه، وشاربيه الأسودين المتقوسين، بانتظامٍ دقيقٍ مع الابتسامة، حتى ليخال أنه يبتسم وهو يحددهما بالموسى، أمام المرآة؛ ليخرج بهما منضبطين غاية الانضباط، ككل شيء فيه، مرتب من أعلى رأسه، إلى أسفل قدميه. جلستُه، وضعيةُ يديه على فخذيه، التفاتتُه نحوها، موضع القلم في جيبه، حتى ليبدو الرجل، أنه مصاب بـ(رهاب الترتيب)، وهو يمد يده بين الفينة والأخرى، لتعديل ورقة مالت قليلاً فوق المنضدة، أو لترتيب أقلامٍ تبعثرت في قدح زينة مكتبي.

- (ربيع)... اسمٌ جميل.
حاولت (نجوى) أن تبدد غيوم الصمت، التي ضاقت بها سماء الغرفة.
- وهو عزائي، في أيام الصيف اللاهبة، فكلما اشتد الحر كما اليوم، أذكر اسمي ليمنحني الأمل.
قال ذلك، وهو يمسح ببصمة إبهامه الأيسر، خرزة محبسه الزرقاء.
نهضت (نجوى) لتعدَّ الشاي، وهي تقول:
- يبدو أنك ولدت، في موسم الربيع.
قاطعها، وهو يستدير نحوها:
- ليس كذلك... فأنا من مواليد (برج الأسد)، ولدت في أوائل (آب اللهّاب) ويبدو أن أبي وأمي، كانا يحلمان بنسمة طيبةٍ يوم ولادتي، فأطلقا عليّ هذا الاسم، تأملاً.
- جميلٌ أن تكون من (برج الأسد)... مثلي تماماً.
قالت (نجوى) وهي تضمر ابتسامة، تنم عن أملٍ يبرق من بعيد، وأضافت:
- كم تحب، مقدار السكّر؟
- قليلاً.
انسدلت خصلةٌ من شعرها السارح أمام عينها، وهي تلتفت إليه، وتساءلت:
- لمَ؟
- أحب أن لا يفقدني السكر، طعمَ الشاي الذي أبتغيه. أحب أن أتذوق الأشياء على حقيقتها، دونما مواراة، مَثلي في ذلك كمثلي في المرأة، أحبها بماكياج خفيف لأستذوق ملامحها على حقيقتها، مع شيءٍ قليل من التجميل. كما أنني أحب الشاي ناضجاً، وقد تقلّب على نارٍ هادئة، حتى خَبِِرَ الحرارة في طيّاته، مَثلي في ذلك كمَثلي في المرأة، بعمرٍ قد ناهز الأربعين، لأستذوق منها تجارب الحياة.
دغدغت هذه الكلمات، أطلال أنوثة تشرّخت داخل (نجوى)، منذ بضع سنين، وخشيت أن تتشظى أحلامٌ، لا تزال قابلةً للترميم.
راحت (نجوى) تستدرج الحديث، وتطيّب الكلام:
- هل أنت متزوج يا سيد (ربيع).
دوّر المحبس حول خنصره، ومسح الخرزةَ ببصمة إبهامهِ الأيسر، وابتسم قبل أن يحطم الحواجز، ببضع كلماتٍ قاصفات:
- لست متزوجاً، ولا مرتبطاً.
شهقت (نجوى) في جوفها، وكأنها وجدت الرجل، الذي تبحث عنه منذ عصور، الرجل الذي يفهم من النبسة الأولى، الرجل الذي يعلم كيف يضع يده على الجرح؛ ليوقف النزف، دون أن يتسبب في أي ألم، الرجل الذي يعج بالذكورة في أجوافه، ولا يُعلن عن ذلك إلا للامرأة المناسبة.
قدمت له الشاي، وهي تنظر في عينيه، وقالت:
- أرجو أن يكون ناضجاً، ومناسب المذاق.
- يبدو كذلك، من عبقه.
قالها وهو يبتسم بمكر المنتصرين، ويمسك بقدح الشاي، ملامساً أطراف أصابعها. فابتلعت (نجوى) ريقها وشعرت بارتباكٍ شديد، فهي لم تألف جرأة الرجال الناضجين.
كانت ظمئةً لحديث العشق، وكلام الحب، وهمس المجون، لكنها لم تقو على استيعاب جرعة كبيرة دفعة واحدةً، بعد عطشٍ مريرٍ، إثر انقطاع عمرٍ عن آخر علاقة حب، جمعتها برجلٍ، أواخر العشرينيات من عمرها. ولو أنها استمرت على ذات الوتيرة، تستمع لألحان مغريةٍ، يعزفها هذا الرجل، بربيعية خلاّبةٍ، لما ضمنت أن ترتمي بلا تردد بين ذراعيه، اللذين يجيدان لملمة الألم، واحتضان الأطلال.
حاولت جاهدة أن تدير دفة الحوار، حول أحاديث العمل، لكنها كانت تفشل في مقاومة الأمواج العاتية، التي اجتذبتها نحو أعماق الأمل، لتبث في خرائبها، نسائمَ باردةً، توقظ بقايا ربيعٍ، أوشك أن يغادر.
- فيمَ تحدّق؟
سألته وهو يتأمل منذ وقتٍ، في ملامحها.
- في شفتيك المدهشتين؟
ها هو ذا يحسن العزف من جديد، على الوتر المرتخي في قيثارتها، وراح يزيح قدح الشاي جانباً، ليبهرها:
- ما أروعهما في دقتهما، وكأنهما بلا جدلٍ، شفتي الـ(موناليزا).
تسللت إلى شفتيها ابتسامة فرحٍ خجلى، وهي تكتشف أن سر جمالها، في نظر هذا المذواق، يكمن في نقطة ضعفها. وراح هذا الرجل المفرط الجرأةِ، يركز النظر في دائرة الشفتين، وهو يتساءل:
- عجيبة؟!
بالكاد ردت:
- فيم العجب؟
حتى الخطوط الدقيقة، التي تنتشر حول شفتيك، ويسميها بعض الحمقى (تجاعيد)، لا أراها إلا آثارَ رعودٍ دوّت، لتوعد بزخات مطرٍ غزيرة.
تنهدت وهي تعدلّّ من جلستها، بعد أن انتبهت لميلانها المبالغ فيه، نحو الأمام، وقالت:
- هل تكتبُ الشعر؟
رشف رشفةً من قدح الشاي، وعدل من وضعية القلم في جيبه الصدري، وفرك خرزة المحبس ببصمة إبهامه الأيسر، قبل أن يجيب:
- أكتب بعض المحاولاتِ، بين الحين والآخر. فقط... حين تستفزني الحياة.
بمراوغةٍ ذكيةٍ، سألته:
- وهل ستكتب اليوم شيئاً؟
ابتسم وقال:
- أظنني سأكتب مجموعةً شعريةً كاملة... فانتظري.

احتضنت (نجوى) أختها (أمل)، وهي تفتح لها الباب على غير العادة، ودارت بها دورةً كاملةً، الأمر الذي دعا (أمل) لتتساءل، عن سر الفرحة:

- هل من بشرى؟
تنهدت (نجوى)، وطبعت قبلة رقيقة على خد أختها، وقالت بعمق:
- إياكِ أن تستعجلي الحياة... فالربيع قادم لا محالةَ... في أوانهِ المناسب.
لم تزد (أمل) على أن بلجت شفتيها وهزت كتفيها، وهي تغلق الباب.

لم تسع الفرحةُ (نجوى) في اليوم التالي، وهي ترى (ربيع) واقفاً بين يديها، يحمل في يديه ورقةً، كتب عليها كلمات تصف لقاءهما الأول، وقف بقربها، وتساءل بمكرٍ، بعد أن فرك خرزة المحبس:
- هل نمت جيداً، ليلة الأمس.
- إطلاقاً.
- ولا أنا... كانت برغم طولها وأرقها، ليلةً ممتعةً... تمنيت أن لا أقضيها وحيداً.
حملت كلماته الأخيرة بين حروفها، دعوةً صريحة لقوافل الغرام، التي تأهبت منذ الصباح، مقبلة مع (نجوى) صوب المديرية، متلهفة لحادي العيس الذي سيشطُّ لا محالة، في وادٍ من وديان الشبق المنشود.
- هل أقرأ عليكِ؟ فالكل يقول، أن لطريقتي في الأداءِ سحراً خلاّباً؟
تساءلت (نجوى) في قلبها: (وهل بقي موضعٌ فيَّ لسحرٍ ما؟)، ثم هزّت رأسها بإيجاب:
- هات ما عندك... دعني أتلقفُ شيئاً من السحر... لكنني أحذرك، أنني ضعيفة المناعةِ، فهل تتحملُ المسؤولية؟
- اسمعي وعي إذن... فما بين السطور، كلامٌ أكثر مما عليها:
(ليتكِ تعلمينْ...
أنَّ الشفقَ راكدٌ منذ الأزلْ
أدنى... شفتكِ السفلى!
وأنَّ الغسقْ...يحاول دوماً
أنْ يتفلّت من شفتكِ العُليا
دون جدوى!!!
ليتك تدركين...
أنني أنا
وحيدَكِ
الساهرَ كل ليلةٍ
بين الشفق وبين الغسقْ
كلصٍ محترفٍ
أرقب انفراجاً ما في الحياة
لألجَ في تلكمُ الجنةْ
والتهمَ من ثمارها
كلَّ ما تجنيهِ شفتاي
خلال عمرٍ طويلْ).

انفرجت شفتا (نجوى) وهي تحاذي ربيع في وقفته، لتحاكي كلمات القصيدة، باحثةً بين السطور، عمّا ينقّب عنه هذا الرجل الجسور، الذي دكَّ أسوار القلعة كلّها في غزوةٍ عشقٍ واحدةٍ، وبات لا ينشُد إلا سبي أميرة القلعة النائمة، ضارباً كل حراسها عرض الحب. ومن دون أن تدرك وسائل الهجوم المباغت؛ لجهلها فنون الحرب، باغتت أصابع ربيع يدها اليمنى الممتدة باستسلام مخدِّر، لتنساب بفائق ارتخاء، ودونما مقاومةٍ تُذكر، صوب شفتيه، اللتين طبعتا قبلةً هادئةً، على ظاهر الكف.

استدارت، بعد أن عاد إليها شيءٌ من الرشد المتلاشي، وقالت بصوتٍ متحشرج غاص في أعماق عواطفها:
- عفواً.
لكن (ربيع) أدرك، أن الهجمات المتكررة على خصم مستسلمٍ، كفيلةٌ بإيقاعه في شِباك الأسر؛ فأمسكها بقوةٍ من عضدها الأيسر، وقرّب فمه من أذنها اليسرى، وكأنه شنُّ هجماته على جهة القلب، وراح يهمس:
- هل أثّرت فيكِ الكلمات؟
كادت (نجوى) أن تتهالك، وهي تشم رائحة عرقه المهيِّجةِ، الممزوجة بعطر آسر، لولا أن تمالكت نفسها، وقالت:
- إنها رائعة.
شدّها إليه قليلاً، حتى احتّك صدره بصدرها، فسرت في مفاصلها قشعريرةٌ لذيذة، ثم همس بصوتٍ أكثر خفةٍ ورقة:
- وهل أدركت ما بين السطور؟
أغمضت (نجوى) عينيها، وهي تردد بكلمات متقطعةٍ مع أنفاسها اللاهثة الملتهبة:
- أحتاج لمن يشرح لي الدرس؛ لئلا أسيء الفهم.
لم تعِ (نجوى)، بعد أن أسبلت جفنيها، كيف التقم الربيع كل الكلمات. وبالرغم من أنها كانت مسجاةً بين ذراعيه السمراوين، أحست بانفصالها عن الأرض، وتحليقها في الهواء، بينما (ربيع) يرتشف كل ما جمعه فمها من رضابٍ، طوال السنين الماضيات. وراحت هي تمده بمزيد من الحب النابع من أعماقها المسكينة، متشبّثة بهذا الأمل القادم من غياهب القدر.
كانت شفتاه تتقافزان ما بين شفتيها، وتتأرجحان ما بين زاويتي فمها، وكأنه يحاول أن لا يترك ثغرة لخصمه، يستطيع الإفلات منها. أو كأنه يريد أن يسقي كل شبرٍ، من هذه الأرض العطشى.
شعرت (نجوى) أن العمر تراجع إلى الوراء، وأنها عادت ابنة الخامسة عشرة، التي اشتهت أول قبلة حقيقية في حياتها، ولم تنلها إلا الساعة. يا له من حلمٍ عمَّرَ عشرين سنةً مؤلمات.
ساورها الشعور بالندم، وهي تتقلب ما بين شفتيه، وتتأرجح ما بين ذراعيه، لأنها لم يسبق لها أن ذاقت حلاوة الحب، فاختلطت عليها اللذة، بتوبيخ الضمير، وحاولت جاهدة أن تصم السمع، عن نداءات عميقةٍ مؤنبةٍ، نداءات تحاول مسخ الربيع، لتعيد الخريف الذي شاخ في القلب، وأشاخه.
تمنت لو أن (ربيع) لا ينفصل عنها أبداً، لو أن شفاههما ظلت عالقة هكذا إلى الأبد، وأذرعهما متشابكة كخيوطِ عنكبوتٍ يصعب فصلها، ولو أن جسديهما توحدا فصارا جسداً واحداً تموج فيه روحاهما العاشقتان. حتى رائحة العفنِ الملتصقة بالأوراق، المرفوفة على جدران مكتب الأرشيف، بدت وكأنها أريج حديقةٍ غنّاء، مزدانة بالزهر والرياحين.
كحين نتلمس الأرض بطمأنينة بعد توقف الزلزال، أمسكت (نجوى) بطرف المكتب، وتهالكت على الكرسي، وأسندت مرفقيها على حافة مكتبها، الذي رتّبته اليوم على غير عادتها، محاولة إغراء (ربيع)، ومحاكاة أفكاره، في حين لم يكن هو بحاجة إلى أي إغراء.
التقطت أنفاسها الممزوجة بالنشوة، وتذبذبت ملامح وجهها ما بين الفرح الغامر، والقلق على ضياع حفنةِ ماءٍ، تلقفتها بعد ظمأ. تنفست الصُعداء، وقالت:
- ما الذي فعلناه؟
قال (ربيع)، وهو يصفف خصلات شعرها الكستنائي، المنساب كمياه شلال:
- بدأنا، بقراءة الصفحة الأولى.
من دون أن ترفع رأسها، قالت:
- وكم ستستمر القراءة؟
من دون أن يترك خصلات شعرها، أجاب:
- حتى الصفحة الأخيرة، من الحياة.
رفعت رأسها، ورنت إليه بعينٍ دامعةٍ، وقالت برجاء:
- هل ستكون الصفحات كلها، بذات الجمال؟
- كلا... أبداً...
قبلها من جبينها، قبل أن يستدرك:
- كل صفحةٍ، ستكون أجمل من سابقتها.
ابتسمت وتساءلت:
- ما الشيء، الذي يشدُّك أكثر إلي؟
بلا تردد أجابها، وهو يداعب شفتيها، بأنملته:
- شفتاك.
- أحقاً؟ لطالما ظننت أنهما غير جميلتين!
- من أوحى إليكِ بهذه الفكرة؟
- الكثير من الناس، يلفتون انتباهي إلى دقتهما.
- جميعهم حمقى... فهم كحكّام ملكات الجمال، يقيسون الجمال بالمسطرة.
- وبمَ تقيسه أنت؟
- بالحب... أيتها الحبيبة.
ابتسمت وهي تبحر في عينيه، باحثة عن أسرارٍ، يدفنها هذا القادم أكبر من الصيف، وأغمض من الخريف، وأسقى من الشتاء، ليدَّعي أنه محض ربيع.
بدأت أصوات الأقدام تهبط السلم النازل إلى قسم الأرشيف، حيث يؤرشف الحبيبان علاقتهما الجديدة، فابتعد (ربيع) نحو رفوف المكتب، متظاهراً بتنظيم الملفات والأضابير، وأما (نجوى) فقد وقفت منتصبةً؛ لتحيي المدير، الذي دخل مع أحد مرافقيه، ليتفقّد قسم الأرشيف.
- كيف تسير الأمور بينكما؟
سأل المدير، وهو يصافح (نجوى) باحترامٍ، مشيراً إلى (ربيع).
- على أفضل ما يُرام يا سيدي، لقد أحسنت الاختيار.
صافح المدير (ربيع)، وسأله عن أخباره:
- كيف الحال يا صديقي؟
ابتسم (ربيع)، وهزَّ رأسه، وأجاب:
- كما توقعت.
شد المدير على يده، وأوصاه بغموض:
- امض قدماً أيها الربيع.

همّت (نجوى) بإعداد الشاي بعد مغادرة المدير، وتساءلت باستغراب:
- لم خاطبك بصفة (صديق)، يا (ربيع)؟
- لأننا كنا أصدقاءَ طفولةٍ، فخدمه حظه وذكاؤه أكثر مني، حتى غدا مديري.
- غريبة... لم تخبرني بذلك!
اقترب منها، وهي تضع أوراق الشاي في الإبريق، وهمس:
- وهل دار بيننا من حديثٍ، سوى حديث الحب أيتها الشهية.
دفعته برفقٍ، محذرة:
- انتبه... فالوقت لم يعد ملائماً... سيفد المراجعون بعد دقائق. عد إلى عملك، ريثما يجهز شرابك المفضّل.
قبّلها من خدها، وعاد يرتب الأضابير التي لم تألف تنظيماً، مُذ رُكنت على الرفوف.

مرت الأيام سراعاً على عادتها، حين تطوي تحت إبطها فرحاً ما، وانقضى شهر الحب بطرفة عين، وليته دام سنةً، أو عقداً، أو حتى قرناً، لتنعم هذه البائسةُ التي لم تفكر بما ستحمله النهايةُ، من عطشٍ بعد ارتواء. لم تتساءل (نجوى) إلامَ ستؤول الأمور بعد شهرٍ، فكل ما كان يهمها خلال هذا العمر الجميل، الذي مر، هو ما تَلقُمه وتُلقِمه من حب ربيعي أخّاذ.
كان الرجل خبيراً في المداعبة، أو لعلها هي المبتدئة، التي ترى كل ضربة فرشاة، فناً أصيلاً، وكل قبلةٍ عميقة حباً معتّقاً. وبرغم هذا لم يكن (ربيع) يخلو من رعودٍ مدوّية، فرجولته تفوح من مساماته، وتنبعث من أنفاسه، ولطالما قطع القبلةَ في أوج استعارها، ليعتذر مغادراً مكتب الأرشيف، مردداً:
- لم أعد احتمل.
تلحقه قهقهاتُ (نجوى)، وفرحتُها الدفينة، في أنها لا زالت تحتفظ بأنوثةٍ، قادرة على إبهار الرجال، وسحق صبرهم.
أفرحتها عبارته ذات قبلة، حين أكَّد لها:
  في عمرك هذا، تمرين في ريعان الأنوثة... صدقيني... كل الرجال يتشبثون بالمرأة في أي عمرٍ تكون فيه، بيد أنهم لا يتذوّقون طعم أنوثتها، إلا حين تكون قد ناهزت الثلاثين.

وحين سألته:
- لماذا الثلاثين، تحديداً؟
أجاب، وهو يرتشف الرضاب من زاوية فمها:
- لأن حساءَها، سيكون قد نضج!
أي رجلٍ هذا الذي ألقى به القدر أمامها، ما بين نزوةٍ وأخرى؟ أين كان قبل أن يتقدّم بها العمر؟ لمَ لمْ تلتقِ به ولو على سبيل المصادفة في أروقة المديرية؟ أي حظٍ هذا الذي يتلاعب بها، لينقلها من عذابٍ إلى عذاب، ويقذف بها على قارعة الطريق، بانتظار عابرِ حبٍ، يرأف بحالها.
ها هو ذا أقبل مبتسماً كنسمةٍ ربيعية أخيرة، تسحب خلفها جحافل صيف هاجم، إنه يومه الأخير في الأرشيف، الذي غدا منمقاً، على أروع ما يكون، فقد وردها بالأمس أمراً إدارياً لإنهاء استخدام (ربيع عبد الكريم) والتحاقه بمكتبه الأصل.
ها هو يتقدم نحوها، وهو يحمل بيمناه منديلاً حريرياً أخضر، ليقدمه لها كهدية ذكرى، ولعله علِمَ من حيث خِبْرته، أنها ستمسي بأمس الحاجة إلى منديل؛ كي تجفف أحزانها التي ستلي مغادرته.
منديل أخضر، سيذكرها دوماًَ بالربيع الذي مرَّ بحياتها مبتسماً، وغادرها مبتسماً، ولم يترك وراءه أكثر من شظايا أنوثةٍ، فجّرها حين اقترب منها بقلبٍ مفخخ بالحب.
- سأبتكر طريقةً ما، لنلتق يومياً، سأجد المكان والوقت المناسبين... لا تقلقي، ما عليكِ إلا أن تنتظري بضعة أيامٍ.
بهذه الكلمات، خدّر ثورة الألم المعتملة في جوارح (نجوى)، يوم فراقهما. وأول تلك الجوارح المتأججة كانت شفتاها اللتان تعطّشتا إلى قبلة، كأسير متعطشٍ لأحضان وطن، وأي أسيرٍ وأيُّ وطن؟! أسير ذاق أصناف العذاب من أجل الحب، ووطن منح مواطنه كل ألوان الحب، من أجل الحب!

*******

مرت ثلاثة شهور دون أن تبرق في سماء الفراق، بارقة أملٍ واحدةٍ، تلمّح بعودة. فلا هاتف، ولا رسالة، ولا حتى إيحاءٍ روحاني ما. ثلاثة شهور تقدم في بدايتها السيد المدير، طالباً يد (نجوى) للزواج به. فأجلت الرد، آملة بعودة (ربيع) ذات صباح. لكنه تأخر، فخشيت أن يكون السيد المدير، آخر عربات القطار، التي ستجني من بعد مغادرتها الألم الأخير؛ فوافقت على الزواج به، واحتفظت بالمنديل الأخضر، طوال أيامها التاليات، حتى جاء اليوم الذي اكتشفت فيه، أن الربيع هو أخدع الفصول على الإطلاق، إذ يخفي تحت مناديله الخضر، أغصانه المتجعدة، وعمره الخائب. تذكرت قراءتها ذات عمرٍ لـ(رجاء النقّاش)، يوم كتب ما معناه؛ أن الخريف هو أصدق الفصول، حيث يتجرّد أمام الناظر على حقيقته المحضة، بلا مخادعة. لكننا موهومون معشر البشر بالمظاهر، مولعون بها أكثر من الجواهر، ولا نلمس خيبة ما نحن فيه، إلا بعد سقوط المناديل عن الأيادي!
سقط المنديل الذي كانت (نجوى) حريصة على الإمساك به كل لحظة، حتى حين تكون في سرير الزوجية، لتوهم ذاتها بقرب الحب منها دائماً. سقط المنديل... حين ناولها زوجها مساءً، مجلة جلبها من إحدى المكتبات، وهو يقول:
- أتذكرين السيد (ربيع)، الذي عمل معك في الأرشيف، قبل سنتين.
تظاهرت (نجوى) بالنسيان، وافتعلت التذكر دون جدوى، في الوقت الذي كانت تمسك فيه بالمنديل بقوةٍ، متشبثةً به، معتذرةً منه عن النكران الظاهري، مؤكدةً له الذكرى العميقة:
- بالكاد أذكره... لقد نسيتُ ملامحه.
رد زوجها، وهو ينزع السترة ويلقيها على السرير، ليذكرها بتنظيم ألفته ذات ربيع:
- عموماً... فالسيد (ربيع) هو في الأصل صديقي القديم (نامق الحسيني)، وهو رئيس تحرير المجلة، التي بين يديك.
لم تستوعب (نجوى) ما قاله زوجها أول الأمر، فراحت تفرد بذهولٍ صفحات المجلة، بابتسامة كاذبةٍ، حتى عثرت على صورته التي لم تغادر مخيلتها ولو للحظة، فقالت بمكر:
- أهذا هو؟
نظر زوجها، وهو يلقي بربطة العنق على الأرض، وقال:
- نعم... هو.
سقطت دمعة من عينيها، مع سقوط القميص على الكرسي، وراحت الذكريات تمر كغيومٍ ربيعيةٍ كاذبةٍ في قلبها، وكأنها تغادرها إلى غير رجعة.
وقف زوجها، أمامها وقال:
- كان (ربيع)، الكذبة التي ربطت بيننا إلى الأبد.
رمشت (نجوى) عينيها بسرعةٍ، لتحاول تشتيت الدمعة الفاضحة، قبل أن ترفع رأسها، وتستمع إلى الحقيقة:
- حين أردت الارتباط بك، تحتم عليَّ أن أختبرك، كونك امرأةً غريبةً عني. ولأنني أجهل التعامل مع النساء، استعنت بصديقي المخلص (نامق)، أو (ربيع) لا فرق... ليختبر لي مدى إخلاصك لسمعتك، التي تهمني للارتباط بك.
- وبعد...
- عاد إلي (نامق) بعد شهر، وهو يتأفف، ويقول، (في حياتي، لم تعص عليَّ امرأة أكثر من ثلاثة أيام، أما الآنسة (نجوى) هذه، فأؤكد لك، أنها ستغلبني ولو بعد ثلاث سنين... هذه الإمراة تمتنع حتى عن مصافحتي... تزوجها يا صديقي، وتوكل على الله).
- ثمَّ...
- ثمَّ تقدّمت لطلب يدك على الفور، لئلا تضيع من يدي الفرصة. وشكرت صديقي، على ما قام به من دورٍ رائعٍ.
مد زوجها يده موحياً ببداية الحفل الأسبوعي، فاليوم هو الخميس الذي سيعجُّ بالمشاعر، حتى ساعة متأخرة من الحب. نهضت (نجوى) منهارةً متهالكةً مرتخيةَ الأعصاب، فسقط المنديل من يدها لأول مرة.
تقدّمت نحو أحضان الزوجية الدافئة الرتيبة، ومن دون تدبير، داست على المنديل، الذي بدا أصفر اللون في عينيها، بينما كانت تغرق في ربيعها الأخضر الدائم.

بقلم:علي غدير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى